ميشال فوكو عربيًا

مقدِّمة:
برزت تساؤُلات كثيرة من قبل مؤرخين وفلاسفة وأنثروبلوجين؛ حول الذات وعلاقتها بالآخر والسلطة والمجتمع والموروث الثقافي والحضاري، هذه التساؤلات التي ساهمت في تقويض العديد من المُسلمات الكلاسيكية المُتوارثة -خاصة منها الفكرية- وأسست لمنهج فلسفي وتاريخي جديد في العالم الغربي خاصة. ولعلّ من أهم الأسماء التي برزت في هذا الإطار نجد ميشال فوكو -وهنا اختيار فوكو ليس فقط لأنه من بين من جسد هذه القطيعة الفكرية والفلسفية، بل لأنه أيضا جسد حلقة تفاعل والتقاء بين الفكر الغربي والفكر العربي-.

هذا التفاعل تجسدّ أولا بمعرفته المباشرة بجزء من العالم العربي (أقامته في تونس) وتأثيره على عديد النخب العربية الذين أعادوا قراءة مُجتمعاتهم على ضوء كتابات فوكو وما تحمله من نظريات ومصطلحات جديدة، وثانيا ببُرز تيار فكري كامل مُتخصّص في فكر فوكو لعلّ أبرزهم الزوواي بغورة، مطاع الصفدي، فتحي التريكي. وهو ما نتج عنه تطوّر فكري ومعرفي شمل بدرجة أولى الفلسفة والتاريخ وغيرها من العلوم. ورغم انقسام الأوساط الفكرية في تلك الفترة بين من رأى هذا التقابل فُرصة للإثراء والتقدّم الثقافي وبين من رأه مزيد من التبعية الثقافية للغرب، فإنّه في كل الحالات شكّل لحظة مُهمة وفارقة خاصة في الفكر العربي.

أهمية الموضوع، أنني سأتطرق إلى فلسفة ميشال فوكو كحلقة وصل بين العالمين على المستوى الفكري من خلال دراسة كيفية تأثّره وتأثيره في العالم العربي، عبر طرح إشكالية محورية وهي:

كيف نستطيع قراءة ميشال فوكو عربيا؟

عَلاقة ميشال فوكو بالعالم العربي علاقة تأثّر وتأثير، لم تكن مُرتبطة فقط بالكُتب بقدر ما كانت معرفة مباشرة بالمجتمع العربي، فكان لهذه المعرفة دورا في تغيير فكره على حد تعبيره. وهنا نتحدّث عن تجربته في تونس والتي قضى فيها سنتان كأستاذ -وتزامن ذلك مع أحداث- 1968 حيث شكّلت هذه التجربة مُنعرجا هاما في تفكيره الفلسفي، إذ يقول “لم يكن ماي 1968 تقريبا هو من غيرني، بل مارس 1968 في بلد من العالم الثالث”.

ومن خلال هذه التجربة قام بنوع من المراجعات السياسية والمَعرفية، أهمّها علاقة الفكر المَاركسي بالشباب حيث يقول

إعلان

”أنّ الماركسية لم تكن بالنسبة لهم طريقة تحليل الواقع، بل نوع من القوة الأخلاقية أسقطت الوهم عنّي، أشعر بالمرارة في الفروق بين ما كان عليه التونسيون الماركسيون وما كُنت أعرفه عن تشكيلات الماركسية في أوروبا”.

كما كانت هذه التجربة فرصة لبلورة أهم أفكاره لعلّ أهمها دور المُثقف، وذلك من خلال وقوفه إلى جانب الطلبة، إذ كان يرى في ذلك التزاما ماديا وأخلاقيا بعد أن كان يَعتقدُ أنّ المُفكر مُطالب أن يكون بعيدا عن كل ممارسة اجتماعية وسياسية، وانغمس فوكو في هذا الواقع لفهمه وصياغته، خاصة في علاقة تعامل السلطة مع الطلبة. هذه التجربة جعلته ينخرط ويندمج في الحياة الاجتماعية والسياسية ويطرح عديد الأسئلة حول السُجون والسُلطة، وهو ما أكدّه فتحي التريكي عند تحدثه عن فوكو بقوله: ” في اعترافه في كثير المقالات والحوارات بتحوله واعتناقه أفكار يسارية قادته فيما بعد إلى مُمارسات نضالية ضد السجون وضد المُعتقلات تقريبا”، وكل ذلك بلوره في مُؤلفه الشهير الذي خطّه في تونس تحت عنوان “حفريات المَعرفة” -والذي شكّل اللَبنات الأولى في التفكير الفلسفي-.

