الحملة الصليبية الثالثة (3): النهاية وصلح الرملة

لقراءة الجزئين السابقين: الجزء الأول، الجزء الثاني.

اقتربت النهاية، وأدرك ريتشارد قلب الأسد ذلك، التوترات بين الأمراء وصلت حدًا لا يمكن السيطرة عليه، كما هو مُلاحَظ في الأحداث الأخيرة في الحملة. لم يعد ريتشارد قلب الأسد مركز السلطة، أو قائد الحملة، حتى أن الكتيبة الفرنسية التي تركها الملك فيليب تحت إمرة ريتشارد قد تجاهلته وحاولت الهجوم على القدس بمفردها، لكنّها فشلت وتراجعت. وكان جليًا أنه لا يمكن دخول القدس طالما ظلّ صلاح الدين قائدًا للعرب، وعمليًا فشلت الحملة الصليبية الثالثة قبل بدايتها من الأساس؛ لأنه لا يمكن الحفاظ على القدس حتى بعد دخول الصليبيين إليها، كما حدث من قبل.

وبين خسارة القدس والحملة، وضياع ملكه في إنجلترا وفرنسا، أصاب ريتشارد الإحباط والقلق، حيث توالت الخطابات من مساعديه يرجونه للعودة سريعًا، وأخبرته أمه بخطورة الموقف وقرب ضياع كل شيء، بينما تمكَّن ملك فرنسا بالفعل من الحصول على بعض الأراضي والقلاع المهمة بعد خيانة “جون” شقيق ريتشارد، ممّا جعل العودة لا مفر منها. حتى لو استطاع دخول القدس، فلا قيمة لها مع ضياع مملكته الأساسية.

لكنه ترك بصمةً على التاريخ في آخر معارك الحملة الصليبية الثالثة، وحقَّقَ الانتصار مجدّدًا على المظفر صلاح الدين الأيوبي، ليفشل صلاح الدين في الانتصار على ملك إنجلترا في أيّ مرةٍ تقابلا فيها.

استعادة يافا

ما أن هم ريتشارد بالتراجع، واحتلّ بيروت قبل العودة إلى عكا، حتى وصلت الأخبار بأن صلاح الدين هاجم يافا ودخل المدينة، يُقال أنه بسبب تمرد الجنود الأتراك والأكراد على أوامر صلاح الدين، حيث دخلوا المدينة وقتلوا المدنيين في الشوارع، فأرسل صلاح الدين للحامية الصليبية والعامة للاحتماء بقلعة المدينة؛ حتّى يتمكَّن من استعادة السيطرة، حينها أمر ريتشارد فورًا بالعودة، وقرّر تجهيز السفن وقيادتها بنفسه لاستغلال الرياح الجيدة، لكن الفرنسيين رفضوا العودة معه، وقرروا البقاء في عكا، فجمع ما استطاع تجهيزه في الحال وتوجّه إلى يافا.

حين اقتربت السُفنُ من المدينة، وجدوا أعدادًا كبيرة من العرب بالداخل، تفرض الحصار على القلعة، وتهدِّد بسقوطها في أي لحظة. أما على الشاطئ، فكان بانتظاره حشد من الجنود ليمنع نزوله من البحر، حتى أن معاونيه ومستشاريه نصحوه بالعودة، وحذّروه من خطورة النزول على الشاطئ، لكنه تجاهلهم، ونزل بكل قوته حاملًا فأسه الشهير، الذي كان يستخدمه دائمًا في الحرب؛ ليبرِزَ قوّته، ويحاكي أجداده من الفايكينج. تبعه الجنود، فأثارت قوة ووحشية ريتشارد الذعر بين العرب، وسرعان ما نزل عليهم كالصاعقة، دمّر صفوفهم، وأجبر العرب على التراجع، وسيطر على الشاطئ.

إعلان

لكنه لم يتوقّف، سارع إلى بوابات المدينة وسيطر عليها، ممّا أدى لمحاصرة العرب الموجودين داخل المدنية، وقام بذبحهم جميعًا بوحشيةٍ، لكن جيوش صلاح الدين حاصرت المدينة من الخارج بأعدادٍ في ازدياد مستمر، وفي نفس الوقت، كان ريتشارد في انتظار وصول جيشه على الأرض.

