الخمايسي ومنافي الرب
كتاب من الفضاء الخارجي
في رواية “منافي الرب” للخمايسي.. الموت يهدّد الجميع؛ كعادته يأتي بغتة، يأتي برتابة، يأتي برؤيا؛ ملك الموت لا يطرق باب المنزل قبل دخوله لأخذ تلك الروح الفانية، ولا هو يرتدي عباءة سوداء حاملاً منجلًا في يده بوجهٍ خالٍ من الملامح؛ ولا يتسلّل في الخفاء ولا يمشي في الأرض مرحًا بقوّته الغاشمة.. أو ربما هذا ما حدث!
الموتى لم ينظروا برهبة قبل لفظ أنفاسهم الأخيرة ولم تجحظ عيونهم من شدّة الرهبة ولم يبتسموا قبل موتهم ولم يُحضّروا وصيتهم.. أو ربما هذا ما حدث؛ الحياة سريعة ظالمة قاهرة محدودة ومحددة أم هي بطيئة عادلة هينة هانئة ومُهَنَّأة؟
ها هو الخمايسي يأخذنا في رحلة أخرى نحو الخلود وماهية النفس البشرية وأفكارها البريئة والخبيثة، فسلّط الضوء على بقعة من بِقاع وطننا، بل بقعة من بقاع روحنا بواقعية سحرية قابلة وغير قابلة للتصديق، فخلق العلاقات العاطفية بغير عاطفة أحيانًا، وبعاطفة تجعلك تعشق الشخصيات أو تكرهها إلى الأبد؛ كلّ شيء غير قابل للنقاش وكلّ شيء هو محلّ نقاش، الربّ خلقنا لنعبده أو لنعمّر الأرض؟ إذن لابدّ لنا أن نحيا أبد الدهر لنعمرها والخلود لنا وإن لم يكن فسنبحث عنه حتى نموت.
هكذا يأخذك الخمايسي من فكرة إلى أخرى، ولكنّه دائمًا يذكّرك بأنه يبحث عن الخلود لا الموت، يأتيك بشخوص تجدها في كلّ ركن من بلادك بعفويتهم الطاهرة وبذنوبهم الدنيئة وبأفكارهم البرّاقة وعقولهم البالية، يُشتّتك أحيانًا بلا هوادة ثم يرفق بك في نهاية الأمر. فنحن أمام أديب لم نجده منذ زمن وأديب كهذا يستحق الخلود، فإن لم يكن فسيكون لأعماله كما كان لأعمال الأدباء الكبار.
والسبب الرئيسي في جعلنا ننجذب إلى عمل فنّيّ ما، سواء كان أدبيًا أو سينمائيًا هو الفكرة؛ ولكلّ منا اختياراته وأفكاره.. فمنّا من يحبّ الكتب ذات موضوع قصصِ الرعب وآخر يحب القصص البوليسية وآخر قصص الحب والخيال العلمي.. إلخ.
ولكن تتربع الأفكار الاجتماعية دائمًا على عرشِ الفنّ الأصيل، فهو الذي يفرّق بين الجيّد والرديء، فالأدب الاجتماعي يتناول كافّة المواضيع من حبّ وخيال ورعب وسياسة ولكن يمزجه بالواقعية فيجعل الشخصيات أناسًا مثلنا؛ لديها من المشاعر الظاهرية ومن الأفكار الداخلية العميقة ما يجعلنا نحبّهم أحيانًا ونمقتهم في أحيان أخرى ونشفق عليهم وعلى أنفسنا ونتدبر ونتفكّر معهم.
ففي نهاية الأمر، ماذا تريد أن تقرأ؟ قصّة حبّ فاترة؟ اكتشاف كوكب جديد وفقط؟ أم تريد أن تعلم ما مرّت به النفس البشرية في طريق بحثها عن الحبّ وعن الكوكب؟ تريد أن تعرف عن الذي كان يجول بفكرها وتتأمله وتسعى إليه؟ وأن تستشعر اللذة التي توصلت إليها عند الوصول لهدفها؟
فلو لم يصف لك الفنّ هذا فتأكد أنك أمام فنّ أجوف تافه يستعرض مفرداته وألوانه الزاهية المزخرفة فقط للاستعراض وليس في داخل مؤلّفه شيء من الحكمة ولا الفكر.
فننظر لأسباب جعل الأدب الروسي -وسأضرب بمثال لكاتب واحد وهو “أنطون تشخيوف”- الأدبَ الأكثر محبة وعمقًا في النفس البشرية، ذلك لأنه تكلّم بلسان حال بلاده ومشاكل ناسه وهي هي نفس المشاكل التي تواجه النفس البشرية في بقاع العالم.. فمن البديهي أن تجد في موطنك شخصًا يميل إلى القراءة أكثر من الحياة، فتجد “أنطون تشخيوف” قد تناول هذا الموضوع في قصة “الرهان”. وتجد شخصًا آخر بسيطًا أبلهًا حدّ الغباء يتوسّل إلى سيّده أو رئيسه ويتملّقه خوفًا من غضبه غير المعلوم، فتجد هذا في قصة “وفاة موظف” وقصة تلك العاملة التي لا تستطيع حتى الاعتراض على كلمة سيّدها لأنها في حاجة لكلّ “روبل” في قصة “المغفلة”.. وهنالك هذا الشخص الذي نال من العلم ما لم يصل إليه إلا القلة القليلة فأخذ يفكر في أشياء عقائدية حتى تراءت له أمور غريبة كما في قصة “الراهب الأسود”.
أستطيع أن أذكر لك كلّ الأفكار التي تمرّ بك وستجدها في كتابات “تشيخوف” وحده، فما بالك بما أتى به ديستوفسكي وتولوستوي وغوغول؟! فالأدب الذي يصف النفس البشرية وأفكارها وتناقضاتها هو الأدب الأصيل الذي يتسحق المجد والتمجيد وهذا الذي يجعل الأدب الروسي هو أدب النفس البشرية الأول. والأديب الذي يستطيع أن يأخذ طريقه نحو عقلك لا ليمتلكه ولكن ليحاوره ويداعب روحك لا ليقبضها ولكن ليجعلها تسبح معه في عالمه والذي يجعل قلبك يضطرب بنشوة ولهفة فهو الأديب بحق.
في النهاية أردت فقط أن أضع رأي “أحمد خالد توفيق” في الخمايسي وفي هذه رواية “منافي الرب” من مقال صحفي أجري معه:
“هناك مثلاً من الأقصر كاتب مذهل أعتقد أنه ديستويفسكي مصر بل أحسن كاتب ظهر فى آخر عشرين عامًا، وقد صدرت كلّ مجاميعه القصصية عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، لكن رغم ذلك فقد حصلت على مجد أكثر منه، إنه الكاتب أشرف الخمايسي الذى حين قرأت رائعته “منافي الرب” لم أصدّق نفسي، وقلت: ”الكتاب دا جاله من الفضاء الخارجي”.
بإمكانك قراءة مقالة عن الرواية الأولى للخمايسي رواية الصنم من هنا