اعترافات “سوسيوباث” 2

يمكنك  قراءة الجزء الأول من هنا

لماذا تعتبر ممارسة القانون على أرض المحكمة جنَّةَ “السوسيوباث”

أدّت نرجسية أبي به إلى أن يحبني لإنجازاتي، بحُكمِ أن هذه الإنجازات انعكست عليه وبدت شبيهةً بإنجازاته؛ إلا أنّ نرجسيته جعلته يكرهني لأنني لم أنخدع بتصوره عن ذاته،وهو الأمر الوحيد الذي اكترث أبي به. أعتقد أنني قمت بمعظم الأشياء التي قام بها -من لعب البيسبول والانضمام لفرقة موسيقية والالتحاق بكلية الحقوق- لأجعله يدرك أنني أفضل منه، أحببت الحصول على العلامات العالية في المدرسة لأن ذلك يعني أنني أستطيع القيام بما أريد دون أن أُحاسَب أو أُعاقَب، على خلاف غيري من الطلبة.

ففي صغري، كنت أُجازف ببذل أدنى مجهودي لأرى إن كنت أستطيع الحصول على أعلى تقدير رغم ذلك، وهذه المجازفة هي ما كانت تشعل الحماسة في روحي، وهذا هو الحال في مسيرتي كمحامية؛ إذ كان الطلاب يجهشون في البكاء من التوتر خلال تقديمنا لامتحان نقابة المحامين التابع لولاية كاليفورنيا، لدرجة أنّ مركز المؤتمرات الذي قدمنا فيه الامتحان بدا كمركز الإغاثة من الكوارث، وكان الطلاب يحاولون باستماتةٍ تذكر كل ما حفظوه من معلومات خلال الأسابيع الثمانية الماضية، بينما قضيت هذه الأسابيع في رحلة استجماميةٍ في المكسيك، ورغم أنّني لم أكن مستعدةً لتقديم الاختبارات حسب العديد من المعايير، إلا أنني تمكنت من المحافظة على هدوئي وتركيزي اللازمين للاستفادة للحد الأقصى من حجم المعرفة التي امتلكتها، وبذلك نجحت أنا بينما رسب الآخرون.

وبغض النظر عن تكاسلي وعدم اكتراثي، إلا أنني كنت محامية بارعة عندما أبذل جهدي؛ إذ عمِلت كمدعيةٍ عامة في دائرة الجُنح التابعة لِمكتب المدعي العام خلال إحدى مراحل حياتي. إنّ السمات المُميّزة للاعتلال الاجتماعي جعلت مني محامية محاكمات ممتازة؛ فأنا لا أرضخ تحت وطأة الضغط النفسي الشديد، ولا أشعر بالذنب أو الندم، وهذه صفة عملية عند العمل في وظيفةٍ دنيئة كهذه. فغالبًا ما يتعين على المدعِي الذي يعمل في مجال الجُنح أن يدخل قاعة المحكمة ويقنع القاضي بقضيته في قضايا لم يسبق له العمل عليها، فكل ما يتمكن الواحد منا من فعله في المواقف المشابهة هو التظاهر بامتلاك بعض المعلومات لينخدع الطرف الآخر بها ومن ثم نتمنى أن نتمكن من الإفلات بالكذبة وكسب القضية، وما يميزنا كـ “سوسيوباثيين” عن غيرنا هو أننا لا نشعر بالخوف، كما أنّ طبيعة الجريمة لا تهمني من الناحية الأخلاقية إطلاقًا، فأنا مهتمةٌ بالفوز في اللعبة القانونية.