وصل الجيش في اليوم التالي، وهاجموا العرب بضراوةٍ، وخرج ريتشارد ليهاجم من داخل المدينة، فتمكّن من هزيمة صلاح الدين مجددًا، ثم فرّق جيشه في جميع الأنحاء، واستعاد المدنية بكامل محيطها، رغم الظروف الصعبة التي كان يمرّ بها وجيشه.

يُقال أن حصان ريتشارد قُتِل في المعركة، وأنّه أكمل القتال على قدميه، وعندما علم صلاح الدين ذلك، قال أن ملك إنجلترا لا يجوز أن يحارب على قدميه مثل الجنود العاديين، فأرسل له فورًا حصانين من خيرة الخيول العربية، مع راية الهدنة، ليختار منهم ريتشارد، ثم استكملت المعركة، وحارب ريتشارد على الحصان العربي.

نهاية الحملة الصليبيّة الثالثة

بعد معركة يافا، تحسّنت معنويات الجيوش الأوروبية، وعاد الأمل وقوت شوكتهم، بينما العرب وصلاح الدين على الجانب الآخر بدأ يظهر الضعفُ عليهم، خصوصًا بعد فشل صلاح الدين في هزيمة ريتشارد في أيّ مواجهة مباشرة، حيث حتى الآن فاز ريتشارد في كل المعارك التي خاضها، حتى بعد رحيل حليفه الفرنسي، وتمردات الفرنسيين المستمرة، والخلافات الكثيرة بين معسكر الصليبيين، ولم يضعفه إلا ظروف المناخ، ونقص الموارد، وغياب الدعم من أوروبا، وظهر جليًا أن كلا الطرفَين لا قبل لهما بهزيمة الآخر.

للأسباب السابقة، حيث لن يستطيعَ ريتشارد بمن معه احتلال القدس، ولن يستطيع صلاحُ الدين بتقدمّه في العمر وضعفه ومشاكله الداخلية، من الدفاع عن القدس من هجومٍ شامل أمام الشاب العفي ريتشارد قلب الأسد. وأرسل ريتشارد لصلاح الدين يحذره: “لو استمرّت الحرب، فستكون نهايتنا نحن الاثنين“؛ فقرّر الطرفان أن الصلح هو الحل الأمثل.

تم الاتفاق على هدنة طويلة الأمد لمدة ثلاثة أعوام، عُرفت بـ”صُلح الرملة”، وشروطها كالآتي:

1- أن يحتفظ الأوروبيون بالمدن الساحلية التي دخلها ريتشارد، وكل المدن الصغيرة والمناطق المجاورة لها، بالإضافة إلى أنطاكية وطرابلس وصور، بينما مدن “لد والرملة” مناصفة بينهم وبين العرب.

2- أن ينسحب ريتشارد من مدينة عسقلان، وتعود ليَدِ العرب، في مقابل دفع صلاح الدين ثمن الإصلاحات التي قام بها ريتشارد عندما دخلها، أو تدمير تلك الإصلاحات وتركها خرابًا لا يستعملها أحد، أو ألّا يستخدمها العرب كحصنٍ، وألّا يكون بها جنود، فقط مركز تجاري أو مدينة مسالمة.

3- أن يتعهّد الصليبيون بوقف كل الأعمال العدائية ضد العرب، وأن يبقوا داخل مدنهم، وألّا يهاجموا أي مدن أو قرى قريبة منهم.

4- أن يتعهد صلاح الدين بحماية الحجاج المسيحيين إلى القدس، سواءً كانوا جنودًا أو فرسانًا أو رجالَ دين أو قادمين من أوروبا.

5- أن تسري الهدنة ثلاث سنواتٍ، بعدها يحقّ لكلِّ طرفٍ استكمال الحرب.

وبهذا انتهت أشهَرَ حملة صليبية أخيرًا ورسميًّا، في 2 سبتمبر 1192م.

