الدوائر العصبية والسلوكيات الموروثة: الجينات والسلوك

دومًا ما نتساءل عن دور الجينات في سلوك البشر، وعن ما إذا كان لها دور سلوكي عصبي غير دورها البايولوجي الحيوي.

إنَّ هذا الباب يعد أحد أهم أبواب علم الأعصاب السلوكي، والجواب هنا أنَّ للجينات دور أساسي في سلوكياتنا فتبدأ القصة أثناء التطور الجنيني حيث تتولَّى الجينات تطوُّر الدماغ الجنيني، وتكون المسؤولة أيضًا عن تطوّر كتلته العصبية الخام أي من دون أيّ خرائط أو مسارات عصبية، وتمنحه الجينات بنيته العامة وتربط بين الأعصاب البصرية والسمعية والشمية في مراكزها بالدماغ، وتعطي الدماغ شكله العام ولكنه يكون خالٍ من أيِّ خرائط ومسارات عصبية تتشكَّل عبر اتصال الخلايا العصبية ببعضها البعض.

وتكون الجينات مسؤولة كذلك عن تحديد حجم الدماغ وعن عدد الخلايا العصبية فيه وقدرتها على البقاء، إلى جانب قدرتها على تشكيل وصلات عصبية (مدى مرونة الدماغ)، وهي المسؤولة عن تطوّر مناطق الدماغ المختلفة وتباينها، بمعنى أنَّك إن ولدت وكان فصَّاك الجداريين كبيرين نسبيًا فهذا يعني أنَّك ستكون موهوباً جينيًا بالرياضيات والبرمجة ولكن بشرط جوهري أساسي (إذا توفَّرت لك البيئة لذلك).

إذن الجينات هي ما تحدِّد الملامح العامة لدماغك وبالتالي شخصيتك وتعطيه القالب العام، ولكن في هذه المرحلة يكون دماغك فارغ من أيِّ معانٍ أو خبرات.

وتحدِّد الجينات كذلك نسبة ذكائك رغم أنَّه لا يوجد تعريف موَّحد للذكاء، ولكن يمكن الاقتراب من معناه الحقيقي على أساس أنَّه قدرة دماغك على تشكيل وصلات عصبية بين مناطق مختلفة فيه، فكلَّما زادت التشعُّبات ازداد قدرة دماغك على تحليل المعلومات التي تسري عبر هذه الوصلات وربطها ببعضها البعض، وبالتالي الحصول على أجوبة وصور ورسم سيناريوهات.. الخ.

 

إعلان

بالطبع قدرة الخلايا العصبية على تشكيل وصلات يمكن للإنسان أن يمرنِّها خلال فترة حياته بالتفكير والإطلاع والبحث المستمر في مواضيع مختلفة، غير أنَّ هذه القدرات تبقى متفاوتة بحسب جينات كلّ واحد منا، وعلى العكس تمامًا يمكن بِقلَّة استخدام دماغك أن تضعف قدرته على تشكيل تلك الوصلات ولو ولدت بقابليةٍ عالية لذلك.

ما يحدث بعد ذلك، أي بعد الولادة هو أنَّ دماغك سيبدأ باستقبال الإشارات من البيئة الخارجية التي تتحوَّل لنبضات كهربائية داخل الخلايا العصبية التي تقوم بتشكيل خرائط ومسارات عصبية (عبر الوصلات العصبية) للخبرات والمعاني وبالتالي للسلوكيات، وهنا يأتي دور البيئية في ملئ القالب الدماغي الذي صنعته جيناتك في المرحلة الجنينية، فإذا كان لديك قابلية جينية للإقبال على الأعمال الخطرة والمجازات ووجدت في بيئتك مايدعم ذلك، فستجد نفسك مدفوعّا بشدَّة نحو ما سبق ذكره، ونسمع كثيرًا بأنَّ معلومة أو آلة موسيقية أو كتاب غيَّر حياة فلان خاصة إذا كان طفلًا، فأينشتاين كان مولعًا بالموسيقى ولم يكتشف بأنَّ لديه ميول للفيزياء وعالم الأرقام إلَّا عندما وقع بين يديه للصدفة كتاب بالهندسة، والعكس صحيح فقد تولد بقابلية عالية لتكون موسيقيًا محترفًا أو عبقريًا بالفيزياء ولاتجد في بيئتك ما ينبِّهك لهذا (بيئة رثة) فتعيش وتموت وأنت شخص بسيط هامشي لا تدري بنفسك، وهذا حال الكثيرين في المجتمعات الرثَّة.

