قصّـــــة قصــيرة: رخاميات
في إحدى القرى المتفرعة عن قلب المدينة، توجد عائلة البخاري، والذين لا يَمتُّون بصلة للبخاريّ، لكن طالما روى الأب لابنه يوسف ذو الأحد عشر عامًا عن ذاك الجد الجليل المتدين الواعظ، الذي ظل الناس ينادونه “يا إمام” ثم تطور الأمر ل “يا سيدنا البخاري أفتِ لنا في أمرنا” حتى تناسى أهل القرية اسمه، ولم يكن له سند يُعرف منه، فأخذ نسله من بعده هذا الاسم إرغامًا لا رغبةً، لكنها طالما كانت قصة فخر واعتزاز، فقبر هذا الجد مقام يتوافد علىه الزوار.
بالإضافة لتلك الشهرة غير منقطعة النظير للعائلة، كانوا الأكثر شهرة في الإقليم في مجال تصنيع الرخام. ويظهر هذا جليًّا عند زيارتك مقام الجد البخاري. فهو كما شهد له الجميع، أجمل صُنعٍ رخاميّ قد تراه عين. فالأحجار مُختارة بدقة والصناعة دقيقة. وبناءً على كل هذه المعطيات في عائلة واحدة، تَوجَّب على يوسف، الطفل غير المعنيِّ بكل هذا التاريخ، أن يعمل عمل أجداده.
كانت واجبات يوسف محدودة، أقرها أبوه وعمّه من شهوره الأولى في رحم أمه. يستيقظ لإقامة صلاة الفجر، ينتظر ليحضر دروس أبيه الدينية في نفس المسجد، يتناول الإفطار مع خمسة عشر فرد من العائلة، ويشرُع في العمل، والذي كان بشكلٍ واضح شيء بسيط للغاية، فأبوه -أو عمه أحيانًا- يركب دراجته النارية، ويضع ألواح الرخام الطويلة الجاهزة للتوصيل لأحدهم خلفه موازيةً لظهره، ولا وظيفة لسيف إلا في رأسه، أن يقبع أعلى رأسه في وسط اللوح حتى يثبته، ثم يحتضنه كي لا ينحرف.
منذ أن أتمَّ السادسة، وهذه هي مهنته اليومية، وأضف لذلك، أنه يعود للمنزل، يتناول الغداء مع ذات الخمسة عشر فردًا، ويظل حتى النوم لا ينطق إلا جملة واحدة:
“رأسي! يا أمي.. لا أريد أن أحمي هذا الشيء برأسي ثانية! رأسي!”
وينوح ويصيح، ولا أحد يجيب. فيخلد في سباته حتى يومه التالي، ليبدأ نفس القصة.
كان الجزء المميز من حياة هذا الطفل هو لحظة تسليم الألواح لأصحابها. حيث يري جمال العالم كما لم يراه قط، يري المنازل والغرف كما لم يُخيِّل له أنها قد تكون. يشعر بخجل لعفرات التراب التي تملأ ثوبه من تلك المباني الطرازية الفخمة، كان يشعر أنه أقذر من تلك الحشرات التي لا تتواجد حتى في تلك البيوت كما حسب.
كان يستمتع باختلاس النظرات في تفاصيل تلك الطبقة سواء أهلها أو بيوتها، ويسترجع تفاصيل بيته، خمسة طوابق متراصة يعيش بها أبوه وأعمامه وأعمام أعمامه، ولكثرة تنقلهم من شقة لأخرى تشعر أنك نسيت لمن هي في الأساس. مما كان يجعله في كل لحظة يتأمل في كل هذا، يتسائل، إن كان هذا حقًا بيته ووطنه الذي يفترض أن يحن إليه، ماذا إن كان يحيا هنا؟ لم يستطع الإجابة يومًا على تلك التساؤلات، فسرعان ما كان يتبعها صفعات أبيه وصيحاته: “إبقَ شارد الذهن هكذا حتى تكسر ربع إنش من الرخام، فأكسر أنا رقبتك!” فيفيق من أعماق ذهنه الصغير ويعود لمساعدته.
