الرواقيون: نظرتهم واستجابتهم للحزن
قال سينيكا: “من الأفضل أنْ تتغلب على أحزانك بدلًا من أنْ تتحايل عليها، فإذا استطعت خداع تلك اللّحظات الطِوال بانغماسك وانشغالك في الملذّات والمُلهِيات، ستعود من جديد للإيقاع بك. لكن الحزن الذي يتحكّم به العقل يظل مستكينًا إلى الأبد، ولذلك لن أوصي بطرقِ العلاج التي يختارها الكثير من الناس، مثل أن تذهب في رحلة طويلة أو ممتعة للخارج، أو أن تقضي الكثير من الوقت في المرور عبر حساباتك وإدارة أعمالك، أو ألّا تسمح للفراغ بالتسلل إليك. قد تفي هذه الأشياء بالغرض لفترة قصيرة، كونها لا تعالج الحزن بل تعرقله، ولكنني أفضّل أن أقتلعه من جذوره بدلًا من أن أشتت انتباهه”.
لقد تكرر ذِكر الموت في النصوص الرواقية التقليدية، كونه حتميَّ الحدوث في الحياة البشرية؛ فالناس الذين نحبهم والذين نحتاج إليهم والذين لا نعرفهم يموتون، وفي نهاية المطاف سنموت أيضًا. ولهذا السبب كان الرواقيون رائدون في العادة القديمة المتمثلة في تذكر معدلات الوفيات (تذكرة الموت) واستخدامها كأداة وبوصلة لتوجيه أنفسهم. لقد أبقوا الموت نُصب أعينهم، بلا إغفال أو تهميش لمحدودية الوقت الذي نملكه على هذه الأرض.
وفي هذا الصدد عمد إبيكتس إلى القول بأن الأمر يشبه أن تُقبّل طفلك قبل وضعه في سريره ليلًا متصورًا شكل الحياة في الصباح دونه؛ لأن هذا ممكن الحدوث، ولأنه للأسف يحدث كثيرًا. والواقع أن افتقارنا التام إلى الجاهزية لهذه الحقيقة أو إيماننا بها، هو الذي يجعل مثل هذه الفواجع أشد إيلامًا.
أراد الرواقيون التغلب على خوفهم من فكرة الموت، وتوظيفها بطريقة تحثهم على العمل والإنجاز، والتعامل معها بموضوعية إذ أنه حدث طبيعي سوف نواجهه جميعًا. وكما كتب سينيكا في رسالة التعزية الذي بعثها إلى مارسيا بعد أن فقدت ابنها:
لقد دخلنا مملكة الحظ المعروفة بقسوة حُكمها وبأنها لا تُقهَر، وفي كنفها سنتكبد معاناة نستحقها وأخرى لا نستحقها.
كان سينيكا ينوّه لفكرةٍ خطيرةٍ ولكنها غير مؤكَدة؛ بأن الناس من حولنا سوف يموتون، وبعد ذلك سيلحق بهم الأذى. إن الأسئلة التي طرحها الرواقيون هي كيف يمكن فهم حقيقة الموت وكيف يمكن التعامل معها، كيف يتعامل المرء مع الحزن الطبيعي الذي قد تستثيره الخسارة؟
غالبًا ما يوصَف الرواقيون بأنهم يسعون لكبح جماح عواطفهم وقمعها، إلا أن فلسفتهم تهدف في الواقع إلى تعليمنا مواجهة العواطف ومعالجتها والتعامل معها على الفور بدلاً من الهروب منها، محاوِلًا خداع نفسك أو خداع عواطف جياشة كالحزن من خلال إخبار نفسك والآخرين أنك بخير، غير أن الوعي بتلك المشاعر وفهمها أفضل. قد تكون تسلية النفس وإلهاؤها مفيدة على المدى القريب، كأن تشغل نفسك بالذهاب إلى ألعاب المصارعة كما فعل الرومان، على سبيل المثال، لكن التركيز أفضل على المدى البعيد.