كذلك الأمر في قابلية إدمان المخدرات والإقبال على الجريمة فحتى مثل هذه السلوكات تؤثِّر فيها جيناتك، صحيح أنَّ للادمان أسباب غير جينية وللجريمة أيضًا فالجينات لا تصنع من فلان عالم رياضيات أو مدمن مخدرات ولا حتى مجرم، ولكنها ترفع نسبة أن يصبح فلان هكذا إذا ما توفَّر له الجو المناسب.

المجرم ليس مجرم بالفطرة -وسأعود لهذا فنقاشه بالغ الأهمية من الناحية السلوكية والأخلاقية- لقد أتى عالم الكيمياء الحيوية نيك لين في كتابه الاختراعات العشر العظيمة للتطور (مترجم) لذِكر (القابلية للجريمة). نحن نفهم مقصده هنا وهو ما نشرحه الآن ولكننا ضد تسمية القابلية للجريمة لأنَّ الحقيقة أنَّه لا يوجد قابلية جينية لارتكاب جريمة قتل بالتحديد، ولكن هناك قابلية جينية للقتال والمجازفة بالنفس وهذا لا يعني الجريمة بالضرورة، بل الرياضات الخطرة والأعمال الهجومية، والقابلية للقتال موجودة عند كل البشر فنحن ورثناها عن أسلاف لابشرية عاشوا بالغابات، ولكن تلك الغريزة القتالية قد تتفاوت من شخص لآخر حسب جيناته، لهذا ستجدوننا بعد قليل تصف هذه الحالة بالقابلية للقتال والمجازفة بالنفس من باب الإنصاف لأبطالٍ حقيقيين حاربوا ضد الجريمة باستخدام نفس الطبيعة ومدفوعين بنفس الغريزة القتالية هذه، وأيضّا كي لا أحد يأتي ويصطاد بالماء العكر ويبرِّر للجرائم والإبادات، كما فعل هتلر بنظرية التطوُّر .

تُعتبَر هولندا من أقل الدول بالعالم في معدَّلات الجريمة وقد أغلِقَت معظم سجونها نتيجة التنمية الإجتماعية والبيئية العالية. ولكن هل الشخص الذي لديه قابلية للقتال والمجازفة بالنفس وكان في مجتمع صحي فإلى ماذا يحتمل أنَّه سيميل؟

تظهِر بعض الدراسات اليوم أنَّ الذين يحترفون ألعابًا عنيفة جدًا (مثل UFC الألعاب القتالية المختلطة) وعندهم ميول شديدة نحو الشرطة والجيش وغيرها من المهن التي تتطلَّب قابلية هجومية وقتالية أو روح قتالية باللغة العامة، لديهم تشابه كبير في بنيتهم العصبية.

وسنستطرد قليلًا في هذا ونشرحه في نقاش الحتميات (هل محتَّم علينا أن نكون ما نكون؟) لأنَّ تسمية (القابلية للجريمة) ليست تسمية دقيقة أبدًا وتُترجم على أنَّها إهانة للذين نجحوا في مجالات هجومية نبيلة بسبب ميولاتهم الجينية (طبعًا هناك من حقَّق انجازات كبيرة في أمرٍ ما وليس شرطًا أن يكون لديه ميول جيني غير أنَّ صاحب الميول الجيني له أفضلية أعلى بكثير بالنجاح في مجاله)، لكن زبدة الحديث الآن أنَّه يمكن للبيئة بإختصار تحويل الشخص من مجرم إلى شرطي فيكون بطلًا في البيئة الصالحة، أما في بيئة رثَّة فقد شهدت رجال شرطة كلمة مجرمين عليهم قليلة. وسنعود لنقاش الحتمية السلوكية قريبًا.

