التواضع والضعف.. وجهان آخران للنرجسية

    الشاعر أوفيد في أحد أهم أعماله metamorphoses أو “التحولات” كتب لنا أسطورة نرسيس وهي إحدى أهم الأساطير في الميثولوجيا الإغريقية، وتحكي في أبسط صيغها الكثيرة عن نرسيس، ذلك الفتى الوسيم الذي عشق صورته المنعكسة على السطح الرائق، واستمر هكذا متعذبًا بعشق ذاتي مستحيل حتى ذوى جسده ومات فتحول إلى زهرة سُميت على اسمه، نرسيس أو نرجس. ومن تلك الأسطورة التي برع الكتاب والمؤرخون والتشكيليون في تشريحها وتصويرها، انبثقت نظريات نفسية كثيرة للتدليل على أحد أهم أسرار النفس البشرية؛ وهي العشق المرضي للذات أو ما أطلق عليه “النرجسية”.

    أوفيد

    تناول فرويد الشخصية النرجسية ضمن العديد من المواضيع التي تناولها في حياته العلمية، الشخصية النرجسية معتمدة على الذات الدنيا (الهو) التي لا تحكم بالقوانين والمنطق المعقول ولا تمتلك فلسفة أخلاقية.

    وفي الحقيقة بعض علامات النرجسية تعتبر بشكل ما واضحة لا تحتاج لعين متخصصة تدركها. فمن السهل التعرف على الشخص النرجسي. فسنجد حاجته للإطراء كحاجة جهنم، يسألونها: “هل امتلأتِ؟” فتقول: “هل من مزيد؟”
    من منّا لم يتعامل مع شخص كل علاقته بنا استغلالية؛ يريد أن يستعمل الآخرين لتحقيق مآربه الخاصة! أو من منا لم يستمع لقريب أو صديق يعظم من حجم إنجازاته وهي في الحقيقة لا شيء! حتى أنه يطالبك بالثناء على هكذا أفعال بشكل دائم مع لغة جسده المتعجرفة، واعتقاد أنه الخبير في كل شيء. بجانب الأنانية المفرطة فهو لا يعبأ بالآخرين ولا يتعاطف مع أحد. فهو متمركز حول ذاته.. ذاته هي عالمه. فهو يفتقر للاتصال مع العالم الخارجي وكل ما ليس له علاقة بواقعه لا يهمه.

    ويعتبر “هشام” بطل فيلم “زوجة رجل مهم” مثالًا واضحًا على الشخص المصاب باضطراب الشخصية النرجسية narcissistic personality disorder. “هشام” يعمل ضابط شرطة يملك سمات رجل شرقي مميز. في بداية علاقته وتعارفه على”منى”، يبدو ودودًا ولطيفًا. ويبهرها بقوته، وثقته، وكاريزمته المثيرة التي يفرضها على المحيطين ويتحكم من خلالها في كل شيء. يهتم بالتفاصيل التي لا يراها أحد؛ لكنها تكتشف حقيقته بعد الزواج.

    ويصور لنا الفيلم بالتدريج سمات النرجسية التي يعاني منها. تكتشف منى أنه غير سوي ويستخدم سلطته لتحقيق مآرب شخصية، ويحول من حوله لعبيد تحت أمرته ويمارس عليهم ساديته وغروره سواء مجرمين أو غير مجرمين ويحرمها من كل المتع واستكمال تعليمها، حتى أنه يحرمها من مقابلة أحد الجيران لأنهم على علم بفقدانه عمله، وهو أمر يضرب أناه المتضخمة بشكل مباشر في مقتل وهو ما لا يريد أن يواجهه، أن يكون أمام فشله وجهًا لوجه.

