أشكال الاحتجاجات المعاصرة
منذُ سبعيناتِ القرنِ الواحدِ والعشرين، والعالم العربيّ يعيشُ بين مدٍّ وجزرٍ على المستوى الثقافيّ والسياسيّ والاجتماعيّ، وقد كانت الآلةُ المحرِّكةُ لهذهِ الذبذبات هي فئةُ الشَّبابِ بالأساسِ، والتي هي في كل مرة ضد كل التوقعات؛ ذلك أنه رغم تعمُّدِ تغييبهم وتصحيرهم ثقافيًا وسياسيًا؛ إلا أنَّهم ما لبثوا أن يخلقوا لأنفسهم مجالًا ليقولوا: ”نحن هنا”.
وكانت أشكالُ وجودهم مُواكبةً لمتغيراتِ العصرِ؛ حيث قاموا بتثوير الأشكالِ التَّقليديةِ للتَّعبير واستبدالِها بوسائلَ ذاتَ بعدٍ فنيٍّ، لعلَّ أهمها الألتراس والغرافيتي التي من خلالها جعلوا من الجمادِ (الملاعب والجدران) أداةً ناطقةً ليس فقط للتعبيرِ عنهم كأفرادٍ بل أيضا عن فئاتٍ شعبيةٍ عريضةٍ.
تكمنُ أهميةُ الموضوعِ في دراسةِ الأشكالِ الاحتجاجيةِ المعاصرةِ والتي سأخصصها لكلٍّ من حركةِ الألتراس بالمغرب في ظل الحكم الملكيّ، وحركة الغرافيتي بتونس في ظل حكم زين العابدين بن علي (قبل 2011)، وسأركّزُ على تحوّل هذه المجموعات لأداةِ نضالٍ ضدَّ الواقع وأهم الرِّهاناتِ حولها. ذلك أن هذه المجموعات لم تحظَ بالقدر الكافي من الدراسةِ، وأغلب البحوث التي تطرقتُ إليها درستها في بعدها الفنيّ والرياضيّ.
كلُّ هذه الأفكار تتمحورُ حولَ إشكاليةٍ مركزيةٍ وهي: إلى أيّ مدىً لعبت كل من الألتراس بالمغرب والغرافيتيّ بتونس دورًا في تغيير الوضع السياسيّ والاجتماعيّ؟.
I- مفهوم الغرافيتي والألتراس وأين يمكن تصنيفهم
1-مفهوم الألتراس والغرافيتي
كما سبق الذِّكر فإنَّ هذه المجموعات هي حديثةُ التكوينِ وحديثةُ الدخول إلى الحقل البحثيّ والأكاديميّ؛ لذلك فإن تعريفها أمرًا مهمًا لوضعِ النّقاطِ على الحروفِ عملًا بمقولة :”قبل أن تتحدث معي حدد مصطلحاتك”.
أ-مفهوم الألتراس
“هي كلمةٌ لاتينيةٌ تعني الشيءَ الفائقَ أو الزائدَ، وهي فئةٌ من مشجعي الفرقِ الرّياضية والمعروفة بانتمائها وولائها الشّديد لفرقها”؛ حيث تتواجد بشكل أكبر بين محبي الرّياضة في أوروبا وأمريكا الجنوبيةِ وحديثًا في دول شمال أفريقيا. وأهمُّ أساليب اشتغالِ هذه المجموعات نجده في استخدامهم الألعاب النّارية “الشماريخ” كما يطلق عليها خاصة في دول شمال أفريقيا.
أول ظهورٍ لهذه المجموعاتِ كان في البرازيل؛ حيث عُرفت باسم “تورسيد”، وبما أن موضوع بحثي يهتم بالمغرب الأقصى فالسؤال: متى كان ظهورها في هذا البلد؟. يعود إنشاؤها إلى أواخر القرن العشرين؛ حيث تضمُّ أكثرَ من 50 مجموعةٍ ألتراس تتقدمهم مجموعة “الويننر” التي تشجع جمعيةَ الوداد و”الجرينبوين” التي تشجعُ فريقَ الرجاء البيضاويّ.