أمّا مرحلة التأثير فكانت خاصةً عن طريق كِتاباته وفلسفته التي حظيت بقدر كبير من الحفاوة في الفكر العربي ولا تزال بصمتها حاضرة إلى اليوم. ويعود ذلك إلى تميّز فكر فوكو ”بالتنوع والتَعدُد والاختلاف ولعلّ هذا الجانب هو الذي أضفى قدرا من الحيوية على الدراسات الفوكيوية في العالم العربي”. حيث كانت الاستفادة الكُبرى من هذا الفكر على مُستوى الحقل المفاهيمي والمُصطلحات، خاصة أن فوكو يصف نصوصه بـ“عُلبة أدوات” مُتاحة لكل قارئ، ولها أهميّة في تحليل الواقع وفهم الحاضر لغاية تغيير الذات. وأوّل من وظّف هذه المصطلحات نجد محمد عابد الجابري، الذي استند إلى منهج فوكو في البحث عن التّكوين الجينالوجي للفكر العربي. حيث وظّف مسألة الخطاب لدى ميشال فوكو في كتابه “الخطاب العربي المعاصر” الذي ربط فيه الإخفاق النهضوي بالخطاب الذي صاغه الرُواد والمُفكرين العرب في مجال النهضة، والقوميّة، والتاريخ، والفلسفة. كما وظّف الابستمية في كتابه “تكوين العقل العربي” الذي نَقل فيه الجابري الصراع من مجال السياسة والأيديولوجيا إلى مَجال النُظم المَعرفية للثقافة العربية، واقتبس مفهوم السلطة في كتابه “العقل السياسي العربي: مُحدداته وتجلياته”.

وعبر هذه البراديغمات أراد الجابري بناء خطاب فلسفي عربي مُعاصر، وما يُحسب له هو عدم سقوطه في الاسقاطات وقدرته على تكييف هذه المفاهيم، أي “تبيئتها”، مع خُصوصية المُجتمعات العربية من خلال النَقد وإبداء الرأي، مُتجاوزا بذلك الإكراهات الثقافية والأيديلوجية الموجودة.
لكن يظلّ أهم من استفاد من فكر فوكو هو محمد أركون الذي أحدث ثورة في مجال الدراسات الإسلامية العربية المُعاصرة مُشابهة بالثورة المَعرفية التي أحدثها فوكو في علاقة بالفلسفات الكلاسيكية. فكان أن تلقى فلسفة فوكو بعقل مُنفتح وناقد واستفاد من عديد المصطلحات لعلّ أهمّها، المعرفة والسُلطة في دراسته لظهور العلمانية في التاريخ الإسلامي. وقام بتوظيف مفاهيم وأدوات “فوكوية” في إطار مشروعه الرامي إلى تحديث الفكر العربي انطلاقا من منهجيات ونظريات حديثة قائمة على نقد الحداثة نفسها والتي مثلّها خاصة فوكو. منهجيا استفاد من “الحفر الأركيلوجي”، في دراسة الفكر الإسلامي وتفكيكه وجعله موضوع مُساءلة من خلال الحفر في بنية العقل العربي، قصد معرفة القيم والرُؤى المعرفية والثقافية وإعادة قراءتها بعُمق وفق الواقع.

وذلك لغاية الكشف عن المرئي واللاّ مرئي، وهو نفس البحث الأركيلوجي الذي اعتمده فوكو في دراساته حول الجُنون والعقاب والسلطة، وبنفس الطريقة. وبذلك يُعتبر أركون من القلائل الذين خاضوا غمار البحث في أركيلوجيا العقل العربي مُرتكزا أساسا على أدوات منهجية كالنقد والتفكيك، وقناعة معرفية بأن التُراث الإسلامي سواء كان شفويا أو كتابيا شأنه شأن باقي الأديان يمكن إخضاعه للمُساءلة، مراهنا من خلال ذلك على كشف اللاّ مفكر فيه. والمُتأمل في كتابه “اللّا مفكر فيه في الفكر الإسلامي” يجده يتحدث عن موضوعات وقضايا اعتبرها الفكر الإسلامي من المُسلمات التي لا تحتمل النقاش، وهو ما جعل محمد أركون ينجح في تأسيس مفاهيم خاصة به مثل “المخيال واللاّ مفكر فيه”. كما استفاد أركون من منهج فوكو في تعامله مع التاريخ، -فوكو الذي بدوره تأثر بمدرسة الحوليات في طريقة التعامل مع الوثائق وعدم التوقف على الظاهر والمرئي فيها، بل تنقيبها وتفكيكها في مستوى العبارات والملفوظات-، اذ يختار أركون مجموعة من النُصوص لِقراءتها ومُسائلتها وهو منهج نسجه في كتابه “تاريخية الفكر الإسلامي”.

وهنا تكمن أهمية المُؤرخ النّاقد والمُؤسس لتاريخ علائقي ومُتقاطع من خلال رصده لمجموعة من التقاطعات المَعرفية في تاريخ الفكر الإسلامي التي أثرت في التاريخ العربي وفي مُجمل الفكر الإنساني، مُتجاوزا أركون بذلك التاريخ الحدثي القائم على السرديات التاريخية. لكن يكمن تأثير ميشال فوكو أساسا عند أركون في تعامله وقراءته للخطاب، من خلال تحليله للخطاب الديني باعتباره يُجسد سُلطة في التُراث العربي، وذلك بالنّظر إلى التركيب اللُغوي والمُصطلحات؛ وهنا لا يعني أبدا تجاوز سُلطة النص وإلغائها بقدر ما هو قِراءة جديدة في الخطاب الديني ومُقاربته عقلانيا للتمييز بين اللاّ مفكر فيه والمُمكن والمُستحيل التفكير فيه، حيث إنَّ”استعمال أركون للخطاب والملفوظ يتشابه مع تحليلات فوكو حول الخطاب والملفوظ الا أنهما يختلفان في المرجعية والمُمارسة والتطبيق”.

ومن المُفكرين العرب أيضا الذين لامسنا فيهم فِكر فوكو نجد فتحي التريكي، الذي اعتمد فلسفة فوكو ضمن مشروعه كما اصطلح عليه بـ“الفلسفة الشَريدة”. حيث طبق المفاهيم “الفوكوية” واستلهم التقنيات النقدية لقراءة التراث العربي مؤسسا بذلك مدرسة فلسفية عربية مُعاصرة، مُناهضة للفكر المذهبي والعقل الواحد. حيث ”تهدف أطروحة الفلسفة الشريدة على حد التعبير إلى تسليط الأضواء على الحالة التي وصل إليها التفلسف بعد أن تخلى عن إنتاج المذاهب والأنساق”. واعتماده النقد والتحرر من الكُليانية والماركسية والرأسمالية “من خلال تجميع المعلومات والأفكار ووصلها وتنسيقها ببعضها البعض لتشكل خطابات مختلفة تتداخل في العلوم المتنوعة من خلال المفاهيم والمناهج”.

هذه الفلسفة الشريدة لا تنحصر ضمن موضوع معين، بل تعتمد المنهج الأركيلوجي لإعطاء صوت من هُمشوا وأقصوا من التيارات الفلسفية الكلاسيكية، ذلك أنها أضحت فلسفة هائمة دون موضوع مُحدّد أو مقر خاص بها. وقدّمها التريكي بعديد التسميات والصور كمشروع ثوري في عالم الفلسفة مثل (“فلسفة التنوع، الفلسفة الشريدة وفلسفة الحداثة والفلسفة المفتوحة) و”مهما كانت التسميات مختلفة فإن المضمون واحد مع بعض الإضافة التي يُمليها البحث والتطوير وبقي الأساس واحد سواء على مستوى الموضوع أو المنهج أو الأهداف”.
كما احتل مفهوم السلطة الذي بلوره فوكو مكانة خاصة في الفلسفة الشريدة من خلال التمييز بين الدولة والسلطة، حيث يُقرّ التريكي أن حصر الدولة في الأجهزة القمعية والأيديلوجية غير كافٍ من أجل تحديد مفهوم السلطة العامة والسُلطة المركزية، فالسلطة مثل ما هي عند فوكو منتشرة في كل مكان “كذلك عند الفلسفة الشريدة تكمن في مستويات الحياة الاجتماعية كالعائلة والسجن والعلاقات الجنسية فالسلطة سابقة للدولة، بل هي التي تشكلها”.

خاتمة:

تكمن أهمية ميشال فوكو أنّه جعلنا نتحدث عن فلسفات، بعيدا عن معرفة أحادية مغلقة، وبفضل الأدوات المنهجية التي ابتكرها استطعنا قراءة واقعنا العربي كما هو، وفهم القضايا الراهنة التي نعيشها بعيدا عن خطابات الحنينية للماضي والتفاؤلية بالمستقبل. وذلك بفضل ثُلّة من المفكرين الذين اعتمدوا فلسفة فوكو ليس من باب “الموضة الفكرية” بل للإجابة عن تساؤلات كانت تُؤرقُهم، ولم يكتفوا فقط باقتباس الأدوات التحليلية الفوكوية بل كيَفوها حسب خُصوصيات المُجتمعات، وابتكروا مفاهيم جديدة أحدثت ثورة وقَطيعة مع الثقافة العربية والإسلامية السائدة.

بيبليوغرافيا

1 – أركون، محمد، من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي، ترجمة هاشم صالح، بيروت، دار الساقي، ط1، 1991.

2 – بغورة، الزواوي، ميشال فوكو في الفكر العربي المعاصر، دار الطليعة، بيروت، 2009.

3 – التريكي، فتحي اللحظة التونسية في فلسفة ميشال فوكو، تونس، 2010.

4 – الجابري، محمد عابد، تكوين العقل العربي، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1998.

5 – شرف الدين، فلسفة التنوع: فتحي التريكي أنموذجا، مجلة التدوين، مخبر الأنساق، عدد13، جامعة وهران،2011.

6 – عمر، أزراج، ميشال فوكو وحوار اعترافي: “تونس التي غيّرت فكري”، العرب، 2014.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: سهير بن سالم

تدقيق لغوي: رنا داود

اترك تعليقا