وما يحدث عصبيًا بعد ولادة الطفل هو أنَّ دماغه يبدأ في استقبال الإشارات من البيئة فيقوم الدماغ بتشكيل وصلات عصبية لكل شيئ تقريبًا (تلريونات الخلايا) ويبدأ بملئ القالب الأساسي الذي صنعته جيناتنا وتبدأ المعاني بالتشكُّل إلَّا أنَّه ومع التقدُّم بالعمر والخبرة يحدث كما وصفه جيرالد إيدلمان (الحائز على نوبل عام 1972) بإنتخاب طبيعي للخلايا العصبية ومساراتها التي شكَّلتها وأسماها بالداروينية العصبية، فالأفكار والسلوكيات الأكثر استخدامًا ستعَزَّز وستقوِّي مساراتها العصبية، وتصبح أكثر رسوخاً، أما تلك التي لن نستخدمها مجددا فستموت وتزول.
ولكلٍّ منا شخصيته التي ترسمها بشكل أساسي جيناته فنحن متفاوتو القدرات بشكل كبير وليس كما روَّجت بعض العلوم الزائفة كالبرمجة العصبية.

ما سبق ذكره هو عبارة عن مقدَّمة فقط للسلوك الجيني وسنكمل الآن التساؤل عن إذا ما كانت الجينات تعطي قالبا عامًا وميولات عامةً فقط أم تصنع سلوكيات محددة جدا أيضًا.

هل هناك جينات تؤثِّر في سلوكيات معيَّنة بحد ذاتها؟ وكيف لهذه الجينات أو ما الذي يجعلها تنتج سلوك معيَّن بحدِّ ذاته؟

بالنسبة للسؤال الأوَّل فقد أصبحنا نعرف إجابات حوله، أما الثاني فمازال تحت البحث وسنحاول فكّ شيفراته قريبًا.
قد تلعب الجينات دورًا كبيرًا في توجيه أمور عامة في شخصياتنا فالخجل على سبيل المثال هو صفة عامة وليس سلوك معيَّن بحد ذاته له ارتباطات جينية .
ومثالٌ آخر أدمغتنا عبارة عن آلة كهروكيميائية وأيّ تغيير في كيمياء الدماغ قد يؤدِّي لتغييرات جذريَّة في شخصيتنا وسلوكنا، وكيمياء الدماغ تعني النواقل العصبية التي يفرزها دماغنا وهي مواد كيميائية تتحكَّم في انفعالاتنا وسميت نواقل لأنَّها تتموضع بين الوصلات العصبية بالدماغ في مناطق تدعى بالمشابك لتنقل الإشارات الكهربائية بين الخلايا وهي التي تتحكَّم بانفعالاتنا من خلال نوع كل ناقل.

 

ويفرز دماغنا حوالي خمسين ناقل عصبي أي خمسين مادة كيميائية مختلفة يمكن من خلالها محاكاة انماط سلوكية وشعورية (انفعالية) لاحصر لها، واليوم نحن نعلم أنَّ نسبة تركيز هذه النواقل بالدماغ حيث أنَّ هذه المواد الكيميائية تنتجها أدمغتنا بتراكيز متفاوتة والتي لها تأثير رئيسي في سلوكنا تتدخَّل فيها الجينات بشكل أساسي، أي أنَّ الجينات هي من تتحكَّم بنسبة انتاج كلٍّ منها وبالتالي بانفعالاتنا ويعني ذلك بطبيعة شخصية كل فرد منا.

ذكر مات ريدلي جينًا يدعى D4DR، وهو الجين المسؤول عن كمية تركيز الدوبامين بالدماغ، والدوبامين من أهم النواقل العصبية لدينا حيث أنَّه يتدخَّل في الكثير من العمليات الحيوية والسلوكية ويؤثر بها بشكل مباشر، وانخفاض نسبة الدوبامين يعطينا شخصيات غير قادرة على التحرُّك أو التحكُّم بآليات الحركة بالجسم والإفراط في نقصانه يؤدي لبانكرسون ولحالات الاكتئاب الحاد، وفرط زيادته قد يؤدي للشيزوفرينيا، وهو المادة الكيميائية التي تشعرِك بالنشوة والسعادة الغامرة، وجين D4DR يكون له تكرارات مختلفة من الأحرف منها تكرارات طويلة ومنها قصيرة، من لديهم تكرارات طويلة من هذا الجين يكونون أقَّل استجابة للدوبامين، أما من يمتلكون هذا الجين في نسخه القصيرة يكونون ذو استجابة أعلى، وبالمقارنة وجِد أنَّ من لديهم D4DR طويل يكونون شخيصات اكثر جدية من الذين يحملونه بنسخته القصيرة، وأيضًا اكتُشِف أنَّ أصحاب النسخة الطويلة ذوات الاستجابة الضعيفة للدوبامين يميلون أكثر للمغامرات والمجازفات فتلك الأفعال تحرِّض انتاج الدوبامين بنسبٍ أكبر في الدماغ، أما ذو النسخ القصيرة وهم أصحاب الإستجابة المرتفعة للدوبامين فشخصياتهم ميالة أكثر للهدوء والاستقرار وذلك لأنَّهم يستجيبون للدوبامين من خلال أمور بسيطة.
لقد وُجِد كذلك أنَّ أصحاب الجين الطويل لديهم علاقات جنسية مع أكثر من شريك بشكل ملحوظ أكثر من اصحاب النسخ القصيرة.

إنَّ ذلك لمثال واحد عن كيفية رسم الجينات لسلوكياتنا العامة وشخصياتنا ، ويُعتَقد أنَّ هناك 500 جين يتدخَّل في سلوكياتنا وشخصياتنا. ولكلِّ ناقلٍ عصبي في دماغك مهام واضحة منها ما يجعلك مندفعًا ومنها مايجعلك مستخفًا ومنها ما يجعل منك عدواني الخ.

تؤثِّر الجينات بوضوحٍ في السلوك عند مرحلة المراهقة، صحيحٌ أنَّ المراهقة عبارة عن تحوُّلات فيزيولوجية للجسم ولكنَّ دماغك أيضّا يكون في حالة نمو فبنيتك العصبية لا تكتمل قبل ال21 عام كما أسلفنا سابقًا، ولكن آلية نمو أدمغتنا هذة خاضعة لمعلومات جينية بحتة وتؤثِّر بشكل أساسي في سلوكياتنا ولا يمكن أن تغيِّر في المراهق هذا الدافع الذي لديه لأنَّه باختصار ليس بيده بل هكذا هي طبيعته التي تمليها عليه الجينات، وواحدٌ من الأسباب هو أنَّ المراهقين مندفعين وغير منطقيين في كثيرٍ من الأحيان فمنطقة اللوزتين المسؤولة عن استشعار الخطر والمكافئة في الدماغ تنمو بشكل أسرع من الفص الجبهي المسؤول عن المحاكمة المنطقية في مرحلة المراهقة وهذه النتيجة أو التفاوت بالنمو هو بسبب المعلومات الجينية، هذا بالعموم غير أنَّ نسب نمو هذه المناطق في الدماغ متفاوتة من شخص لآخر، فقد تعثر على مراهقين مندفعين ومنطقيين بنفس الوقت، فالجينات هي من تتكلم هنا.

إذن نسب تراكيز النواقل العصبية أو نسبة استجابتنا لها والتي بالتالي تحدِّد الشكل العام لصفاتنا وشخصياتنا وسلوكياتنا تتحكَّم فيها معلوماتنا الجينية.

إنَّها قضايا مفهومة بشكل جيد الآن، إنَّ صفة المجازفة هي صفة تتحكَّم فيها جيناتنا ولكنها عامة أيضًا أي لا يوجد شكل واحد محدَّد للمجازفة بل هناك عدة سلوكيات قد تعتبر سلوكيات مجازفة -وذلك أيضًا مفهوم- ولكن هل الجينات قادرة على أن تملي علينا سلوك معيَّن بحد ذاته، سلوك وحيد خاص ذو مهمة خاصة؟

يبدو الردّ على ما سبق بالتأكيد، ففي دراسة نُشرِت في مجلة نيتشر عن السلوك في رعاية الأطفال عند الثديات “رابط مجلة نيتشر بالعربية وبالانكليزية مزودة بالصور والفيديوهات“، قام الباحثون باستخدام (الوراثة الكمية) بتحديد 12 منطقة جينومية لرعاية الأطفال التي تعتبر غريزة أساسية في بقاء الثديات، 8 مناطق منها مرتبطة بالجنس مما يعني قابليتها للتطور والتوريث كل على حدى يعني تتطوَّر هذة الجينات عند الذكور الآباء بشكل منفصل عن الأمهات، مما يعطي في أعراف التطور البايولوجي أفضلية أكبر لأنْ تتطوَّر وتنتشر، العجيب أنَّ بعض المناطق تؤثِّر في سلوكيات بحدّ عينها مثل بناء الأعشاش، حيث أنَّ هذه المناطق الجينية مسؤولة عن افراز هرمون يدعى برومسكس الذي بزيادته تتثبَّط الرغبة لبناء الأعشاش ونقصانه يعيدها، وخلصت الدراسة إلى أنَّ البرومسكس يثبِّط بناء الأعشاش دون التأثير في أيّ سلوكيات رعاية أخرى.