ما بعد الحملة الصليبية

قابل الجميع أخبار الهدنة بالاحتفال والسعادة، وبدأ تنظيم قوافل للتوجّه للمدينة المقدسة، كما تم تشكيل ثلاثة أفواجٍ للحج. وسط حالة ترقُّبٍ وقلق، وصل الفوج الأول إلى القدس، وتعرض لتحرشات لفظية من العرب، وسط حالةٍ غضب عارمة، خاصة من أهالي الأسرى العزل الذين تم ذبحهم في عكا، حتى أن حشد كبير توجه لقصر صلاح الدين، وطلبوا منه القصاص من الحجاج المسيحيين، إلا أنه رفض بشكلٍ حازمٍ، وقام بكل الإجراءات الممكنة لتأمين الحجاج، ونشر جنوده في أرجاء المدينة لحفظ النظام.

عاد الفوج الأول بسلام، وانطلق الفوج الثاني ثم الثالث، ومع الوقت انخفضت صيحات العامة، وتقبّلوا الحجاج وأحسنوا معاملتهم. انضم أحد الأساقفة للفوج الثالث، وخشي الجميع من الهجوم عليه، كونه رجل دين، والكنيسة بالأساس سبب الحرب والعدوان على المسلمين والعرب، لكنّه وصل بسلامٍ، ودعاه صلاح الدين لقصره الخاص وأكرمه، وخاض حوارًا طويلًا معه، سأله فيه عن رأي الصليبيين في القائد العربي. خلال اللقاء، طلب الأسقف إنشاء دير أو مؤسسة لمساعدة الحجاج وتنظيم عملية الحج، فوافق صلاح الدين مباشرةً، وباشر بالتوجيهات والإجراءات اللازمة.

لكن ريتشارد لم يزر القدس، وادّعى المرض وفضّل البقاء في منزله؛ حيث شعر بالخزي والعار من زيارة المدينة بإذنٍ مسبق، أو أن يدخل المدينة زائرًا بدلًا من دخولها بطلًا منتصِرًا. لم يقابل صلاح الدين قط، وظلّ متجنبًا المدينة المقدسة حتى رحيله من الأراضي الفلسطينية، عازمًا على العودة مجددًا بعد انتهاء الهدنة وتنظيم أموره.

أمّا صلاح الدين، فأراد أخيرًا الحج إلى مكة المكرمة بعد أن انتهى من حروبٍ مستمرةٍ لسنوات، لكن مساعديه نصحوه بالعدول عن ذلك؛ لمصلحة الدولة من جهة، والاهتمام بالمشاكل التي تواجهها من فراغ الخزائن، والأزمة المالية، والحالة المتردية لأغلب المدن بسبب الحرب، كذلك خوفًا من غدر ريتشارد وكسر الهدنة، وأخيرًا التمردات داخل العائلة الأيوبية، ومن جهةٍ أخرى بسبب ظهور أعراض المرض والعجز عليه، ففي الخامسةِ والخمسين تقريبًا ضربته الشيخوخة بقوّة، كما سبّبت له الإصابةُ بالملاريا المتكررة مشاكلَ صحية أخرى، حتى زار دمشق لأول مرة منذ 3-4 سنوات، وتوفّى هناك في 4 مارس 1194م، تاركًا حمل ثقيل لورثته، وإرث يحكم عليه التاريخ.

قد يعجبك أيضًا
مراجع

- Plantagenets: The Warrior Kings Who Invented England.

-Thomas F. Madden, The Concise History of the Crusades.

- The Crusades: The authoritative history of the war for the Holy Land

- (سيرة صلاح الدين الأيوبي (النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية

-History Makers: Richard I, The Lion Heart

-Sir Steven Runciman, A History of the Crusades: Volume 3, The Kingdom of Acre and the Later Crusades

-Paul M. Cobb, The Race for Paradise: An Islamic History of the Crusades

-James Reston Jr, Warriors of God: Richard the Lionheart and Saladin in the Third Crusade 

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: عمرو عدوي

تدقيق لغوي: سلمى عصام الدين

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا