الحملة الصليبية الثالثة (2): هزيمة صلاح الدين الأيوبي

ريتشارد قلب الأسد والحملة الصليبية 2

دبّ الأملُ من جديد في نفوس الصليبيين مع وصول ريتشارد قلب الأسد أخيرًا، وحقّقوا الانتصارَ الأوّل في الحملة الصليبية الثالثة، بعد أن سقطت عكا العنيدة نتيجة حصار استمر عامين، واستلزم حضور ملِكَي إنجلترا وفرنسا للنجاح في ذلك، لكن الطريق الآن أصبح مفتوحًا لتقدم فرسانُ الصليب تجاه هدفهم الأهم؛ القدس، واستعادة الصليب الأصلي. كانت أولى محطاتهم باتجاه القدسّ مدينة يافا الاستراتيجيّة، حيث سيحقّق ريتشارد انتصارًا عظيمًا، ويرتكبُ خطًأ كبيرًا.

 

 

معركة أرسوف

بعد أن ثبّت أقدامَه في عكا، عكفَ ريتشارد قلب الأسد على إصلاح أسوار المدينة، وبناء التحصينات، وإعادة بناء الكنائس والأديرة، ثم تطهير المدينة في حفلٍ دينيٍ كبير. قامت احتفالاتٌ لشهرين، بعدها استكملَ تحرُّكَه نحو مدينة “يافا” الساحلية؛ ليقتربَ أكثر من القدس بشكلٍ غير مباشر، ويكون على اتّصالٍ بالسفن والأسطول من البحر.

 

تحرَّك الجيشُ ببُطءٍ، وواجه مشكلاتٍ تتعلّق بالطعام والشراب، مع استمرار الكرّ والفرّ مع العرب، الذين نظموا هجماتٍ سريعة خاطفة على جيش ريتشارد ليلًا، وبعد ثلاثة أشهرٍ وصل للمدينة، وتواجه الجيشان لأوّل مرةٍ في معركة “أرسوف”. حاول صلاح الدين المهاجمة، لكنّه فشل في اختراق الصفوف، وانتظر ريتشارد حتى يصيب العربَ الإعياءُ من الهجوم على الجزء الأيسر من جيشه، حتى قاد هجومًا ضاريًا بنفسه بعد تمرُّد بعض فرسانه والمهاجمة منفردين، فتراجعَ العربُ، وانكسرت صفوفُهم، وهمّوا بالهروب في الأرجاء، لكنّ ريتشارد طاردهم، وسقط آلاف القتلى، منهم ضبّاط وقادة من أهم رجال صلاح الدين، حتى تمكن صلاح الدين من إعادة تنظيم الجيش، وانسحب بانتظامٍ من المعركة إلى مدينة الرملة، ثم إلى القدس بعد ذلك، كما أرسل للمدن والقرى المجاورة لتدمير المحاصيل والمؤن وتهريب ما يمكن حمله؛ حتى يصعِّب مسيرة ريتشارد خلفه إلى القدس.

 

إعلان

لم تكن المعركةُ مهمّة عسكريًا بقدر ما كانت نفسيًا؛ فقد هُزم صلاح الدين لأوّل مرة منذ حطّين، واستعاد الصليبيون الثقة، وثبت لهم أنّه يمكن هزيمة القائد العظيم. بعدها دخل ريتشارد يافا، وأراد الانطلاق سريعًا خلف العرب، لكن الطقس الحار والإرهاق لاحق جيشه، خاصةً مع انتشار الأمراض بين الجنود؛ فاضطرّ للبقاء في يافا، وأراد إعادة التفاوض مجددًا.

