ريتشارد قلب الأسد في الأسر (2): من يشتري الملك؟

وقع ريتشارد أخيرًا في شر أعماله، وتمكنت منه جرائمه وتكبره، وسقط في بئر إهاناته المتكررة للآخرين، ليكون أول وآخر ملك إنجليزي في التاريخ يتم القبض عليه من سلطة أجنبية، وربما الأول والأخير أيضًا الذي يُقدم للمحاكمة في بلد أجنبي، شيء مناسب لحياته وسيرته العجيبة، ليهدد الأسر بضياع أمجاده وبطولاته في الشرق، لكن بشكل ما الجميع يتذكر كونه قلب الأسد القوى المحارب، فيما لا يتم ذكر أيامه ذليلاً في محبسه.

ريتشارد في الأسر

حينما سمع إمبراطور ألمانيا أو الإمبراطور الروماني المقدس عن أسر ريتشارد، أسرع بالإرسال إلى الأرشيدوق لتسليم ريتشارد له، بحجة أنه لا يجوز أن يسجن ملك رتبة أقل منه، والأرشيدوق يقابل مجرد دوق أو حاكم صغير، لكن الأرشيدوق كان مترددًا حتى تم بيع السجين الملكي مقابل قدر من المال، مع نسبة من أي فدية تُدفع من أجله في المستقبل، وهكذا انتقل تحت قبضة الإمبراطور، الذي أخفاه بعيدًا عن العالم، ولم يعلم أحد ما حدث له أبدًا، لكن الأمر لم يستمر طويلا.

في إنجلترا، انتظره الجميع بفارغ الصبر، ما عدا شقيقه جون بالطبع، وخافوا أن يكون قد غرق في البحر، أو قُتل في الطريق، حتى أن زوجته رفضت العودة لإنجلترا من صقلية، وتوجهت لروما تحت حماية البابا، في حين كان ريتشارد يقضى سجنه في إحدى القلاع، في الشرب والغناء وإلقاء الشعر، حتى خرجت الإشاعات ووصلت إلى إنجلترا.

يُعتقد أن أحد المغنيين المتجولين تعرف على ريتشارد في محبسه وسرّب الخبر، أو أن الإمبراطور أرسل لملك فرنسا يخبره عن الوضع، فتسرب الخطاب، لكن من المؤكد أن زوجته وجدت حزام ذهبي خاص بزوجها معروض للبيع في روما، وسألت عنه مكان الحصول عليه، وعلمت بوجود ريتشارد في ألمانيا، فتوجهت للبابا فورا تطالبه بالتدخل، من ناحيته هدد بابا الفاتيكان كلا من الإمبراطور والأرشيدوق بالنبذ من الكنيسة وإعلانهم خارجين عن الدين، بالرغم من كون حاكم ألمانيا هو الإمبراطور الروماني المقدس، والذي يقوم بابا الفاتيكان بتعيينه وتسليمه التاج بنفسه.

لكن تم بالطبع تجاهل تهديد البابا، فلم يكن أحد ليفرط في صيد ثمين مثل ريتشارد بهذه السهولة، لكن عندما علم الناس في إنجلترا، قام اجتماع عظيم لكل النبلاء ورجال الدين والمحافظين، وجددوا ولائهم للملك، متجاهلين جون الذي بدأ في تنفيذ خطته مع ملك فرنسا، اتفق الجمع على إرسال وفد إلى المانيا من الرهبان لمقابلة الملك، لتفادي أي مضايقات يمكن أن يتعرض لها العسكريون أو النبلاء، وبالفعل قابلوا ريتشارد قبل عرضه للمحاكمة!

إعلان

محاكمة ريتشارد قلب الأسد

تقابل الإمبراطور مع ريتشارد قبل المحاكمة المزعومة، وطالبه بإعادة أراضيه في صقلية التي تحالف ريتشارد مع حاكمها، ثم دفع فدية ضخمة لإطلاق سراحه، لكن ريتشارد رفض بشدة، واعتبر تلك الشروط إهانة له ولعرش إنجلترا، فما كان إلا أن بدأت إحدى أكثر المحاكمات هزلية في التاريخ.

تم عرض ريتشارد على محكمة خاصة لاعتباره مجرمًا، وتم اتهامه بالآتي:

  1. مساعدة ديكتاتور صقلية اغتصاب حكم مسينا والتحالف معه.
  2. احتلال صقلية وسجن ملكها المسيحي، بعد سرقة كنوزه وأملاكه وأسر ابنته.
  3. التآمر على اغتيال الماركيز مونتفيرات ملك القدس الشرعي.
  4. إهانة أرشيدوق النمسا بشكل متكرر مما يمثل إهانة للشعب الألماني.
  5. التسبب في فشل الحملة الصليبية بعد معاركه الخاصة مع ملك فرنسا، وعجرفته وتكبره. 
  6. خيانة الدين المسيحي والكنيسة بعد الهدنة مع صلاح الدين، وهجره الأراضي المقدسة.

دافع ريتشارد عن نفسه ببسالة واقتدار، حتى بعض الحاضرين من الألمان أعجبوا به، وفتنوا بقوته ولباقته، لدرجة أن الإمبراطور خشي تأثيره على الناس، لكن ريتشارد حاول كسب رضا الإمبراطور من محبسه، فقام في الخفاء بالعمل على إصلاح العلاقة بين الإمبراطور وأعدائه في الداخل والتوفيق بينهم، بالطبع لم تسفر المحاكمة عن شيء، وانتهت بالتفاوض على فدية ضخمة، يتم إطلاق سراحه بعد دفع الثلثين، مقابل بقاء رهائن في ألمانيا حتى دفع الباقي، عاد بها الوفد الإنجليزي لبحث كيفية جمع الأموال الازمة.

ريتشارد للبيع

أما فيليب ملك فرنسا وعدو ريتشارد الأزلي، سرعان ما علم عن حبس ريتشارد من قبل رسالة من الإمبراطور، فأعد نفسه للاستفادة من الحادثة؛ واستخدم كل وسائل القوة والتآمر والحرب والتفاوض، بدأها بأن أعاد إحياء افتراءات اغتيال ريتشارد للماركيز مونتفيرات، وبهذا الادعاء حث النبلاء الفرنسيين على انتهاك قسمهم الذي أقسموا به خلال الحملة الصليبية، أنهم لن يهاجموا أبدًا أراضي ملك انجلترا، ومن ناحية أخرى، قدم للإمبراطور أكبر العروض ووعده بالتحالف والتأييد الكامل، إذا قام بتسليمه السجين الملكي، أو على الأقل احتجازه في الأسر المؤبد، حتى إنه حاول تشكيل تحالفًا بالزواج مع ملك الدنمارك، من أجل تشجيع الادعاء القديم له لعرش إنجلترا، ثم قام باستدعاء جون الخائن، وأقام تحالف معه ضد ريتشارد، ووعده بعرش إنجلترا.

واستغل الامبراطور الوضع، وأقام ما يشبه مزاد علني على ملك إنجلترا، وبالطبع أراد مبلغ خرافي، ملك فرنسا عرض الأموال من جهة، وريتشارد ليفتدي نفسه تحت إشراف والدته الملكة اليانور، لكن ريتشارد نجح في إقناع الامبراطور أن ملك فرنسا لا يملك الأموال الكافية، ولا يمكنه أبدًا الحصول على هذا القدر الكبير في وقت ضيق، وأن إنجلترا غنية ويمكنها توفير المبالغ بسهولة، فاتفقوا على مبلغ معين، لكن الإمبراطور طلب المزيد بعدها بفترة، يُقال إنه استقر في النهاية على ما يعادل ايراد مملكة إنجلترا ل 80 عاما!

تم فرض ضرائب باهظة على العامة، وإجبار النبلاء على المساهمة في دفع الفدية، ولم تنج الكنيسة الإنجليزية كذلك، حيث تم إرهاق خزائنها، وإجبار رؤساء الأديرة والقساوسة والأساقفة على دفع ربع دخلهم السنوي، حتى تم جمع القسط الاول.