    تسير العلاقة بين هشام ومنى بشكل جيد في البداية فقط لأن نمط منى السلبي يجذب نمط هشام المتحكم، والعكس. بالطبع، تذمرت الضحية – أي منى- له مرارًا وتكرارًا من أسلوبه معها لنراه يبدع بإعطائها وعظات حول توقعاته عنها وحُقَنْ التخدير بأن السبب هو طبيعة عمله لكنها شعرت في نهاية المطاف بأنها قطعة أثاث في حياة زوجها، لا يشعر بمعاناتها ولا يأبه مطالبها ولا ينظر لها بأن لها احاسيس ومشاعر إطلاقًا حتى أنه لا يتعاطف معها- وهو ما يعتبر عرض أساسي في شخصية النرجسي- يتجلى ذلك عندما تحزن على وفاة عبد الحليم حافظ بينما هو ينظر لها نظرة ساخرة وغير عابئة. مع تكرار المشاحنات بينهم تكتمل الصورة حول هذا الزواج الغير متزن بأن منى عبارة عن غرض جنسي في حياة هشام كامرأة و ملاذ لحياته العاطفية، و على صعيد اجتماعي هي عبارة عن كُبْري يأخذها معه ليستطيع من خلالها التقرب من العائلات ذات النفوذ و التي ستقدم له الدعم المهني. “أنا كل يوم بكبر وبفهم وبيروح الانبهار وبتبان الحقيقة.”

    فرويدوعلى الرغم من أن تلك العلامات هي الأشهر؛ مثل الغرور، واللهث وراء الشهرة والنفوذ والاستغلال والسطحية، إلا أنه من الخطأ أن نفترض أن جميع النرجسيين على نفس الشاكلة!
    يقول الطبيب النفسي كريغ مالكين – وهو المحاضر في كلية الطب بهارفارد ومؤلف كتاب إعادة التفكير بالنرجسية rethinking narcissism-: “إنك إذا ركزت على الصورة النمطية ستفقد الإشارات الحمراء التي لا علاقة لها بالغرور والجشع. يمكن أن يكونوا من النوع الطائفي يكرسون حياتهم لمساعدة الآخرين وتكون تصريحاتهم عن أنهم الشخص الأكثر مساعدة للآخرين. وستجد التواضع واللطف الزائد سمة من سماتهم الظاهرة!”

    ويوضح أيضًا أن هناك وجهًا آخر للنرجسية. ويطلق على أصحابها “النرجسيون الضعفاء”. أعتقد أننا نراهم كثيرًا ولكن لا ندرك ما وراء تصرفاتهم. جميعنا لدينا هذا الصديق الأكثر حساسية في المجموعة الذي لا يقبل النقد ويتفاعل بضعف معه. ويمكن أن يصل إلى حد البكاء والغضب. وأيضًا النسوة اللاتي ينشرن صورهن على الشبكة العنكبوتية ناعتات أنفسهن بأقبح الصفات الشكلية مثلًا أنهن أبشع النساء، وينتظرن حتى يرد أو يعقّب عليهن أحد الأصدقاء بأنهن جميلات ورائعات! هي أيضًا نرجسية ضعيفة. تلك صور غير نمطية للنرجسية لا يشعر بها أكثرنا.

    لو توقفنا لملاحظة السلوك البشري حتى وإن كانت تلك الملاحظة من منظور ضيق للمحيطين بنا سنجد أن جميعنا نحمل جوهرًا نرجسيًا بشكل أو بآخر.

    إذًا، هل النرجسية أمر طبيعي في الجنس البشري؟ أم أنها صفة مرضية بغيضة؟

    يرسم لنا فرويد مخططًا ليجيب على شيء من هذا السؤال سنعرض خلاصته في هذا المقطع: “يبقى الجنين في الرحم يحيا في حالة نرجسيّة مطلقة.”
    ويقول فرويد: “بولادتنا، نكون قد اتخذنا الخطوة الأولى من نرجسية مكتفية بذاتها تمامًا إلى إدراك العالم الخارجي المتغيّر وبدء اكتشاف الأشياء.” ويستغرق الأمر شهورًا قبل تمكن الجنين من وعي الأشياء التي تقع خارجه كما هي، وكونها جزءًا مما “ليس أنا”. وتلقى نرجسيته العديد من الضربات وتزايد اطلاعه على العالم الخارجي وقوانينه –وبداعي الضرورة- يُطّور الإنسان نرجسيّته الأصلية إلى “حب الأشياء”. ولكن يقول فرويد: “يبقى الكائن البشري نرجسيًّا إلى حد ما حتى بعد اكتشافه للموضوعات الخارجية لليبيده (دافعه الجنسي).