وفي إحدى تلك المرات اللامتناهية، كان صاحب البيت المعنيّ رجلٌ ذو شأن، كاتب مشهور يدعى مُنصف، ويُدرِّس الأدب في أحد أكبر الجامعات في العالم، ويستقرُّ في أرض الوطن منذ ما يقارب الشهرين.
كان يوسف شاردًا كعادته، منتظرًا لصفعات أبيه على رأسه أن تأتِ لتنهي هذا ويقترب اليوم من النهاية، لكن هذه المرة اقترب منه السيد منصف، انحنى له ثم قال:
“مرحبًا أيها البطل الصغير، كيف حالك؟”
لم يكن معتادًا أن يسأله أحدهم مثل تلك الأسئلة، لم يكن حتى يعرف ما حاله، ولماذا قد يكون بطلًا..
“بخير والحمد لله.” ردّ بفتور كما كان يسمع أبيه يرد بها على الناس.
داعب شعر الفتى الصغير بابتسامة توحي بالعطف، نظر مباشرة في عينيه وسأله:
“في أي سنة أنت؟”
“سنة ماذا؟”
“سنتك الدراسية؟ الصف السادس تقريباً؟”
“لا لا، لم أذهب لأي مدارس، أعمل مع أبي منذ كنت في السادسة.”
اعتدل منصف، وبدا على وجهه علامات البأس، والتي لم يفهم سببها يوسف.
نظر الأب لابنه نظرة خفية توحي بغضبه. فسارع وقال:
“سيدي.. هل.. قلت شيئًا.. شيئًا غير مناسب؟”
“لا لا، ليس هذا ما أحزنني يا صغيري.” قالها وهو يزفر الهواء في ضيق. ثم تابع بصوت أهدى:
“تعلّم، الكل يجب أن يتعلم شيئًا ما، هذا حقك في الحياة، وهذه النزعة الوحيدة التي قد تجعل من البشريِّ إنسانًا. ليس اللوم عليك.. لكن إن ساعدتني، فسأقنع والدك أنك يجب أن ترتاد مدرسة ما.”
كانت الكلمات مبعثرة في عقل الصبي، تفهمها، لكنها ظلت مبعثرة، كل باله مشغولًا في نطاق آخر، يرسم صورًا له وهو يرتدي ثيابه المنمّقة في غرفته ذات الطلّة البهية، والرخام الفخم يغطي المكان بالطبع، حتى في الأماكن غير اللازم لها، يتجه نحو مدرسته حاملًا كثيرًا من الكتب الثقيلة، يدرس وينهم على العلم، وعندما ينتهي اليوم الدراسي يقمع في المكتبة حتى بزوغ القمر، فيراقبه مُسيِّرًا إلى بيته، ليجد عشاءً مميزًا جهزته أمه له خصيصًا، و…
لم يكمل رحلته حتى اليوم الثاني، فبالطبع كان لايزال يريد تغيير أحداث كل يوم حتى يخاف هذا الواقع الممل الرتيب..
قاطعه السيد منصف ثانية:
“ماذا قلت أيها البطل؟”
وافق يوسف، آملًا في أن يتحول هذا السراب في عقله لعالمٍ يلامسه يومًا.
ذهب السيد منصف للأب، أخذه خارج المنزل حتى لا يسمع الصبي الحوار، لكنه راقبهم من الشرفة دونًا عن ذلك.. كان النقاش حادًّا، وكان أبوه حازمًا شديد الغضب، وكان السيد منصف يقلل من روعه، ويحاول استنباط الحلول.
دخلا.. وكان الصبي منتظرًا خبرًا مفرحًا هنا، حتى جزع أباه ذراعه ملقيًا بالصبي ناحية الباب.
“سنذهب من هنا، آسفين يا أستاذ.. لن نكمل عملنا هنا، يمكنك أن ترى عمالًا آخرين أو أي شخص يتمُّ لك العمل. هيا يا يوسف!!”
كانت هذه أقسى الكلمات التي وقعت على آذان الصبي، كان أبوه غاضبًا ثائرًا، وكان هو منهمرًا في البكاء، لم يعلم سبب بكائه، لكنه شعر ولأول مرة بألمٍ ما أشد من ألم رأسه كل ليلة، لم يستطع تحديد موقعه، أو سببه، فانهمر في البكاء.
وعندما وصلا إلى البيت، كان العم منتظرًا متعجبًا لحال الوالد، وعندما أخبره، نادى العم الصبي، وقال له في نبرة توحي بالجدية:
“اسمع، ليس كل الناس يتفهمون مكانة عائلتنا، نحن نتعلم، لكن علوم معينة، وهي علوم الدين أولًا، وعلوم الرخام ثانيًا، إن شذ أحد أفرادنا عن هذين العِلمين، سقطت أركان العائلة بالكامل. أنت رجل قوي، يجب أن تعلم جيدًا أنك رجل هذا المكان بأكمله الذي سيَخلُفني أنا وأبوك.. مفهوم؟”
كان الكلام غير مبعثر هذه المرة، لكنه لم يكن مفهومًا، لم يكن إرث العائلة بالكامل مفهومًا له من قبل.
لم يرد، لم يفكر في ذلك حتى، اتجه إلى غرفته تاركًا مائدة الطعام ذات الخمسة عشر فردًا من أفراد إرث عائلته، إلا هو، حاول أن يغرَق في النوم، لكنه لم يستطع، كلما نظر وجد من حوله إخوته الصبية الخمسة، نائمين متراصين في زحام خانق، كلهم أصغر منه سنَا، لم يتسائل أحدٌ منهم قط لماذا هذا الزحام وهناك المزيد من الغرف غير مفهومة الاستخدام، مازالوا يتعلمون العلم الديني حتى الآن، لم يعرفوا عالم الرخاميات بعد، لا أحد فيهم يعرف كلمة “تعليم” في حد ذاتها.
ظلت كلمات السيد منصف تلاحق يوسف، كما لو كانت حروفها منقوشة على جدرانه العتيقة.
في الصباح، وبعد صلاة الفجر.. لم ينضم كذلك لإفطار الخمسة عشر هؤلاء، واتجه لغرفة والده، يبحث عن المال والذي أخذ منه القليل، وعن أوراق تسليم الرخام للسيد منصف، ليعرف منها العنوان. وقد كان.
استقل الحافلة التي لم يستقلها من قبل، في الحقيقة، استقل أكثر من خمس حافلات.. حتى قاربت أن تختفي وجهته. لم يكن قد رأى الطرقات من قبل، فرأسه المستند عليها لوحٌ من الرخام لم تسمح له برؤية العالم من قبل، لكنه عندما وصل لأحد الشوارع، تذكر بكائه فيها.. وهو مغادر لبيت السيد منصف.. فاتجه في اتجاهه.
وجد البيت بما كان يبدو له أعجوبة ما، ظل يحوم حوله، خائفًا أن يطرق الباب، فتتحطم أحد أحلامه على عتبته مرة أخرى، فقد تمثل الحزن والألم في لُبّ هذا الباب.
استرق الأنظار من أحد النوافذ، حيث وجد السيد منصف يقرأ أحد الكتب بصوت مرتفع، لشخص ما لم يكن يراه بوضوح، شب قليلًا ليرَ فتاة في نفس سنه، شعرها ذهبي يكاد يكون مسروقًا من باطن الشمس، تستمع لقراءة السيد منصف في شغف. لمح السيد منصف رأس الصبي.. نادى عليه “أنت! هناك! تعال إلى هنا!” قفز يوسف وسارع في الجري في أحد الشوارع المجاورة، التي أدت به إلى أحد مزارع القمح، انبثر فيها محاولًا التملص والهروب والتخفي.. كان منصف سريعًا جدًا، تبعه إلى هناك وهو يصيح ليوقفه ولكن بلا جدوى.. دخل الحقول الذهبية خلفه، ناداه بصوت عذب هذه المرة:
“يوسف؟ أعلم أنه أنت، لقد رأيتك، تعال أيها البطل الصغير، لا تخفْ، لن أؤذيك.”
سمعه يوسف، لكنه مازال خائفًاً، بالطبع زال حزن هذا الباب، لكنه يخاف أن يعود لأبيه مرة أخرى إن ذهب مع الرجل، ويخاف ألا يفعل فيتوه للأبد.
ظهر أمامه في هدوء وثبات، نظر في عينيه مباشرة نظرة ثابتة، قال له في حزن:
“أرجوك، لا أريد أن أعود إلى البيت.. أريد أن أتعلم، أريد حياةً تشبه خاصتك!”