لكن الإمبراطور عاد وغير رأيه بعد تعقد موقفه الداخلي، ودخل في خلافات مع النبلاء في بلاده، وتم اتهام الإمبراطور بتدبير اغتيال أحد الشخصيات المهمة المعارضة له، فأراد الدخول في تحالف مع ملك فرنسا لتثبيت اقدامه في المنطقة، وحفظ حكمه، في مقابل سجن ريتشارد للأبد، مع الاحتفاظ بالفدية وطلب أموال أخرى من ملك فرنسا، لكن ريتشارد كان قد غادر البلاد مسرعًا فور إطلاق سراحه، بعكس عادته المتعجرفة.

ريتشارد ملكا من جديد

بعد عامين تقريبا من حبسه، عاد الى إنجلترا في 1194، بعد دفع القسط الأول أو الثلثين، كانت فرحة الإنجليز شديدة بظهور ملكهم، الذي عانا الكثير من المصائب، واكتسب الكثير من المجد، والذي وصلت سمعته إلى أقصى الشرق، حيث لم تكن شهرتهم قادرة على الامتداد من قبل، فخرجت إنجلترا بأكملها في استقباله، مهللين ومحتفلين كأنه عاد منتصرًا من الحرب، حتى أحد الألمان المصاحبين له قال إنه لو علم الإمبراطور بحب إنجلترا الشديد لريتشارد هكذا، ما كان تركه مقابل فدية صغيرة كتلك.

بعد عودة ريتشارد بقليل، قام بتنظيم أموره وأمور المملكة، أهمها القضاء على آخر أتباع أخيه جون من الخونة، وأشهرها قلعة “نوتنجهام” المهمة، حيث أعلن عن وصوله بالجيش بعاصفة من الموسيقى والطبول ليفزع حامية القلعة، وحدث بالفعل، وتمكن في النهاية من سحق المقاومة، لكنهم رفضوا الاستسلام مدعين وفاة الملك ريتشارد، كما نشر شقيقه الخائن، لكن بعد أن رأوه، نزلوا عند قدميه طالبين الرحمة، ليثبت للجميع أنه ما زال بقوته وبأسه، وأن السجن لعامين لم يؤثر فيه.

بعدها قرر أن يتم تتويجه ملكا من جديد، وبالفعل تم إقامة احتفال كبير، وأعاد رئيس الأساقفة تتويج الملك ريتشارد الأول، وأقسم الجميع بالولاء، وقرر عدم إضاعة الوقت وقرر الانتقال إلى فرنسا فورا، لمعاقبة فيليب ملك فرنسا على تعدياته وعدم التزامه بوعوده، وحط في نورنامدي حيث اختبأ شقيقه، الذي ما أن عاد ريتشارد حتى فزع، وترك كل شيء وهرب إلى نورماندي في فرنسا خوفا من انتقام ريتشارد، وأصدر ريتشارد تحذيرا إنه إذا لم يسلم نفسه خلال 40 يوما، سيتم مصادرة كل أملاكه ونفيه من إنجلترا للأبد.

وعند وصول ريتشارد إلى نورماندي، كان قد اتفق مع ملك فرنسا على المقاومة، لكن ما أن بدأ ريتشارد حملته على فرنسا، حتى جاءه جون ذليلا يطلب الرحمة والمغفرة، ترتعش قدماه ووجهه شاحب من الخوف، وحثت والدتهما اليانور ريتشارد للعفو عن شقيقه، حتى وافق ريتشارد لكن جرده من كل المناصب، وحدد أملاك معينة له ليكسر شوكته، وصادر ما تبقى، أما زوجة ريتشارد فقد عاملها ببرودة مفاجئ، وتجاهلها تماما بلا سبب واضح، وقاد حياة من المجون والخطيئة، مع مرافقين من الرجال والنساء، حتى وصلت سمعته أوروبا كلها، ودخل بها الفصل الأخير من حياته.

  • مراجع
  • -Plantagenets: The Warrior Kings Who Invented England
  • History Makers Richard I: The Lion Heart
  • -Lionheart: The True Story of England’s Crusader King
  • -Richard I: The Crusader King
  • -History of England, David Hume
  • -Kings & Queens of England: Normans, Alan Ereira

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: عمرو عدوي

تدقيق لغوي: بيسان صلاح

اترك تعليقا