في دراسة أخرى نشرِت في نيتشر عن السلوك الجنسي لذبابة الفاكهة التي لديها جين يدعى (فروتلس fruitless) وهو مسؤول عن سلوك المغازلة لدى الذكور. كان هدف الدراسة وضع خريطة عصبية لهذا السلوك (أيّ تحديد المسار العصبي الذي ييتسبب به ، سندرس هذا الجزء القادم) إلَّا أنَّه ليس ذلك ما لفتني بالدراسة بل إنَّ هذا الجين مسؤول عن حركات معيَّنة بالمغازلة تعدّ حركات أساسية لكلِّ ذكور ذبابة الفاكهة والتي تتمثٌَل في التربيت على مؤخرة الأنثى ولعق الأعضاء التناسلية دون امكانية التنبؤ بترتيب هذة الحركات أو وقتها اللازم (أي أنَّ تسلسلها عشوائي).

إذا درسنا في هذا الجزء عن كيف أنَّ للجينات دور أساسي في نمو مناطق دماغنا والتي بدورها وبتفاوتها عن بعضها تغيِّر من شخصياتنا … وكيف أنَّها مسؤولة عن استجابتنا للمواد الكيميائية في دماغنا وبالتالي مسؤولة عن انفعلاتنا وسلوكياتنا التي نميل لها بالعموم، وكيفية تحديدها للقالب العام لشخصياتنا، وتواجد جينات محدَّدة تؤدي حركات مباشرة محدَّدة أيضًا.

كيف يستطيع جين معيَّن الإملاء بسلوك معيَّن بحدِّ ذاته؟

إن كنا سندخل بدراسة أنواع السلوكيات وتصنيفاتها فهذا محيط واسع إلَّا أنَّ سؤالًا بحجم السؤال أعلاه لا يقل حجمًا عنه.

لا يوجد أيّ جواب واضح بعد لكيف يمكن لجين معيَّن أن يملي بسلوكٍ محدَّد، ولكن ما نحن متأكِّدين منه هو امكانية ذلك، وبالتالي أنَّه قابلٌ للوراثة والتطوُّر، وقد ذكرنا تجربة معملية تثبته، ولكن كيف ينتج الدماغ هذا السلوك؟ أو هل هناك مركز للسلوك بالدماغ؟

ينتج ذلك من خلال الدوائر العصبية، حيث لكلّ سلوك لدينا إن كان جينيًا أو مكتسَبًا مسارًا عصبيًا خاصًا به في الدماغ، طبعا هذا التصور مازال بدائيّا فالحقيقة أنَّ ما سبق هو كل تصوراتنا تقريبًا عن الأساس العصبي للسلوك، وعلم الأعصاب السلوكي يحاول دراسة هذا الأساس العصبي للسلوك بشكل أوسع والسؤال الذي يطرح نفسه هو:

إن كان لسلوك ما مسار عصبي خاص به فهل يمكننا أن نغيره؟ وبالتالي نغير السلوك؟
إذا كان السائل يأمل بإجابة من نمطِ إجابات (التنمية البشرية) فسيخيب أمله، فمحاولة تغيير شخصيتك باستخدام إرادتك ، أو مانطلق عليه نحن إرادة وإرادة حرة حدثٌ صعب التحقّق للغاية، حيث سيتضح لنا خلال دراستنا في هذه السلسلة أنَّه قد يكون الفلاسفة قد أضاعوا وقتهم في اثبات الإرادة الحرَّة حيث إنَّها ليست حرّة إلى تلك الدرجة التي اعتقدوا بها.

على كلِّ حال فتغيير شخصيتك باستخدام إرادتك محاولة عويصة كما قلنا، ولكن إذا كان الموضوع حول تحديد المسارات العصبية والتأثير عليها موضعيًا بشكل مباشر فهل سيغيَّر ذلك السلوك والشخصية أيضًا وأسلوب التفكير؟

نظريًا الاجابة نعم، ما أسلفنا ذكره قابلٌ جدًا للتحقيق، تخيَّل تمكنك في المستقبل من رسم خريطة عصبية لشخصيتك (سنتكلَّم عنها الآن) فتستطيع عبرها تغيير بها ما تشاء من سلوكيات، وطرق في التفكير وحتى ذكريات. إنَّ علماء الأعصاب يسعون لهذا (لأغراض طبية) وليس لغسيل الدماغ، ولكن هناك مشكلة عويصة تواجه البحث العلمي في هذا المجال وهي أنه لا توجد أيّ تقنية لدينا تمكننا من دراسة “86” مليار خلية عصبية بالمتوسَّط لدى كلِّ منا وتحديد مساراتها.

بيد أن هذا يطرح تحديات جمة أمامنا فكل دائرة عصبية تستطيع إنتاج نفس السلوك بطرق مختلفة، وكل سلوك يمكن له التأثُّر أيضا بعدَّة عوامل مختلفة، فاختلاف تركيز كيمياء الدماغ كفيلٌ بتغيير السلوك في نفس الدائرة العصبية المنتجة له.يقول فلوريان إنجِرت الذي يحاول إعداد أطلس لدماغ سمك الدانيو المخطَّط بجامعة هارفارد بولاية ماساتشوسِتس الأمريكية: أحاول تحاشي استخدام كلمة فَهْم قدر الإمكان، فما الذي نعنيه حقًّا عندما نقول إنَّزة نفهم كيف يعمل شيء ما؟ فإذا كان الأمر يقتصر على رسم مخطط، فأنتَ في حقيقة الأمر لم تفهم أي شيء. (مقتبس من نيتشر).

فكوننا نستطيع التأثير على مسار سلوك من أجل تغيير جذري بالسلوك فهذا ممكن نظريًا، ولكنَّنا بعيدون عن تحقيقه الآن، وبعيدون أكثر عن رسم خريطة سلوكية لكلِّ منا، فرسم هذه الخريطة أفضِّل تسميته DNA الشخصية، حيث كل منا سيكون له خريطته الخاصة به ويمكن تحديد أبعاد شخصيته من خلالها بدقة كبيرة … ولكن ذلك بعيد المنال.

تسعى مارتا زالاتيك عالمة متخصصة في هذا المجال بدراسة يرقات ذبابة الفاكهة، فالدماغ يحتوي على 15 ألف خلية عصبية وينتج حوالي 30 حركة فقط يمكن دراسة وتحديد المسارات العصبية لهذا الدماغ ورسم خريطة لها. ولكن مايهمنا هنا أنَّ لكلِّ سلوك وأسلوب تفكير مسار عصبي له في الدماغ، يمكن للجينات أن تحدِّد لك سلوكيات كنت تظن أنَّك تعلَّمتها إلَّا أنَّها في الحقيقة غريزية وُلِدت معك.

والسلوك هو عبارة عن تفاعل عصبي بين الخلايا العصبية ليشكِّى مسار خاص به عصبيًا إن كان مكتسبًا أو جينيًا…
ولكن كلمة (تفاعل بين الخلايا) تحتاج سنينًا لفكِّ طلاسمها.

كيف نستطيع التمييز بين ما إن كان هذا السلوك مكتسب أو جيني؟

بلا شكّ دراسة DNA تفيد كتجربة: بناء الأعشاش التي ذكرناها في الجزء الأوَّل، ولكن أيضًا بمقارنة السلوكيات بين أبناء العائلة البايولوجية الواحدة نستطيع تحديد ما إذا كان هذا السلوك وراثي بيننا أي ورثناه عن أسلافنا أو خاص بنا فقط.
ولنقارن أنفسنا مع أقربائنا البايولوجيين من الرئيسات، وقد لفت نظري السلوك الجنسي حيث أنَّنا نحن البشر مازلنا حتى اليوم نعتقد أنَّ الجنس في الطبيعة فقط للإنجاب والتكاثر وأننا نحن فقط من نمارسه للمتعة ولكن هذا خاطئ.
الجنس ليس فقط للتكاثر وإنَّما له عدة أدوار منها دور أساسي في الحفاظ على الاستقرار بين الشريكين، وبالتالي ستجد أن أكثر الكائنات ميولا للاستقرار العاطفي هي أكثرها استخدامًا للجنس لأغراض شخصية وليس إنجابية وهذا تمامًا الحاصل.
فالرئيسات عمومًا والإنسان والبونوبو والشيمبانزي والغوريلا خصوصًا تمارس الجنس للمتعة والحب، ويبدو أننا ورثنا نفس السلوكيات الجنسية حتى وليس فقط نفس الهدف من الجنس، أي تقريبًا نمارس الجنس بنفس الطريقة من ناحية المغازلة والتقبيل والمداعبات وحتى الوضعيات …. مما يعطي دليلًا على أنَّ دوائرنا العصبية المُنتِجَة لسلوكيات جنسية معيَّنة لدينا هي مسارات موروثة وليس من إبداعات البشر.
وهنا ستجدون فيديوهات حية للحياة الجنسية عند بعض الرئيسات وبوضعيات كنا نعتبرها بشرية مكتسبة، فتخيَّل أنَّ الغوريلا تستمتع بوضعية 69 التي يبدو أنَّها وضعية موروثة بيننا وليست من اختراعنا.
الفيديو :

وإنَّ البونوبو يعيش حياة جنسية ماتعة

وللمفارقة فهناك قبائل بشرية تعيش حياة تشبه حياة البونوبو وسندرس ذلك عندما نأتي لدراسة الثقافة والبيئة وصناعتهما للمنطق والسلوك العصبي.

هل محتَّم علينا أن نكون ما نحن عليه؟

 المغالطة الوراثية لاتكمن في الإدعاء بأنَّ الذكاء وراثي، ولكنها تكمن في مساواة بين ماهو وراثي وماهو حتمي .
ستيفن جاي جولد

معنى القول السابق أنَّ الخلط بين ماهو وراثي وماهو حتمي سيخلق لدينا مشكلةً وراثية، فماهو وراثي ليس بالضرورة كونه حتمي والعكس أيضًا، وسنميِّز هذا أثناء الشرح بشكل أكثر وضوحًا.

حبذا لو تعيروني انتباهكم لهذا الحديث استكمالًا لما قلناه عن مساهمة الجينات في السلوك ، فبالرغم من سهولة طرح للنقاش إلا أنَّ ذلك يدخلنا في مشكلة الحتمية.

هل محتَّم علينا بأن نكون عباقرة أو قتلة أو عدوانيين أو مدمنين أو رياضيين محترفين…؟

إنَّها بلا شكٍّ قضية جدلية كبرى احتَّلت عقول علماء النفس والإجتماع في القرن الماضي، ومن بينهم فرويد الذي اعتقد بحتمية تربية الوالدين للأبناء أي أنَّ الإنسان يكون تحت رحمة ثقافة أبوية بشكل حتمي، وكان ادوارد سابير يعتقد بحتمية اللغة مثلًا وغيرهم، وهذا ما جعل الاعتقاد السائد في وقتها بأنَّ الأمراض النفسية سببها ثقافي واجتماعي، ولكن تلك الأفكار انهارت في بدايات الخمسينيات حيث أخذ العلاج البايولوجي النفسي (الأدوية ) الذي يستهدف منطقة معيَّنة لحلِّ مشاكل نفسية فشل فيها كل تاريخ التحليل النفسي في الوصول لنتيجة.

اليوم نحن نعرف أنه قد يكون لديك استعداد جيني (يؤثِّر في بنية دماغك) للإكتئاب الحاد، والحقيقة أنَّ قضية [السلوك الجيني] مفزعة فهل نحن حقًا لا نمتلك الإرادة الحرة؟ وهل محتَّم علينا جينيًا مصائر شخصياتنا؟.

الجواب لا، ليس هكذا بالمطلق فالجينات تحتِّم علينا الأمور التي لاتحتاج لأيِّ عوامل خارجية لإتمامها بشكل نهائي، فلون عيونك هو ذاته بعيدًا عن مجتمعك، وأيضًا شكلك، ونوع ميولك الجنسي، وطولك، وعرضك، وعدد الألياف العضلية في عضلاتك، فذلك محتَّم عليك لأنَّه لا يحتاج لعاملٍ آخر غير جيني لاستكماله.

إنَّ تلك الأمور التي من هذه الطبيعة حتمية، وإذا ما كان سينتج عنها سلوك فسيكون حتمي أيضاً لاشيئ يؤثِّر فيه كما لا يتغيَّر. هناك سلوكيات ذات طابع اجتماعي تأخذ الأمور فيها منحىً مختلف حيث تشكلِّها البيئة والمجتمع والثقافة، وهناك سلوكيات أساسها جيني أو أنَّه لديك استعداد جيني لها ولكن لاتكون إلَّا بتحفيزٍ من البيئة المحيطة، تحتاج لعامل الثقافة والبيئة لاستكمالها وصياغتها. فلا حتمية مطلقة هنا للجينات ولا حتمية مطلقة للثقافة، فهذه السلوكيات هي مزيج بين الأثنين.

تساهم الجينات في تخصيص الدماغ، وتحديد صفات مناطقه وحجمها والقالب العام له، وتقوم البيئة بملئ هذا القالب وصناعة المعنى بداخله، والسلوك هو نتيجةٌ متداخلة بين المعنى الثقافي للبيئية وكيف تعاملت معه خلاياك العصبية.

ولو عدت وقرأت ما قلناه في التجربة الهولندية الناجحة في مكافحة الجريمة سوف تعرف ما نقصده، وسأستطرد بمنتقشة قضية القابلية للجريمة والتي أحببنا أن أغيّر اسمها للقابيلة والاستعداد للقتال (وهي قابلية جينية) لأنَّ إسمها يعتبر إهانة للشخصيات الناجحة التي أتى نجاحها نتيجة للقابلية نفسها (القابلية للقتال). ةحتى لاتؤخذ كشماعة أو مبرَّر للجريمة فهذه القابلية قد تُستخدَم في مجالات نافعة جدًا إذا وُجِد المحفِّز البيئي والثقافي لذلك.

فكما قلنا إذن، فصاك الجداريان أكبر من الحد النسبي، فيمكن أن تكون عبقريًا بالفيزياء أو بالبرمجة أو بالرياضيات أو بالمحاسبة، ليش شرطًا في الفيزياء فقط بل بحسب الموضوع الذي شدَّك وجذبك واستثار دماغك، كذلك القابلية على الهجوم والقتال التي قد تصدر لنا مجرمًا هي ذاتها قد تخلق لنا شرطيًا أو محترفًا بالألعاب القتالية أو مغامرًا خطرًا، بمعنى أنَّ كلّ تلك المجالات لها نفس الطبيعة تقريبًا من الناحية العصبية فدور البيئة أساسي كذلك في صقل الشخصية.

في تجربةٍ أجرِيت على أحد القوارض لمعرفةِ تأثير الإشاراتِ القادمةِ من البيئة على تركيبة المخ العصبية، تم إعادة توصيلِ العصب البصري في فصَّه الصدغي أي المسؤول عن المعالجة السمعية، وتمكَّن الحيوان من الرؤية بنسبة 35% ، وهي نسبة صاعقة ، أي أنَّ المخ قد غيَّر من تركيبته عند الفص الصدغي ؛ ليتلائم مع طبيعة الإشارات البصرية الجديدة بنسبة 35%. ويمكن ذكر تجربة على الرئيسات (لم يحدّد نوعهم هل هم تشيمبانزي أو غيرهم) حيث أُخذٓت مجموعةً من أطفالِ الرئيسات الخجولين بطبعهم أي وراثيًا ووضعوا ليتربُّوا وينشؤوا بين أمهات واثقات من أنفسهن، وسرعان ما تجاوز الأطفال خجلهم رغم أنّهم قد ورثوه.

ما أريد قوله هو أنَّه علينا معرفة ما هو حتمي وما هو ليس حتمي، هناك وراثيات حتمية بلاشكٍّ، ولكن هناك غيرها ليست حتمية، وهناك ما هو بين الإثنين أي أنَّ له استعدادًا جينيًا، غير أنَّه لا يكتمل بدون عامل الثقافة.

عندما تولد بقدرات ومواهب وصفات دماغية مختلفة وبالتالي شخصية مختلفة عن الاخرين، لايعني ذلك أنَّها تحتِّم عليك كلّ شيئ، بل ترشِّح حدوث أمرٍ ما، أو ترفع من نسبة أن تصبح الشخص الفلاني، إلَّا أنَّها ليست محتَّمة دائمًا، خاصة النوع الثالث من السلوكيات ذات الأساس الجيني، فهي بحاجةٍ لعاملِ البيئة والثقافة لاستكمالها، فقد تعيش حياتك كلّها وأنتَ غير مدرك لعبقريتك أو كونك موسيقي موهوب أو قيادي كاريزماتي أو بطل ملاكمة. وعلى النقيض من هذا فهناك آلآف الموسيقيين المحترفين، ولكن عباقرة الموسيقى معدودين على الأصابع.

إعلان

اترك تعليقا