ب_مفهوم الغرافيتي
“هو جمعٌ بين الكلمةِ الإيطاليَّةِ “غرافيتو” وتعني الخدشَ الذي يتكون منه الكلمات أو الرسوم على الجدران التي تُعبِّر عن الطبقات المحرومة من الحرّيّة بالأساس”.
“تتألفُ كلمةُ غرافيتيّ من عبارتين “التاغ” و “الغراف”. تعني الكلمةُ الأولى التوقيعَ المشفًّر لفنان الغرافيتي الذي يكتب رأيه واحتجاجه على الجدار، وتعني عبارةُ غراف الرُّسومات”.
تاريخيًا يعتبرُ رسما على الجدران والحجارة قديما، منذ كانت الجداريةُ وسيلةَ اتّصالٍ بين الإنسان ومحيطه، وهي التي مكّنتنا من التّعرف على عديدٍ من الحضارات كالحضارةِ المصريّة، والرومانيّة، والإغريقية؛ لكن كفنٍّ غرافيتي فإن ظهوره حديثًا؛ حيث كانت البدايةُ في الولايات المتّحدة الأمريكيّة في ستينات القرن الماضي وانتشر في بقيةِ العالم ومنها الدُّول العربيّة. والسؤال الذي يطرح : أين يمكن تصنيف هذه المجموعات؟.
2- هل أن الألتراس والغرافيتي حركات اجتماعية؟
هذه الحركات الجديدة وعلى الرغم من حداثةِ وجودِها إلا أنّها أثبتت فاعليَّتها كمجموعاتٍ شبابيةٍ بالأساس، قادرة على التّغيير ومقارعةِ السُّلطة السّياسيّة مهما كان حجمها. لذلك السؤال الذي يُلِحُّ علينا في هذا الباب هو: هل يمكن تصنيفها كحركاتٍ اجتماعيّةٍ؟
إنَّ تعريفَ الحركاتِ الاجتماعيّةِ هو أنها :” تلك الجهود المنظّمة التي يبذلها مجموعةٌ من المواطنين بهدف تغييرِ الأوضاع والسيًّاسات أو الهياكلَ القائمة لتكون أكثر اقترابًا من القيم الفلسفيّة التي تؤمن بها الحركة”، كما أنها أيضًا :” مجموعات من البشر يحملون عقيدةً أو أفكارًا مشتركةً ويحاولون تحقيق بعض الأهداف العامة”، تنطبق على موصفات حركة الألتراس، التي تتوفّرُ فيها أيضًا شروطُ الحركة الاجتماعيّة التي وضعها تشارلز تلي وأهمّها:“الجدارة والوحدة والزخم العددي والالتزام تجاه أنفسهم وتجاه قاعدتهم الشّعبية” وخاصةً مبدأ الجدارة التي يعتبرها سمةُ من سمات الحركة الاجتماعية بما أنها “التمثلات العامة المتعلقة بجدارة القضية مثل وحدة الحركة وأعداد المنضمين لها ومستوى الالتزام بها”.
أما الغرافيتي؛ فإنها تتميز بفرادتها كعمل فني لشبابٍ يعيشون على الهامش، لكنهم قادرون أن يجعلوا لأعمالهم الفنية أصواتًا تُسمع. وغالبًا ما تكون هذه الأعمال مبادرةً من قبل فردٍ أو مجموعاتٍ صغيرةٍ مثل: “مجموعة زواولة في تونس”. لذلك فإنها تندرج فيما يصطلح عليه (آصف بيات): “اللا حركات اجتماعية” بكونها حركاتٍ فرديةُ “تتجه إلى استهلاك كل ما هو عام والحضور الفيزيقي الذي يَخلق صراعًا بين الأفراد وبين الدولة”؛ حيث إنها لا تكون مؤطّرةً لا ضمن تنظيمٍ أو حزبٍ أو جمعيةٍ ويكون الهدف منها التغيير والإصلاح أكثر منه الثورة.
وتشترك مجموعة الغرافيتي والألتراس فيما يصطلح عليه(آصف بيات) بفن الحضور بمعنى أنه رغم أن حضورهم مناسباتي إلا أن له فاعليةً وسرعان ما يلفت الأنظار. وأيضا هذه المجموعات تعتمد سياسةَ المرح التي تُوظِّف كل ما هو فنيّ كالموسيقى والرّسم، والشّعر، فكيف استطاعت هذه المجموعات تحويلَ هذا البعد الفني إلى أداة نضالٍ ضد الواقع؟
II-من الفن إلى التَّمرد:
يجبُ التنويه بأمرٍ مهم هو أن هذه الأشكال الفنية لم تكن مطالبُها في الأوّل سياسية؛ فالألتراس كان الهدف من تكوينه ونشاطه رياضيًا بحتًا، ارتبط فقط بكرة القدم ولم يكن له أي انتماء سياسيّ، أو هدف لتحويل الملاعب إلى مصدحٍ سياسيّ. نفس الشيء كان بالنسبة للغرافيتي الذي كان تعبيرًا جماليًا عن الحُبّ،أو الفنّ، أو الولاء لمجموعةٍ رياضيةٍ، وكان العديدُ يجربها من باب المغامرةِ، والبحثٍ عن التّسلية. ومن هذا المنطلق رحَّبت السّلطات بذلك في البداية؛ حيث أرادت من خلال خلق مساحات أن تضبِط شعوبها لتجنُّب أي انفلات أوتجاوز، خاصةً بالنسبة للألتراس؛ ذلك أنها كانت تدرك أهمية الرّياضة وخاصة كرة القدم، كوسيلةٍ لتلهية الشّعوب عن عديد القضايا باعتبارها “أفيون العصر”. وهنا تحضر بقوة نظرية (ميشال فوكو) حول العلاقة بيت السُّلطة والمعرفة؛ ذلك أن (فوكو) يشبه كل هذه الفضاءات العمومية التي تحدثها الدولة بأنها تؤدي نفس وظائف السجون، والمَصحَّات العقليةِ، وهو أن تحدد وتضبط وتسيطر، وهي أهم رهانات الحكومات تجاه شعوبها؛ لكن السُّؤال الذي يطرح هو: إلى أي مدى ستنجح هذه الحكومات في كسب الرّهان؟.
إنَّ استراتيجيات الدولة لإخضاع الشعب من خلال الملاعب، لم تصمد كثيرُا أمام تكتيكات الجماهير، التي لم تَعُد ترى في الملعب مكانًا للهزيج وتشجيع فريقها فقط، بقدر ما أصبح كيانًا يوحِّدُهم، وانتماءً يعوِّض اغترابهم عن وطنهم الذي همَّشَهم؛ فتفننوا في ابتكار طرقٍ تراوحت بين الكلمة والكتابة؛ للتعبير عن تمرُّدهم ومطالبهم سواء منه السياسية، ذلك “أن عقيدة الالتراس أعلنت العداء المباشر في أكثر من مرة لك لأجهزة الدولة“، وخاصة البوليس من خلال رفع شعار تشترك فيه جميع مجموعات الألتراس وهو: ”كل الشرطة أوغاد”. واستطاعت بذلك قول ما عجز عن قولة معارضون سياسيون؛ نظرًا لتمييزهم بلغةٍ اختلفت عن السائد، وعن اللغة الرّسميّة للدولة، فعبَّروا عن تطلعِهم للحرّية بنقدهم لسياسة تكميم الأفواه، والقمع الذي تمارسه الدولة وذلك بترديد هذه الكلمات:
الحرية الحرية الي نبغيها يا ربي
الحرية الحرية الي تفاجئ ليا قلبي
بذلك أصبحت الملاعب بديلًا لهم عن قنوات التواصل الرّسمية والبرلمانات والأحزاب السياسية. ورغم استراتيجيات الدولة التي تسعى لتغييبهم عن واقعهم؛ إلا أنَّ هؤلاء الشباب ما لبثوا أن يؤكدوا وعيهم بسياسة الحكومة التي تعمل تحت شعار: ”قولوا ماتريدون ونحن نفعل مانريد”
هادي بلاد الحكرةودموعنا فيها سالوا
العيشة فيها مرة مكذبوش الي قالوا
قاتلونا بالهدرة ما شوفنا فيها والوا
ولم يقتصر الألتراس على كشف الاستبداد الذي يرهقهم بل كانوا خير معبِّرٍ عن الوضع الاجتماعي وتعرية مايعيشون فيه من فقر وتهميش؛ بإعلانهم أنهم صوت أغلبية الشَّعب، والناطق الرّسميّ باسمهم:
بصوت الشعب لمقموع بصوت الناس المهمومة
جاي نغني جاي نقول جاي نكلاشي لحكومة
كما أن هذه الجماهير لم تكن معزولة عما يحدث في مختلف مجالات البلاد منها الثقافيَّة، التي اعتبروا أنها تعبر عن كل شي إلا الثقافة بسبب فساد المسؤولين. ومثال على ذلك مهرجان “موازيين” المغربي الذي يعتبر من أشهر المهرجانات على المستوى الوطنيّ والعالميّ؛ حيث وصفوا مسؤوليه بالمافيا:
في موازين، شاكيرا راهي خذات مليار
حنا لينا صغيرة ما شفناها فيه اوالوا
بربي مافيا كبيرة كل شي ولى شقار
في وجه كل هذه المعيقات التي تحول دون اندماجهم في الوطن، لم يلبثوا أن يعلنوا عن اغترابهم داخل دولتهم ومجتمعهم الذي لم يعد يُشبههم أو يُشبه طموحاتهم؛ فكانوا دائمًا يردِّدون رغبتهم في الهجرة، والبحث عن موطن يحترمهم بصفتهم مواطنين. وكان هذا تقريبًا مطلب أغلب الشباب في الوطن العربي، وهو ما تُبيّنه سواء الإحصائيات المتعلقة بالهجرة غير الشرعية، أو هجرة الأدمغة:
ساكدو في ظهري والغربة بين عنيا
قطعني اودير مزيا يا بحري
هنا ناضايع صغري ربي العالم بيا
كما أن الألتراس لم تكن ذاتَ طابعٍ محليّ، بل كانت تُعبٍّر عن بنيات سياسيَّة واجتماعيَّة واقتصاديَّة تشترك فيها أغلب الدُّول العربيَّة؛ لذلك كانوا يعلنون تضامهم مع أغلب قضايا الشعوب التي تتجاوز المجال المحليّ، وكانوا يعتمدون على كلماتٍ بلغات أجنبية لتصل وتكون أكثر تأثيرا. ومن بين أهم القضايا العربية التي كانت على رأس قضاياهم، نجد القضية الفلسطينية حيث كانوا يرددون:
يا رفح ورام الله أمتنا راهي مريضة
مرضوها بالمشاكل وفساد الحكومة
والعربي عايشفي الويل مستقبل كله ظلمات.
هكذا عبرت حركة الألتراس في المغرب عن قضايا شملت كل المجلات، ومست كل الأطياف الاجتماعيّة، ولم تقتصر فقط على قضايا محلية بل حاولت التعبير عن أمراض يشترك فيها العالم العربيّ؛ فكيف ستكون طريقة التعبير مع الغرافيتيّ في تونس؟
الغرافيتي كان مُتنفسًا بالنسبة للشباب، وكسر كل تصور نمطي مفاده أن اللون الأبيض هو دائما تعبيرٌ عن السّلام، والهدوء، والنّظافة. فأتت الراديكالية الجدارية؛ لتحارب هذه الصورة؛ “فيتحول الغرافيتي بهذه الطريقة بألوانه وأشكاله إلى وسيلة للتعبير عن مواقف سياسية”.
ومن هنا أصبحت الجدران ناطقةً ضدّ السّلطات، وعرت هذه الرسوم سياستهم ” فمن خلال موجة الغرافيتي والكتابات والرسوم والخربشات، جرت إعادة ابتكار المكان العام كفضاء لمنازعة سياسية محفورة على جدارية”. ومن خلالها استطاع الشباب اختراق المنظومة التقليدية، وإعادة صياغتها من جديد، وخلقوا من الجدار بديلًا للتواصل والنقاش وإبداء الرأي بعد إقصائهم من الحياة السياسية؛ فمثال السلطة التي تضع صورة الرئيس على جدارية يأتي من يكتب عليها ” ارحل”، “طاغية”، أو “لاتمثلنا”…”؛ وبهذه الطريقة فرض الشباب نفسه كفاعل وصاحب راي بعد ما تعمدت السلطات إقصائهم. وأصبحت رمزية الغرافيتي أنها تجسد “أفعال وصراع يتغلب فيهما المواطن الفرد على الديكتاتور في كل مرة يتخلص من رمز له”.
وفي تونس شكلت هذه الجدارية مرآة للشّباب حيث لم يجدوا سوى الحائط الذي يتفاعل معهم، ويتحمّل أعبائهم ”فقط اضطربت المعايير وموازيين المنطق السائد في الثورة التونسية وبرزت مجالات جديدة ولَّدت اختلالا واضحا سببه هذه الشعارات المرشومة على جدران في المكان العام”. واتخذوا من الجدار بديلًا عن قنوات الاتصال الرسمية فتحول الحائط إلى جريدة دون دورية ولا رئيس تحرير، وعبَّروا بطريقة بسيطة وعبارات قوية وجريئة بعيدًا عن اللُّغة المعقّدة الخشبية؛ “فجدار القصبة أصبح كالورق، الجميع يخربش ويكتب ويرسم فر ويترك أثرا عليه باستمرار كما أن الجدار تحول الى فضاء رحب لا يرفض أي تدخل”. فتراوحت هذه الرسوم بين مطالب اجتماعية للتعبير عن الفقر والتهميش من خلال سؤال: ”إلى متى زووالة؟” يعني “إلى متى فقراء؟”
وهذه الجداريات كانت تنمو بين تشققات المدينة، وفي أماكن استراتيجية حيث المراكز السياسية والحضارية للفت الانتباه، ولإيصال صوت مطالب المهمّشين الذين يعيشون في الأطراف؛ فيختلط الهامش بالمركز لتكون الرّسالة أقوى وخاصةً عندما تكون ذات بعدٍ سياسيّ تُعبّر عن رفض دولة البوليس، كهذه الجدارية:
ومن هنا أصبحت هذه الجداريات وثيقةً توثيقيةً تاريخيةً تقارع التاريخ الرّسميّ والأرشيفات؛ بل يذهبون إلى أكثر من ذلك أنَّ التاريخ الذي كُتبَ هو “مزور” ويجب مراجعته؛ وذلك من خلال نحت مقولة إدوارد سعيد “على المثقفين أن يكونوا شهودا، يشهدون على سوء استخدام التاريخ”. لذلك تقوم هذه المجموعات بتوثيق ونحت صور لشخصيّات فارقةٍ ومؤثّرةٍ وسجناء رأي لم تأخذهم الرّوايات الرّسميّة، لتجسد بذلك الجداريات ذاكرةً تمتد لأجيال تؤرخ لوضعهم الاقتصاديّ والاجتماعيّ والسياسي، ولتفرض نفسها كمصدر للتأريخ في العصر الرّاهن.
هذه المجموعات أزالت السّتار عن واقعٍ سياسيّ واجتماعيّ وثقافيّ من خلال أغان ورسومات، وهنا يكون الفن والإبداع وسيلة مقاومة وتجسيدًا لوجودهم. حيث تكمن أهميّة الفن في حياة الإنسان على رأي نيتشه الذي يتّفق مع جيل دولوز بأن له بعد نضاليّ هام للاستمرار بقوله: “لنا الفن كي لا يقتلنا الواقع”. وهو ما يؤكد أن العمل الفنيّ هو محاولة راديكالية لفهم المجتمع واستيعاب الواقع ومقاومة الموت الفكري؛ لكن السؤال إلى أي مدى استطاعت هذه المجموعات تحقيق أهدافها؟.
III-حدود هذه المجموعات:
إن هذه المجموعات الشّبابيّة صالحت فئةً كبيرةً من الشّعب مع وطنهم، وزادت في الشعور بالانتماء والمواطنة، من خلال ابتكار مجالات تشبهها وتعبّر عنها. ورغم تعرّضهم للملاحقة والضغط إلا أنهم استمروا في نشاطهم واستمروا في التمرد على الجماد سواء ملاعب أوجدران، لكن نتيجة نشاط هذه المجموعات لم تكن نفسها؛ ففي تونس كانت حركة الغرافيتي من بين الحركات التي ساهمت في تفعيل تلك الشِّعارات والرُّسوم وتحويلها إلى ثورة، نتيجة تضافر عدة عوامل لعلّ أهمها؛ الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافية، وكلّ هذه التراكمات كانت تنتظر في القطرة التي ستفيض الكأس والتي كانت مع محمد البوعزيزي يوم (17 ديسمبر 2010). أما المغرب فرغم استمرارية الألتراس في جعل الملاعب الصوت الحقيقي للشعب، وتحول الهتافات إلى شعارات سياسيّة بامتياز، إلا أنها لم تنجح في تحويل هذا الغضب من الملعب الى الشّارع رغم حدوث تحرّكات قليلة ولعل أبرزها؛ حراك الريف. ويعود ذلك أساسًا إلى طبيعة النّظام الملكيّ وأيضًا إلى غياب الوحدة الوطنية والأهداف المشتركة في علاقة بالسلطة نظرا لوجود انقسام بين العنصر العربي والأمازيغي، لكن خاصة لوجود قطيعة بين الأجيال، بين شباب منفتح على أفكار جديدة، ومواكب للتكنولوجيا والتقنيات، وفي المقابل سلطة قبلية يرأسها مشايخ لهم الولاء المطلق للملك الذي يجسّد صورة الأب الرّوحيّ؛ لذلك ظلّت فئة الشباب ”أقلية” ليس بالمعنى العددي بقدر ما هي بالمعنى الفكريّ.
خاتمة
ما بين “نحن هنا” و ”مررنا من هنا”، عكست الملاعب والجدران دون أي تزييف واقعًا سياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا لطالما أرادت الحكومات إخفاءه بعبارات منمّقة، وصور جميلة، لكن هذه المجموعات عرّت هذه السياسات من خلال مطالب تراوحت بين الحرّية، والكرامة، والعدالة الاجتماعيّة. ورغم الضغوطات المتكررة إلا أنًّ هذه المجموعات استطاعت الانتقال من الهامشية إلى الاعتراف؛ إذ تحولت في تونس إلى ثورة جسَّدت عديدا من الطموحات وواصلت في بلد كالمغرب هتافاتها ضد الظّلم والوضع السياسيّ والاجتماعيّ على أمل تحولها لثورةٍ قادرةٍ على التغيير. لكن أمام صعود هذه الحركات الفردية أو الجماعيّة المعاصرة والمواكبة للمتغيرات وإثبات قوّتها في كسب شعبية على المستوى المحليّ خاصة، يبقى السؤال المطروح: هل يمكن لهذه المجموعات أن تنافس التنظيمات والأحزاب السياسيّة التقليديّة في المشهد السياسيّ المستقبليّ؟
بيبليوغرافيا: 1 البوسالمي، ضياء غرافيتي الشارع التونسي: مقاومة على طريقة مررنا من هنا، فن وهندسة،2017. 2- بيات، آصف، الحياة السياسية: كيف يغير بسطاء الناس الشرق الأوسط؟، ترجمة أحمد زايد، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2014. 3- تلي،تشارلز، الحركات الاجتماعية 1768-2004، ترجمة وتقديم، ربيع وهبة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2005.3- تلي،تشارلز، الحركات الاجتماعية 1768-2004، ترجمة وتقديم، ربيع وهبة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2005. 4- خلف، مي، بين التعبيير والتغيير: نافذة على فن الغرافيتي في المدن العربية، الخليج أون لاين ،2016. 5- سقسوق، عبير، بكداش، نادين، الغرافيتي في الثورات العربية المصالحة مع الغرافيتي في الثورات العربية المصالحة مع الجدران، مجلة الدراسات الفلسطنية عدد 89، 2012. 6- عبد المقصود، خباب، الغرافيتي… فن الثورة في شوارع تونس، العربي الجديد،2017. 7- مجموعة باحثين، أزمات الأولتراس بين الرياضة والسياسة، مركز هردو لدعم التعبير الرقمي، القاهرة، 2016. 8- Btes, Lindsay, bambing, tagging, writing: an analysis of the significance of graffiti and street art, university of Pennsylvania,2014. 9- Mrabi, Mohamed Ali, mouvements ULTRAS, plus que des sporters,uneideologie,economiste,edi n’4063,2013. 10- . ZOLMER, THEREZA, Concepts of graffiti: much more than just art,universite. Athabasca,Canada,2007Momer Almari, political activistis or violents fans? Understanding the Morocco ULTRAS:perspectivethrought social media, SIT institute,2019.