 

يعد المؤرِّخون البقاءَ في يافا أكبر أخطاء ريتشارد؛ حيث أعطى الوقت الكافي لصلاح الدين لتنظيم أموره، وتقوية جيشه، وضم أعداد كبيرة من المحاربين. كذلك قام صلاحُ الدين بتخريب كلّ المدن في طريق ريتشارد، مثل عسقلان، والرملة، واللُد، ولو أنّه تحرّك فورًا، لكانت فرصته أفضل في الوصول للقدس واستغلال ضعف العرب وهزيمتهم، لكن لا أحد يعلم الظروف الحقيقية على الأرض.

 

استمر البقاءُ في يافا لما يزيد عن شهر، وقامت خلافاتٌ بين الحلفاء، خشي ريتشارد تردّي الأوضاعُ في معسكر الصليبيين؛ فبدأت مفاوضاتٌ بين الطرفين للتوصُّل لشروطٍ تُنهي الحربَ. أرسل صلاحُ الدين شقيقه “العادل صفي الدين” لقيادة المفاوضات، والذي كان رجلًا نبيلًا وجنديًّا شجاعًا، فأُعِجبَ به ريتشارد وتشكَّلت صداقةٌ بينهما، بل وحاول قلبه على صلاح الدين والتفريق بينهما.

 

تمّ اقتراح عدد من التسويات المختلفة في سياق التفاوض، مثلًا أن يتزوّجَ صفي الدين من شقيقة ريتشارد، في مقابل التخلّي عن القدس لريتشارد، أو يحكم العادلُ القدسَ والمدنَ التي احتلّها ريتشارد، مع إعطاء الصليبيين الحقّ في مراكزهم القديمة في المدينة المقدسة، لكن الأميرة رفضت الزواج، كما رفض صلاح الدين تسليم القدس، وتمّ التخلّي عن المفاوضات تمامًا. وبدأ ريتشارد مرةً أخرى للتحضير لعودة الحرب، بينما دخل صلاحُ الدين في مفوضات مع “الماركيز كونراد” عدو ريتشارد وحاكم مدينة صور القوية؛ وذلك ليكيدَ ريتشارد.

 

الطريق إلى عسقلان

واجه ريتشارد صعوباتٍ كبيرة في التقدُّم، خاصة مع زيادة الخلافات بين الأمراء والنبلاء، وقيام صراعات بين جيوش الصليبيين من جديد، والهجمات المُستمرّة من العرب، حتى ريتشارد نفسه كاد أن يقع في الأسر أكثر من مرة. لم يساعد موسم هطول المطر بغزارة؛ فقد فسدت المؤن، وتعطّلت حركة الخيول، وكلما حاولوا نصب الخيم، خلعتها الرّيحُ العاتية، كما انتشرت مجاعةٌ في الجيش لقلّة الموارد، أودت بحياة العديد، ثم بدأ هجر الجيش والهروب من الجنود.

 

حتى اضطر ريتشارد للاتجاه إلى مدينة عسقلان الساحلية التي دمّرها صلاحُ الدين قبل هجرها، بدلًا من التوجُّه إلى القدس مباشرةً، رغم رفض عدد من الأمراء، فحتى لو تمكَّن ريتشارد من دخول القدس، فإنّه لا يملك العددَ الكافي للدفاع عنها، لكن الأمراءَ المحليين اعترضوا؛ لأنه إذا دخل الصليبيّون القدسَ، ستنتهي الحملة ويعود الأوروبيون إلى منازلهم، ويستعيد صلاح الدين القدسَ بسهولةٍ كما حدث من قبل لقلّة أعدادهم، وبالتّالي، كانت عسقلان هي الخِيَار الأمثل.

وصل ريتشارد عسقلان بصعوبةٍ بالغةٍ، وعسكر صلاح الدين على مسافةٍ آمِنة من المدينة. بدأت فورًا عملياتُ إصلاح المدينة، لكنّ عددًا كبيرًا من الفرسان والجنود رفضوا العمل بأيديهم، واعتبروا أنفسهم أعلى مكانة من ذلك، حتى نزل ريتشارد بنفسه على رأس ضباط الجيش، وقام ببناء أجزاء من الحائط بيديه، فاضطرّ الجميعُ للعمل بلا عذرٍ للتأخُّر.

