الكتابة تُشبِه الرَّقص عَلى الحِبال: الخمايسي نموذجًا
لَن أراوغ بمُقَدِمَة فَلسفيَّة عَميقة تُبهِر القاريء أو شيء مِن هَذا القَبيل، فَقط سأصطحبَك إلى أحد المقاهي الشَعبيَّة بوسطِ البَلد، لنُدَخِّن الكليوباترا، حَتّى إن كُنت لا تُدَخن هَذا النَوع، يَجب أن تُجَرِّبه، سنتحدَّث عَن الكتابة حَتَّى يأتي الخمايسي ويُحدِّثنا هو.
اللفافة الأولى :
السرُّ يَكمن في الطيران لا في الرِّيشِ والطائر.
يَقول الكاتب ” إلمور ليونارد ” ناصحًا الكُتَّاب : تَجنَّب الفصول التَمهيدية؛ بإمكانها أن تَكون مُزعِجَة . نَصيحةٌ واضحة، لا تَحتاج إلى أجتهاد حَتَّى تُفهَم، فَقط أدخل مُباشرةً إلى ما تُريد أن تَقول، وإن كان في المُقَدِّمة شيء هام يُمكنك أن توزِّعه في نَصَّك عَلى مدار الفصول، لا تَكشف عَمَّا في جعبتَك دَفعةً واحدة، لكُل عُنصرٍ وَقت، أنتظر حَتَّى يَنضج وتتهيأ العوامل النَّصية لوجوده، ثُمَّ ارمهِ في عَرصَة النَّص ليتفاعل، ويتحقق مرادك مِنه.
يتَحدَّث ” أشرف الخمايسي ” في روايته الأخيرة عَن فكرة ” الفاحص العُمريّ ” ذَلك الجهاز الجَديد الذي يَكشف للإنسان مَوعِد وفاتِه، تَخيَّل أنه بإمكانك أن تَخلق عالمًا معظم شخوصه يؤرِّقهم هَذا الجِهاز، وتبدأ الفَصل الأول بسَيِّدة مُثنَّة سَمينة، تَجلس عَلى الأرض وتَمسك الساطور وتُخَرِّط البَرسيم فَوق قرمة خَشبيّة وَضعها أبنها بين فَخذيّها فَور جلوسها، وأخذت تُقطِّع الأعواد نتفًا صَغيرًا، تُلقيها للطيور التي تُسارع إلي التقاطها بلهفة وشَره . ثُمَّ تُكرر عَلى أبنها نَفس الكلام بخصوص مَن يُريد أن يتزوَّجها، وتَقول أنَّها لا تُناسبه، وأنَّه يَجدر بِه البَحث عَنْ زَوجة تعيش مَعه عمره كله، تموت بَعده، وليس العَكس، أو عَلى أقل تَقدير لا تسبقه إلى المَوت بأكثر مِن سَنة أو سنتين.
هَكذا بدأ الخمايسي روايته “ضارب الطَّبل“، خُذ نَفسًا عَميقًا مِن لفافتك الأولى، هَذا حَقَّك، الرَجُل عَبث مَعنا بسرّدهِ لترهُلات السَيِّدة، وصَحن بَيتها المَكشوف، وفي نهاية الفَصل يُخبرنا أنَّ معيار الزواج في هَذا الزمان مُختلف، يَجب ألَّا تَموت زَوجتك قَبلك، أو تموت أنت قَبلها، بأكثر مِن سَنة أو سَنتين . مِن أين عَرف هَؤلاء الناس وَقت وفاتهم ! آه، إنَّه جهاز الصِّحّة اللعين.
تَخيَّل لو بدأ الخمايسي روايته بفصلٍ مُقدَّم سَخيف يَقول فيه ” بَعد أنْ مَرَّ سنون كَثيرة أخترع عُلماء الغَرب جهاز الصَّحة الذي يَفحص عُمر الإنسان، ودَخل هَذا الجِهاز مصر في ع….. ” فَصلٌ سيء، وبداية تَقليديَّة عَفا عَليها الزمان.
طَيِّب، مَتى ذَكر ” الخمايسي ” هَذا الكلام عَن الجّهاز ! بَعد مُنتَصف الثلث الأول مِن الرواية، أي مَرَّ عَلى الفَصل البداية أكثر مِن عَشر فصول، وبِهذا تَجنَّبنا ملل البدايات والمُقدّمات، ومَضينا جُزءًا كَبيرًا مِن الرواية نَستمتع بسَردّه لأحوالٍ طَفيفة سَببه جهاز الصِّحَة.