مما سبق يتبين لنا أن ما عليك الآن إلا أن تواجه مشاعرك بمعالجتها وتحليلها. اخفض سقف توقعاتك، ولا تنتظر استحقاقًا أو مدحًا من أحد، ولا تعِش دور الضحية بين مجموعة جلادين. حاول البحث عن الجانب الإيجابي والمشرق من أي حدث، وتصالح مع الألم وتقبّله، وتذكر دائمًا أنه جزء من الحياة، هكذا فقط يقهر المرء الحزن. ثم في كل الأحوال، يحثك الرواقيون المتفائلون دائمًا على البحث عن النتائج الإيجابية من الموقف.
نرشح لك: فنُّ العيش: الفلسفة في زمن الكورونا
وكما قال سينيكا: “هل كان لديك أثمن من هذا الصديق؟ خلال سنوات عديدة ووسط مثل هذه العلاقات الوثيقة وبعد مثل هذه الشراكة الحميمة للمصالح الشخصية، ألم تكسب شيئًا؟ هل تُدفن الصداقة مع صديق؟ ولماذا ترثي فقده إذا كان وجوده غير مجدٍ؟ جزء كبير من أولئك الذين أحببناهم على الرغم من أن الصدفة قد أزالتهم، لا يزالون عالقين بنا. الماضي ملكنا وليس هناك ما هو أكثر أمانا بالنسبة لنا مما كان عليه” .
نصائح سينيكا العملية
من بين النصائح العملية الأخرى التي يقدمها سينيكا دعوةُ أصدقائك وعائلتك إلى الثناء على الشخص الذي فقدته ومشاركتك ذكرياتكما معًا. إن أغلب الناس لن يعرفوا كيف يتصرفون في وجودك في حال جاء ذكر الشخص المعني، وسوف يظلون عادةً صامتين. هذا هو السبب الذي دعا سينيكا لدعوة الأم الحزينة في رسالة تعزيته إلى أن “ترحب بالحديث الذي يذكر فيه ابنها أو أفعاله، وأن تظل تردد اسمه وتستذكره”
ويطلب منا سينيكا أن نسترجع ونعتز بذكرياتنا ويخبرنا “بتذكرتلك الصورة النهائية للحظ”. الماضي لنا ويمكننا أن ننظر إليه ممتنين للحظات قضيناها معًا إذ أننا محظوظون لمشاركتها وعيشها. وكما كتب، “إذا اعترفت بأنك استمتعت بأشياء كثيرة، فإن واجبك ليس الشكوى من ما تم انتزاعه، بل أن تكون شاكراً لما قُدِّم ومُنِح لك”.
نرشح لك: هل كان ماركوس أوريليوس رواقيًا غليظًا؟
واقتداءً بماركوس أوريليوس الذي يبدأ مداواة نفسه بقائمة من الأشخاص يعبر عن امتنانه لهم وللدروس التي تعلمها من علاقته معهم، يمكنك البدء الآن وفعل الشيء ذاته قبل أن تفقدهم. إنها واحدة من أفضل الطرق التي يمكنك من خلالها تكريم شخص ما؛ أن تمنحه شعور عميق بالامتنان لكونه جزءًا من حياتك، فضلًا عن الاستفادة من العِبر التي تعلمتَها في علاقتك معهم للوصول لأفضل نسخة من نفسك.
وفي الختام، تذكر أنك لست وحدك في أي من هذا. كمت يقول سينيكا: “من يذهب لقول أنها ليست ضربة قوية؟ إن الشعور بقوتها جزءًا من كونك إنسانًا”، ويشير إلى أمثلة عن رجال ونساء عظيمين تغلبوا على الشدائد، ويؤكد في قوله على مدى صعوبة العثور على عائلات لم توجه أي حوادث كارثية. لذا تذكر، إذا كان هذا يخفف من وطئة شعورك بالألم؛ فأنت لست وحدك، نحن جميعا في هذا معًا.