لكنّ حروبًا دامية قامت بين الصليبيين وبعضهم في مدينة “عكا” مركز الحملة؛ بسبب التنازع على لقب القدس، ممّا عقد الأمور أكثر، ومنع وصول الإمدادات إلى عسقلان، وهدّد بحربٍ أهليّة بينهم، يكون فيها صلاح الدين الرابح الوحيد، حتى عاد ريتشارد بنفسه لإنهاء خلاف ملك القدس، وعمل سلام هشّ.

 

أقام ريتشارد اجتماع مع الجميع للاتفاق على ملك للقدس، اختار الجميعُ كونراد، ووافق ريتشارد رغم كرهه لكونراد، فذهب الرسلُ إلى مدينة صور لإبلاغ الأخبار، وبعدها بيومين، عُثِرَ على جثة كونراد مقتولًا، واتُّهِمَ ريتشارد بتدبير قتله عن طريق الاتفاق مع صلاح الدين بأن يرسل قتَلَةً خلفه كجزءٍ من التفاوض بينهما. لم يستطِع أحدٌ إثبات ذلك، لكنّه أضعَفَ موقفَ ريتشارد، وقَلَب عددًا من الأمراء ضدّه.

 

هدنةٌ من جديد

ظلّ الوضع كما هو عليه لأربعة أشهر؛ ريتشارد محتمي داخل جدران عسقلان، في انتظار إمداداتٍ من أوروبا، وصلاح الدين يعمل على تقوية جيشه بإمداداتٍ جديدة، حتى قامت هدنةٌ بين الطرفين، وبدأ الفرسان والنبلاء من الطرفين بالتواصل وإقامة احتفالات ومسابقات مشتركة وتبادل الهدايا.

تبادلَا ريتشارد وصلاحُ الدين المراسلات، وعندما أصاب ريتشارد المرض، أرسل إليه هديةً من الفاكهة من حدائق دمشق المشهورة بجودتها بتلك الفترة، ويقال أيضًا أنّه أرسل طبيبَه الخاص إلى ريتشارد، بالرغم من غياب الأدلّة القاطعة، وبادَلَه ريتشارد بالمجاملات والهدايا والكنوز، لكن كان لريتشارد سببٌ آخر في التقرُّب من صلاح الدين.

 

تلقّى ريتشارد خطابات من والدته في إنجلترا تحذّره من خطورة الوضع في البلاد، حيث شقيقه الأصغر “جون” يتآمر عليه، ويحاول قلب الجميع ضده من أجل التفرُّد بالحكم، ومن الجهة الأخرى كان فيليب ملك فرنسا مستمرًا في مهاجمة أراضي ريتشارد في فرنسا لسببٍ أو لآخر، وكان فيما يبدو متحالفًا مع جون للإطاحة بريتشارد، فأراد العودة سريعًا وإنهاء الحرب.

أُعيدَ مقترحُ زواج صفي الدين وشقيقته مرةً أخرى، في مقابل حكم مشترك للقدس، وكاد صلاح الدين أن يوافق، لكن رجالَ الدين من الطرفين رفضوا المقترح، فضاعت آمالُ الصُلحِ مجددًا، وحينها انتشرت إشاعات أن ريتشارد سيغادر إلى إنجلترا؛ مِمّا تسبَّبَ في انقسامٍ وخوف من الجنود، حيث برحيل ريتشارد، سيقع الجيشُ في فوضى، وسيتصارع الأمراء بلا قائدٍ قوي يحكمهم، لكنه نفى ذلك، ووعد بالبقاء لعامٍ آخر.