سقط منصف على ركبتيه، كما لو كان قد تلقى طلقةً في صدره.. ضم الصبي إليه كما لو أنه يضمد جرحه. كانت اللحظة خالية من أي تعابير أو كلمات، لكنها كانت مليئة بالعواطف.
عندما عاد الصبي مع الكاتب إلى منزله، كانت الفتاة ذات الشعر الشمسي في استقبالهم. قال لها منصف:
“رحبي يا ماريا بضيفنا، يوسف البخاري، أخبرتك عن أول لقاء لي معه، وها هو الثاني.”
ظل اسم ماريا يتردد على آذان الصبي مرارًا دون توقف…
رحبت به ماريا، بانحناء لطيف بسحب أطراف ردائها الأبيض.
شاركهم مجلسهم، تحدثوا إليه كثيرًا، حتى حل الليل تقريبًا، لكنه كان شاردًا في هذا الجدار المكون من الكتب المتراصة ورائهم. لم يرَ شيئًا كذلك من قبل، كما أنه لم يتفهم لماذا قد يحتاج أحدهم لكل هذا القدر من الكتب.
قاطع كلماتهم وضحكاتهم التي لم ينتبه لنصفها قائلاً:
“سيدي، أيًا يكن، أريد أن أكون معك، أريد أن أتعلم، لن يمثل غيابي فارقًا في عائلتي، لكن غيابي عنهم معك سيمثل فارقًا لي، أرجوك، حتى إن أجبرتني على العودة، لم يعد من الممكن أن أعود بعد الآن سيكون تفسير ما فعلت مستحيلًا. فالطف بي.”
كان وقع كلمات الصبي حادًا على السيد مُنصف. آلمه شعور طفل كهذا بكل هذا الألم، قرر أنه سيتبناه حتى يَشبَّ ويكون قادرًاً على مواجهة العالم.
على الجانب الآخر، لم يلحظ أحد غياب يوسف عن الإفطار. يصعب ملاحظة غياب القشة المحنية الأطرف في كومة القش. لكن عندما حان موعد رحلته مع أبيه المعتادة. اجتاح القلق قلب الأب، بحث عنه في غرفته آملًا أنه قد غفا لبضع ساعات ليس إلا، بحث عنه في كل أرجاء القرية، لم يجد شيئًا، وفي لمح البصر اجتاح الصراخ والبكاء المنزل، كان مأتمًا لم يتم الإعداد له. ظلت الأم التي لم تهتم لأمر ابنها يومًا تجوب الشوارع والحواري تبحث عن أثر لصغيرها.. وظل الأب والعم اللذان قاربا أن يحطما جمجة الصبي، ينادون باسمه في كل صوب ويسألون عنه كل كفيف ومبصر.. ولكن، بلا جدوى.
كان الصبي يشعر في قرارة نفسه أنه أصبح شيئًا من رخاميات أبيه، أصبح صلبًا، هاربًا، لكن حرًا، كما لو أنه بقايا الرخام الهشة التي كان يجمعها أبيه، وها هو قد صنع منها ما هو أصلب.
قضى أيامه في ذلك المنزل يتعلم، عندما تعلم قراءة أول كلماته كان يشعر كمن يملك الأرض بما فيها، وعندما قرأ أول كتاب، كان كالإسكندر ناقمًا غاضبًا من عدم قدرته على امتلاك كل شيء. توالت الأيام وهو يتبادل العلم والضحك والمتعة مع منصف وماريا. التحق بالمدرسة مع ماريا، مما جعله يظن حقًا أنه قد يمتلك الأرض يومًا ما.
مضت خمس سنوات، تغيّر كل شيء، إلا أحلامه، فظل كل ليلة يرى الباب الذي جُزع ذراعه أمامه وأغلق في وجهه، يرى أبيه غاضبًا، ويرى أمه حزينة، كانت تلك الهواجس تثير نيرانًا في صدره، حتى ينتهي حلمه بصوت خافت يطفءُ نيرانه: “رحبي يا ماريا بضيفنا، يوسف البخاري، أخبرتك عن أول لقاء لي معه، وها هو…”