لا أريدك أن تُعَلِّق الآن، فَقط استمتع بالأنفاس الأخيرة مِن اللفافة الأولى.
اللفافة الثانية :
اعرف هَذا، الكاتبُ يَشبِه لاعب السّيرك.
يَقول الكاتب ” نيل جايمان ” : القاعدة الأساسية فيما يتعلَّق بموضوع الكتابة هي أنَّك إذا مارستها بما يَكفي مِن الأطمئنان والثِّقَة بالنَّفس، فمن المَسموح لَك أن تَفعل ما يَحلو لَك أيًّا كان.
لا يوجد كاتبٌ عَلى الأرض لا يَستمتع بكتاباته، أو حَتَّى جزءًا بَسيطًا مِنها؛ حَتَّى الكُتَّاب الذين لا يَنبغي أن نَطلق عَليهم كُتَّاب يَستمتعون، ويَكونوا في أوج ثقَتهم بأنفسهم، وَلكن في أغلب الأحيان عِندما يأتي مُنتَصف النَّص نَعرف مَن تلاشت ثِقته وبدأ مَرحلة قَضم الأظافِر، ونَعرف مَن تماسك وبدأ مَرحلة التَّحليق . الأخير هو الكاتبُ الذي يَستغل ثقته بنَفسه، ويُحَوِّلها إلى دافعٍ إبداعي يَنقل نَصَّه مِن فَكرةً مَعنويّة إلى شيءٍ ماديّ مَلموس وحياةٍ صاخبة، بتماسُك وتَحليقٍ بَين فَقراتٍ وجُمَل ووَقفات وعلامات وشخوص.
” الخمايسي ” يَتمتَّع بثقةٍ كَبيرة بقلمه، يَكتُب، ويَقرأ، ويَستمتع، ويُلَقِّب نَفسه بإلَه السّـَرد، وإلَه الكَلِمَة، ويَكتُب، ويَقرأ، ويَستمتع، ويُنَقِّح، ثُمَّ يَخرُج النَّص .. تَقرأ فيظهَر لَك مَدى استمتاع هَذا الرَجُل بِما يَفعل . مَدى ثِقَتهُ بقلمه.
إنَّ الكتابة في أغلب الأحيان تُشبِه فَقرة الرَّقص عَلى الحِبال، تُمسِك قَلمك وتَبدأ بالكتابة، تَسيرُ عَلى خَطٍ رَفيع جدًا، وتَمسك السَّرد بَين يَديك، وتُحاول أن تَعبر إلى الجهة الأخرى دون أن تَقع ويَنكسـر السّـَرد مِنك، هَكذا لاعب السيرك، يَصعد إلى حافّة الحَبل المَشدود بَين قائمين، يَضع قَدمع اليُمنى عَلى الحَبل، ويَسير مُمسكًا بالعصا المعيار، آملًا في الوصولِ إلى الحافّة الأخرى مِن الحَبل، يَتراقص في المُنتَصف، ويتأرجح يَمينًا ويسارًا، قَد يَميلُ فيَقع مَرَّة، ولَكنَّه يَعود إلى الخَطوة السابقة، ويُعدِّل مِن خَطوطته التالية، فيَمُر بسلامٍ، هَكذا الكتابة .. صَعبة وتَحتاجُ إلى أحترافية شَديدة كَي تَكون مِثل لاعبُ السيرك.
دَخِّن الكليوباترا، اعرف أنَّها رَديئة في وَجهةِ نَظرك، ولَكنَّها جَديرة بالأهتمام.
سأعرض لَك مَشهدًا مِن رواية “منافي الرَّب”، بِه تداخُل مُتماسِك، يُشبه استعراض لاعب السيرك رَقصاته الرَّشيقة عَلى الحَبل الرَفيع:
وأُذِّن للصلاةِ مِن يَوم “الجمعة”.
“الجمعة ” الأولى بَعد لَيلة ” الثلاثاء ” الحزين، ليلة النَّار.
وكان المؤذِّن دائمًا هو ” سَعدون “، ولَمْ يَكن أذانه هَذه المَرَّة مِثل أي أذان أذَّنه مِن قَبل.
صَعد الدَّرجات إلى سَطح المَسجد بتثاقل شديد، وعندما صار فوق السَّطح غرق في وهج الشَّمس، ودارت عيناه تمسحتن وسع الصَّحراء، وتصطدمان بالصُّخور الضَّخمة البَعيدة، عجيبة الأشكال، التي نبتت من الرمال، صخرة تشبه نصف بغل خلفي من غير ذيل، وصخرة تشبه صدر عذراء مدفونة منتصبة من غير رأس، وصخرة لم ير ما يشبهها، واقفة بعيدا بعيدا.