 

مرحلة اليأس

بحلول عام 1192م، قرّر ريتشارد التحرُّكَ من جديد، فتَرَك حاميات في المدن الساحلية يافا وعسقلان، ثم خرج بجيشه باتجاه القدس، لكن الخطابات توالت عليه من إنجلترا تحثّه على العودة سريعًا، فيما عانى من نقصِ الموارد في الصحراء، وغياب الآبار الصالحة للشرب، خاصةً في الحرِّ الشديد وأشعّة الشمسِ الحارقة، ولم يجدوا حتى أشجارًا يختبئون في ظلِّها؛ فسقط عددٌ كبير من القتلى، وضعف الجيش، وانتشرت الأمراض من جديد. قرّر ريتشارد أخيرًا إنشاء معسكره في مدينة ” بيت نوبة أو بيت نقّوبا” على بعد تقريبًا 10 كم من القدس، بينما تراجع صلاح الدين للقدس، وأقام فيها التحصينات وحافظ على جيشه سالمًا، بينما واجهته أزماتٌ مالية وتمرّداتٌ في جيشه، خاصةً مع تقدمه في العمر، ومرضه المتكرر، وضُعْف سلطته على الأمراء.

 

تمكَّن جواسيس ريتشارد من العثور على قافلةٍ غنيّةٍ بالطعام والعتاد، متوجهةً إلى القدس من مصر، وبالرغم من حذر صلاح الدين، إلا أن ريتشارد تمكَّن من الإيقاع بها، وحصل على إمداداتٍ ضخمة، كانت قد تمكنه من استمرار الحملة إلى القدس وأضعفت صلاح الدين بشكلٍ ملحوظ.

لكن، علم ريتشارد أن الآبار حول القدس تم تدميرها، وفي حالة الهجوم على المدينة أو حصارها، سيموت وجنوده من العطش، فظلّ في مكانه ينظر إلى القدس من فوق تلٍ، لكنه أيضًا أراد الحفاظ على سمعته من هزيمةٍ أو هجومٍ فاشل، فبرغم كل الصعوبات لم ينهزم في الحملة قط، وقَلما هُزِم في أي معركة. لم تكن في نيته التوجه للقدس من الأساس؛ حيث اعتقد أنها مهمة مستحيلة، وستكون وصمة عار على تاريخه كالملك المهزوم.

كان هناك مجلس حرب لحسم الأمور، لكنه كان مجلس الحيرة واليأس؛ حيث لم يستطع أحدٌ الخروجَ بحلّ، فالعودة كانت وصمة عار، والتوجُّه إلى الأمام كان الدمار، ومن المستحيل عليهم البقاء حيث كانوا، حتى قرّر ريتشارد التحرك نحو القاهرة.

 

قد يعجبك أيضًا

كان كل جيش العرب في القدس مع صلاح الدين، والقاهرة مدينة غنية وبلا حماية تقريبًا، وبالتالي يمكنه الهجوم عليها ومباغتة صلاح الدين، على الأقل يجد الطعامَ والمؤن، لكن الفرنسيين والألمان اعترضوا ورفضوا التحرُّك، حتى خضع ريتشارد وقرَّر العودة إلى عكا أو عسقلان أو الرملة (اختلف المؤرّخون)، مع بدء مفاوضات من جديد بين الطرفين، وسيادة حالة من الخزي واليأس بين الجميع بضياع فرصة استعادة المدينة المقدّسة.

————————————————————————

مراجع

 

Plantagenets: The Warrior Kings Who Invented England.

-Thomas F. Madden, The Concise History of the Crusades.

The Crusades: The authoritative history of the war for the Holy Land

– (سيرة صلاح الدين الأيوبي) النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية.

History Makers: Richard I, The Lion Heart

-Sir Steven Runciman, A History of the Crusades: Volume 3, The Kingdom of Acre and the Later Crusades

-Paul M. Cobb, The Race for Paradise: An Islamic History of the Crusades

-James Reston Jr, Warriors of God: Richard the Lionheart and Saladin in the Third Crusade

 

 

 

 

 

 

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: سلمى عصام الدين

اترك تعليقا