    وفي الواقع يمكن تعريف تطور الفرد وفقًا لفرويد باعتباره تطورًا من النرجسية المطلقة إلى القدرة على الحب الموضوعي والفهم الموضوعي، وهي قدرة لا تتجاوز حدودًا معينة.والشخص “الناضج” الطبيعي هو شخص تناقصت نرجسيته إلى الحد الأدنى المقبول اجتماعيًا بدون اختفائها تمامًا.”
    ومن المثير أن الغضب يمكن أن نستخدمه كمقياس كيفي لنرجسية الشخص. فعندما يتواجد نزاع بين شخصين وينتج عنه غضب يكون كلٌّ من الأشخاص المتنازعة متمركزًا حول ذاته ومهتمًا باحتياجاته النفسية فقط! وكلما زادت حدة الصراع زاد التعبير عن مقدار النرجسية الكامن فينا. وسيكون تطبيق ذلك على الأزواج ذا نتائج واضحة عند محاولة تصالح الأطراف ووضع الشروط عن شعورهم بالغضب.

    حب الذات هو دافعهم الأقوى للنجاح، لماذا؟

    النرجسي يتوق ويشغف بتحقيق العظمة والنجاح. قد يفعل أي شيء ليحصل على هالة العظمة ويحقق ذلك بالفعل لأنه يرى في ذاته أنه الأصلح للقيام بأي نشاط. وعندما يفشل ويحدث شرخ في نرجسيته وتنهار أناه يتفاعل مع الواقع عن طريق الاكتئاب، بالطبع أي شخص سويّ عندما يفشل في فعل شيء ما يشعر بالإحباط أو يدخل في نوبة اكتئاب، ولكن النرجسي لا يتقبل أن يكون بطل ذلك المشهد.

    فيبدأ من جديد وبقوة أكبر حتى يصل لما يريد. إما عن طريق محاولة اكتساب تأييد وإجماع الآخرين -ويعتبر هتلر مثالًا على ذلك- ليجعل الواقع المحيط به يتناسب معه ومع أفكاره وإما عن طريق زيادة نرجسيته وتعظيمه لقدراته. يقول بروميلمان “يشعر النرجسيون بالتفوق على الآخرين، لكنهم ليسوا بالضرورة راضين عن أنفسهم كأشخاص!” وهذا بالضبط ما يحركهم وما يجعلهم لا يشعرون بالارتياح.. وعدم الرضا هو ما يحرك الإنسان منذ بدء الخليقة يحركه ليغير وضعه ومكانته وطريقة عيشه، أو حتى طريقة تفاعله مع من حوله. فإن ما يميز النرجسيين عن الآخرين هو الشعور غير المستقر بالذات فهم يناضلون لإثبات عكس ذلك.

    النرجسية ليست بهذا السوء، إذا أدرك الشخص المصاب بهذا الاضطراب ما يعاني منه -أو يعاني منه الآخرون بسببه- سيتم مساعدته لاستخدام تلك الأعراض بشكل آخر يضمن له وللمحيطين به شيء من التوازن والتفاعل الجيد. رغم أن ذلك صعبٌ في الحقيقة؛ فلا يوجد نرجسي يذهب للطبيب أو المعالج النفسي و يقول له: “أشعر أنني أعاني من النرجسية، أو إنني شخص نرجسي”. في رأي ماكلين أن القليل من النرجسية مطلوب، يمكن اعتبارها كوقود يسمح لنا بالمخاطرة أو البدء في فعل شيء مهم، مثل طلب الخروج مع شخص يعجبنا، تقديم أنفسنا للحاق بمهنة ما مثلًا. لكن الكثير منها يسبب المشاكل وسخط المحيطين.

    “نرسيس ليس جميلًا كما ظنّ..
    لكنّ صنّاعه ورّطوه بمرآته
    فأطال تأمّله
    في الهواء المقطر بالماء..”

    فمن ورّط كل هؤلاء النرجسيين حولنا؟

    إعلان

فريق الإعداد

إعداد: مي المغربي

تدقيق لغوي: أبرار وهدان

تدقيق علمي: نهال أسامة

الصورة: مي الصاوي

اترك تعليقا