ضخمة في حجم عمارة من عمارات ” أسيوط ” التي ترتفع لعشرة طوابق، وصخرة تشبه أم ” جميل ” –زوجته-، وهي تضم إلى صدرها جميل، ترضّعه.
وجرت مياه في عينيه، ورفع كَفَّيه إلى أذنيه وناح: الله أكبر، الله أكبر.
وشَهق، ورفع عينين إلى اليماء مملوءتين عتبا، وناح ثانيةً: الله أكبر، الله أكبر.
وانسكبت دموعه.
قال ” سعدون “: أنا أذَّنت يا ” حجيزي ” قدر ما أذَّنت، ما شَعرت بحلاوة كلمة ” الله أكبر ” مثل ما شعرت بها وقتها .. وسكت قليلا ثُمّ قال: وأنا أعرف إنه هو الذي أحرق عيالي…
وسكت، ثُم قال: تعرف يا حجيزي! أنا ما أستطيع أن ألومه، دائما يلبّي ما أطلبه منه، ويحضر لي ما أعوزه، وأنا المخطئ في هذه الليلة، أنا الذي قلت ل ” بثينة “: الله يحرقك أنتِ وولدك.
وجلجل صَوت سَعدون فوق سطح المسجد: أشهدُ ألَّا إله إلَّا الله.
صدح بها منفصلًا عن الدنيا، فسالت دموع ” مزيد ” وهو جالس على المنبر يتهيأ لخبطة الجمعة.
يا لروعة “لا إله إلَّا الله” لمَّا تَخرج مَخلوطة بحزنِ القلوب.
وتضوَّع صوت سعدون وهو ينطلق في سماوات الضَّحراء، وفي سماوات المسجد: أشهد ألَّا إله إلَّا الله.
ورفع المصلُّون الجالسون في صَحن المسجد وحوههم إلى البقعة من السَّقف التي يقف فوقها سعدون، مآقيهم بحيرات طاف عليها سؤال “مالك يا سعدون تُقطّع قلوبنا؟!”.
قال سعدون لحجيزي: قلت أشهد ألَّا إله إلّا الله وتذكَّرت أنّي ظللت أدعوه أنا وزليخة ثلاثين سنة لكي يعطينا ولدا، وظللت أدعوه أنا و بثينة عَشر سنين أخرى، أربعين سنة أدعوه يَعطيني الولد، ولبَّى دعائي وأعطاني، ولمَّا قلت لبثينة في ساعة غضب “الله يحرقك أنتِ وولدك” لبَّى دعائي بَعد ساعتين ! طَيِّب..
سَكت قليلا، ثم قال: كنت انتظر أربعين سنة ثم لبَّى..
وسكت، ثم قال: أنا فرحان أنه يلبِّي دعائي..
كان “سعدون” على سطح المسجد قد شعر بنفسه يدوخ، وكان يشعر أنه لم يكمل الأذان بعد، فاستند بيده إلى صهريج المياه، فلسعته سخونته، وحاول أن يقف متوازنا، ورفع كفَّيه إلى أذنيه، وتحشرج صَوته: لا إله إلَّا الله.
رفع وجهه إلى السماء، ثم مال بوجهه لينظر إلى بيته المسود بلون حريق النَّار، فرأى بثينة جالسة في الفسحاية أمام الحظيرة ترضع جميل.
للحظة تهلل وجهه فرحا، لكن سرعان ما غامت الدُّنيا في عينيه، ودارت فجأة، فالتوى جسده، وشعر برأسه ينفصل، ثُمَّ يطير ويسقط بين الصخور.
….
اعتقدُ أنَّ اللفافة انتهت، والنَّار تكاد تَحرقُ طَرف أصبَعك. هَذا ما يَفعله السَّرد الرَّشيق، يأخذ يَدك، ويَصطحبك مَعه إلى الحَبل، ويَؤقص مَعاك رقصات الباليه، ويُعزَف في الخَلفية مَقطوعة صاخبة لـ موزارت.
* * *
جاهز للفافة جَديدة ! أعتقد أنَّك اكتفيت اليَوم، ورأسك تَدور ببطء !، فَقط إن كُنت تَكتُب فتمَرَّن عَلى أن تَكون لاعب سيرك مُحترف، وأن لا تبدأ بداية ساذجة، مُملَّة.
نرشح لك الصعيد في بوح نسائه .. الكتابة خارج مقهى ريش