وعندما عملت في إحدى شركات المحاماة، تم تعينني للعمل لدى محامية -في السنة الخامسة أو السادسة من تدريبها- تُدعى جاين في إحدى المكاتب التابعة للشركة، لذلك كنت أقابلها مرة واحدة كل بضعة أسابيع، ويفترض على المرء العامل في مكاتب المحاماة أن يُعامِل المحامي الذي أنهى معظم فترة تدريبه وكأنه السلطة المطلقة، وقد اتبعت جاين التسلسل الهرمي الوظيفي بحذافيره، إلا أنه كان من الواضح أنها لم تتمتع بالسُلطة المشابِهة في أيٍّ من المجالات الاجتماعية، فبشرتها الشاحبة التي أكل منها الدهر وشرب ونظامها الغذائي الرديء واعتناؤها المتوسط بنظافتها الشخصية دلّت على أنها تعيش حياتها بعيدًا عن نخبة المجتمع، إذ كانت تريد أن ترتدي رداء القوة والسيطرة، لكنها كانت خرقاء في التعامل مع السلطة الممنوحة لها، فَكانت تستخدمها بإفراط في بعض المواقف، وأحيانًا أخرى كان من السهل التأثير عليها وهزيمتها، مثّلت جاين مزيجًا ممتعًا من السُلطة والتشكيك بالذات.

إعلان

لم أكن المساعدة القانونية المفضلة لديها، وظنت جاين أنني لا أستحق الإنجازات التي حققتُها، إذ أنها كانت تولي اهتمامًا كبيرًا لارتداء الملابس الرسمية المناسبة للعمل، بينما كنت أرتدي  ملابس غير رسمية -كالصنادل وقمصان تي شيرت- كلما سنحت لي الفرصة، وفي حين أنها أصدرت فواتير تثبت عملها لساعات طويلة جدًا، قمت باستغلال سياسةً غير قائمة منحت من خلالها نفسي حق أخذ إجازات طويلة، إذ كنت أُمدد عطلة نهاية الأسبوع إلى ثلاثة أيام وآخذ عطلاتٍ تمتد لأسابيع. تصادفنا في المصعد في إحدى المرات، وكان في المصعد رجلان وسيمان طوال القامة يعملان في شركة رأس المال الاستثماري الموجودة في العمارة التي نعمل فيها، وكان من الواضح أنهما استلما علاوات بقيمة ملايين الدولارات وأنهما وصلا إلى العمل في سيارات مازيراتي المركونة في الطابق السفلي على الدوام.

كان الرجلان يناقشان حفلة سيمفونية حضراها البارحة، والتي حضرتها كذلك رغم أنني لا أذهب عادةً لحضور السيمفونيات، وبذلك سألتُهُما عنها ببساطة، أضاءت الحماسة وجهيهما وقال أحدهما:من حسن حظنا أنّنا التقينا بِكِ! ربما يمكنك حل الخلاف القائم بيننا، يظن صديقي أنّ السيمفونية التي سمعناها البارحة هي كونشيرتو البيانو الثانية للمؤلف الروسي سيرجي رخمانينوف، إلا أنني أعتقد أنها الثالثة“، أجبتهما أنها الثانية، لم تكن الإجابة الصحيحة أمرًا هامًا على أيّة حال، شكرني الرجلان وخرجا من المصعد، وتركاني بذلك وحيدةً برفقة جاين لنصعد إلى مكتبها في حالةٍ من الصمت التامّ؛ وهو ما مكّنها من التفكير مليًّا بأبعاد تفوقي الاجتماعي والفكري عليها.

كانت عصبية المزاج ومتوترة عندما وصلنا إلى مكتبها حيث كان المفترض أن نناقش مشروع العمل، إلا أننا تحدثنا عن اختياراتها منذ أن كانت في الثامنة عشر من عمرها، وعن مخاوفها وانعدام شعورها بالأمان النفسي فيما يتعلق بعملها وشكل جسدها، وعن أنها تنجذب للنساء رغم ارتباطها برَجُل، عرفت بعد الموقف هذا أنّها كلما رأتني فإن قلبها سيرتعش خوفًا من نقاط ضعفها السرية التي كشفتها لي بنفسها، وستراودها أفكار بذيئة وفاحشة عني[1]، أُدرِكُ أنني -ولفترة طويلة- ترددت على أحلامها كالأشباح.

وفضلاً عن أنّ لامتلاك السلطة مكافأة من نوع خاص، استخدمت نفوذي القائم في ديناميكية العلاقة بيننا للحصول على إجازة مدفوعة الأجر لمدة ثلاثة أسابيع، بحجة أنّني اشتُبه أنني مصابة بالسرطان وبأنني أحتاج أن أتلقى العلاج في عيادة خارجية، وهذه الإجازة هي شكل آخر من أشكال المكافأة.

ثلاثية حب من ابتكاري

يروق لي أن أتصور أنني “دمّرت البعض” أو أغويت شخصًا ما لدرجة أنه أصبح مِلْكِي بلا رجعة، واعدت شخصًا يسمى كاس لفترةٍ من الزمن، لكنني لم أعد أهتم به في نهاية المطاف، إلا أنّه لم يفقد اهتمامه بي، لذلك حاولت أن أستفيد منه بطرقٍ أُخرى. ذهبنا في إحدى الأمسيات إلى حفلةٍ قابلنا فيها لوسي، كانت لوسي مُذهلة، لا سيما لأنها تشبهني، مما أشعل رغبتي بتدميرها. لذلك عادلت المسألة في دماغي؛ لوسي مفتونةٌ بِكاس، وكاس مفتونٌ بي، إذن فأنا أسيطر على لوسي، ثم وحسب توجيهاتي، بدأ كاس سعيه لإنشاء علاقة مع لوسي، كما واكتشفت كل ما يمكنني اكتشافه عن لوسي عن طريق أصدقائها الذين أخبروني بهذه المعلومات عن حسن نيّة: ولدت لوسي في اليوم ذاته الذي وُلِدتُ به وبفارق ساعات معدودة، نحب الأشياء ذاتها ونكره الأشياء ذاتها، وتتواصل كلتانا مع الغير بشكلٍ شبه رسمي وبذهن شارد.

كنت أرى أنّها تمثلُ الأنا البديلة من ذاتي، وخلال مدة مواعدة لوسي وكاس، أبقيتُ على وجود كاس في حياتي كعشيق ينتظر على كرسي الاحتياط، إذ كنت أحثه على تحديد مواعيد لملاقاة لوسي ومن ثم أدفعه إلى إلغائها مقابل البقاء معي، كان كاس يعلم أنني أستغله للتلاعب بِلوسي، ولكن عندما استيقظ ضميره أنهيت العلاقة التي بيننا، ثم انتظرت حتى أمسى مهتمًا كل الاهتمام بِلوسي -انتظرت حتى عَلَت آمالُها بخصوص العلاقة بينهما- وعندها اتصلت به مجددًا وأخبرته أنّه من المقدر لنا أن نكون معًا، لم أكن أعني ما قلته، إذ كنت أختبره فحسب، كما وزادت لوسي الطين بِلّة بنفسها، إذ لم تكن تُبقِي على خصوصية أمورها الشخصية، خاصةً من أشباهي ممن قد يستخدمون تلك المعلومات لأذيتها، كما وكان أصدقاؤها يظنون أنني هي عندما يرونني وذلك لأن الشبه بيننا كبير، كان الوضع مثاليًا للغاية، كان ولعي العميق بِلوسي هو ما أبقى الموضوع مُشوقًا وممتعًا؛ إذ رغبت أن أكون صديقتها إلى حدٍّ ما، كان التفكير باحتمالية صداقتنا يشعل نار الحماس بين أضلعي، ولكن عندما زاد الموضوع عن حده، أخذت أتجنبها، كما وجعلت كاس يُنهي علاقته بها للأبد.

ما الخطأ الذي ارتكبته بحقّ لوسي على أرض الواقع؟ لم أفعل شيئًا يضرّها، هي من لفتت انتباه فتىً وقبّلته وأُعجِبت به، قابَلَتهُ بضع مرات في الأسبوع، وفي بعض المرات كانت تقابله برفقة صديقته المزعجة والمخيفة، وبعد مُضِيّ بعض الوقت لم تنجح علاقتهما. النهاية. إذ لم أدمّر شيئًا يخصها ولم أُلحِق الضرر بها، فهي الآن متزوجة وتعمل في وظيفة جيّدة، أسوأ ما قمت به هو الترويج لقصةِ حبٍّ آمنت لوسي أنها تنطوي على حبٍّ خالص، إذ خططت وبكل طاقاتي لِحدوث علاقة الحب هذه بحيث تحطم قلبها، أعلم أنّ قلبي أقسى من قلوب معظم البشر وأشد سوادًا منها، ولربما هذا ما يدفعني لتحطيم قلوبهم.

ما هي حقيقة الشر؟

 كنيسة يسوع المسيح لقديسي الأيام الأخيرة هي الحلم الذي يسحر عقل “السوسيوباثيين”؛ إذ يؤمن المورمونيون -أتباع العقيدة المورمونية- أنّ الجميع يمكنه الاتصاف بصفات ربّانية، وأعتقد أنّ هذا يشملني. فكلُّ إنسانٍ قادرٌ على الخلاص من الخطيئة ومن سلطتها عليه؛ فأفعالي هي الجانب الهام منّي، أما أفكاري العنيفة ودوافعي الشائنة فليست بالأمر الهام، وترى هذه الكنيسة أنّ الجميع آثِم، وبذلك لم أشعر مطلقًا أنني غير طبيعية.

وعندما ذهبت إلى جامعة بريغام يونغ -حيث كانت ثقة طلابها بالغير أكثر من ثقة الفرد المورموني العادي- وجدتُ فرصًا لا تعد ولا تحصى للاحتيال على الغير، إذ سرقت من قسم المفقودات؛ فكنت أدّعي أنني فقدت كتابًا ثم آخذ الكتاب الذي “وجدته” وأبيعه لمتجر الكتب، كما وكنت أسرق الدراجة المُلقاة في نفس المكان لأيام التي لم يُؤمنها صاحبها بوضع قفلٍ عليها، فالشخص الذي يجد غرضًا ما يحق له الاحتفاظ به، ولكنني إنسانة خيٍّرة من الناحية العملية؛ إذ اشتريت منزلًا لأقرب أصدقائي، ووهبت أخي 10,000 دولار، ويعتبرني الطلاب أستاذًا متعاونًا، كما وأُحب عائلتي وأصدقائي، إلا أنّ الأمور التي تحفز أو تُقيّد الأشخاص الخيّرين لا تؤثر عليّ بتاتًا.

لا أعني بكلامي هذا أنه لا ينبغي عليك القلق بشأن “السوسيوباثيين”، فحقيقة أنني عالية الأداء وأنني لست عنيفة لا تعني أنّ العالم خالٍ من “السوسيوباثيين” الأغبياء والخطرين ممن يعبرون عن مشاعرهم وأفكارهم دون كبحها أو السيطرة عليها، إذ أحاول شخصيًا أن أتجنب هؤلاء الأشخاص، ففي نهاية المطاف لا يعطي “السوسيوباثي” أمثاله من “السوسيوباثيبن” تصاريح تُجنّبُهم التعرض للتحرش والمضايقات من قِبله.

لم يسبق لي أن ذبحت أحدهم، رغم أنني تخيلت قيامي بذلك عدة مرات، ولكن هنالك سؤال لا يفارق بالي: ماذا لو أنني تربيت على يدي عائلةٍ أكثر عنفًا وإساءة؟ هل كان من الممكن أن أصبح قاتلة إثر ذلك؟ فالأفراد الذين يرتكبون الجرائم الشنيعة -بما في ذلك “السوسيوباث” أو “الإمباث[2]” على حدٍ سواء- ليسوا محطمين أكثر من غيرهم، ولكنهم لا يمتلكون في حياتهم شخصًا أو شيئًا يخشون فقدانه، ومن السهل عليّ أن أتصور نسخة عن نفسي على هيئة فتاة في السادسة عشر من عمرها، مكبّلة اليدين وترتدي بذلة السجن البرتقالية، ما لم يكن في حياتي شخص أحبه أو هدف أسعى لتحقيقه، لربما كان ذلك سيحدث لي في ظل تلك الظروف.

نرشح لك: التعاطف مشكلةً أخلاقية

[1] قمت بترجمة معنى الجملة ولم أنقلها بحذافيرها نظرًا لأن الترجمة الحرفية تخالف مبادئنا المجتمعية والدينية

[2] "الإمباث" هو من لديه قدرة خارقة على الإحساس بمشاعر الآخرين وإدراك ما يختلج صدورهم

إعلان

مصدر المقال باللغة الانجليزية
فريق الإعداد

تدقيق لغوي: سلمى الحبشي

ترجمة: راما ياسين المقوسي

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا