الإطار الفكري: لماذا نتباين فكريًا حول ما نعتقده حقًا مطلقًا؟
لكلٍ منا إطار محدَد يرى من خلاله ما يتفق مع هذا الإطار ويرفض كل ما يقع خارجه، الإطار الفكري كالمحدِد الذي يُوضع على عين الخيل حتى لا ترى غير الطريق الذي أمامها فلا تحيد عنه، وبالتالي نبقى مقيدين بهذا الأُفق الضيّق المحدود فلا نرى خارجه، وتصبح أي أفكار خارج إطارنا محض سفه، وفي تاريخ العلم ما لا يتسع له المجال للسرد ونذكر منها -على سبيل المثال-:
عندما اخترع أديسون محاكي الصوت (التسجيل) وعرضه في المعرض العلميّ بباريس قال البعض أنه من المستحيل تسجيل صوت الإنسان على إسطوانة من المعدن وأن أديسون يُخبئ شخصًا ما تحت منضدة يتكلم من حنجرته ليخدعهم.
إذ أنّ الإطار الفكري هو الذي يجعل البعض ضيقي الأفق وآخرون متميزين متعددي المدارك، ويُعزز قدرتهم على الخروج من هذا الإطار وإلقاء نظرة أوسع وهدم محدِدات الرؤية حتى يستطيع الولوج لأفكار وثقافات وآراء متعددة.
ولكن ما الذي يعمل على تكوين الإطار الفكري الخاصّ بنا؟ وهل كثرة الاطلاع فقط كافية لتوسيع مداركنا؟
للإجابة على هذا السؤال يجب أولًا التفرقة بين مصطلحين: (العلم، والثقافة)، ومن ثم التمييز بين الشخص المتعلم والشخص المثقف.
كلُُ منهما يشتركان في كثرة الاطلاع والقراءة والسعي نحو المعرفة، لكنهما يختلفان في إطارهما الفكريّ؛ فالشخص المتعلم لم يخرج من إطاره الفكريّ الذي قيده منذ صغره، فتجده يبحث ويقرأ عن مذهبه أو أفكاره بما يؤيد صحتها فتزداد مداركه ضيقًا ويزداد تعصبًا لمذهبه؛ فهو لا يتعلم إلا ما يثبت وجهة نظره فقط ولو كثرت قرائاته واطلاعاته.
أما الشخص المثقف تجده مرنًا، يتفحص جميع المذاهب والأفكار ولا يحدده إطار فكريّ أو حد معرفيّ، ولا يتوقف عند أفكار واحدة فيؤمن بها متعصبًا، بل تجده يتنقل بين ما يعتقد صحته بين الحين والآخر، وليس هذا ترددًا لكنه السعي نحو اكتشاف الحقيقة فلا يلبث إلا أن تظهر له حقائق أُخرى ببراهين قويّة حتى يصبو إليها.
يقول الدكتور “وليم جيمس”: “إن العقل البشريّ جزئيّ ومتحيز بطبيعته” ويرى الفيلسوف وليم أن العقل لا يمكنه الإبداع إذا كان مشتتًا غير قادر على التركيز في جزئية واحدة، فيجب على العقل المبدع التجزء في نظرته والتعصب لفكرته حتى يمتلك القدرة على الإبداع.
ولكن هذه النظرية إذا أخذناها على ظاهرها ستظهر أنها تعارض ما ندعو إليه، ولكن إن فسرناها كالآتي سنتفق معها..
فكلما ركن الفرد إلى وجهة نظر ما كان عليه لزامًا أن ينظر إلى جميع جوانبها وجهاتها ولا يكتفي بالنظرة السطحية لفكرة ما، وهذا ما يستدعي الدراسة الواعية التي نتكلم عنها والفكر المتقد. وإذا استمر الإنسان هكذا فإنه ما يلبث إلا أن يتنقل بين الحقائق ليشبع فضوله المعرفيّ؛ فكل حقيقة في هذا الوجود ما هي إلا مقدمة لشيء ما اشملت عليه. وهذا ما نطلق عليه “النظر خارج الإطار” حتى نستبين جميع الاتجاهات.
فترى بعضنا يقرأ كتابًا يُعجب به حد الهوس وترى صديقه يخالفه الرأي تماما، والسبب إنما يرجع إلى ذلك الإطار المحدِد لآرائنا، فكل فرد يحتكم في ذوقه إلى محدِدات وضعها عقله اللاشعوريّ، فأحدهم يميل لبساطة الأُسلوب ووضوح الفكرة والآخر يُفضّل الكلمات البليغة والغموض في إيصال المحتوى وكلُُ ينظر من أُفقه الضيق فقط.
وترى آخرين من المؤرخين يصدرون أحكامًا بصدد شخصيات تاريخيّة فتراهم يذمّون شخصًا ما وآخرين يضعونه موضع الإله وإذا أخبرتهم بعكس رأيهم يرمونك بالافتراء، لقد تناسى هؤلاء المؤرخون أن مقياس المعقول واللامعقول هو ذاتيّ ونسبيّ وليس مطلقًا أو خالدًا لذلك ستظل البشريّة مجبولة على الاختلاف طالما تعددت نسبيتهم.
إذًا فما من اختلاف بين حق وباطل، إنما هو بين حق وحق لذلك تكثر جملة (إن الحقيقة نسبية) نظرًا لأن كل العقول ترى الحقيقة من خلال إطارها الفكريّ.
فما هي الحقيقة التي يدّعي كل إنسان أنه يمتلكها؟
وهل هي نسبية أم مطلقة؟ نابعة من العقل أم من خارجه؟
انقسم الأقدمون إلى مذهبين:
الأول يرى أن العقل مرآة للحقيقة يعكسها فقط، بمعنى أن الحقيقة هنا تعتبر مطابقة العقل للواقع، فالحقيقة موجودة خارج العقل والعقل لا يخلق التصورات.
والثاني يرى أن الحقيقة بنت العقل ولا تُوجد حقيقة خارجة عنه، ولذلك تختلف الحقائق باختلاف العقول والأشخاص والحضارات، فالعقل وحده مقياس الحقيقة، لذلك يقولون أننا لا نرى الأشياء كما هي عليه وإنما نراها كما نريد، بمعنى أن العقل وحده يرى ما يريد رؤيته وليس ما يتوجب عليه رؤيته.
لكن العلم الحديث بعد قرون عدة لم يكتفِ بما سبق وتبنى فكرًا جديدًا وهو الفكر الحديث فعرّفوا الحقيقة كالتالي:
الحقيقة ذاتية وموضوعية في آن واحد؛ فهي تخلق الفكر ويخلقها، فكلُُ منهما سببُُ للآخر ونتاج له، فلا هي مستقلة بذاتها كما يقول البعض (حقيقة الشيء في ذاته) ولا العقل المجرد قادر على إدراكها بمعزل عن الحواس.
يقول “مانهايم” (أحد أعمدة المدرسة الحديثة في المنطق):”إن الحقيقة تكون خارج العقل والنظر إليها كما هي غيبية لا يدركها العقل كاملةً، بل ما نعتقد أنه حقيقة نراه في الواقع من منظور أُحاديّ يتناسب مع إدراكنا المحدود للأشياء، إذ لا يوجد في مفهومنا البشريّ ما يُعرف بالحقيقة المطلقة؛ فالحكم بالإطلاق لا يتناسب مع محددات العقل”
ومن ذلك يتبين لنا مفهوم آخر للحقيقة وهو أنها: “ملاءمة الواقع للفكر” وهذا ما يختلف عليه البشر، فكلُُ يطابق الواقع كما يريده هو وليس كما يجب أن يكون..
فالمشكلة ليست في أوجه الحق فقط وإنما في الإنسان نفسه، فهو بطبعه أنانيّ يجتهد ويتحذلق محاولًا جر النار إلى قرصه هو فقط، وعندئذٍ يكاد يجزم أنما يريد المصلحة العامة، ويرى الفرد آنذاك أن ما يصب في مصالحه يصب في مصلحة الجماعة، فتراه يدعو الناس إلى اتباعه فقط لتحقيق العدل المطلق والحريّة المطلقة. والحقيقة أن هذا محض هُراء؛ فلا يُوجد ما يُسمى بعدل مطلق أو حريّة مطلقة؛ لأن النسبية التي تُقام عليها الأحكام الأخلاقية لا تحتكم إلى حق وباطل وعدل وظلم لأن العدل كي يُقام فلا بد من الظلم، ولتحقيق الثراء لا بد من فقر آخرين، لذلك صدق القائل:
“إن الآليات المستخدمة لتحقيق الرخاء للإنسانيّة هي في طبيعتها لا إنسانية”.
ولذلك لا يعتقد المنطق الحديث بوجود العدل المطلق أو الظلم المطلق، فبعض الظلم ينفع أحيانًا، وظلم مجتمع ما قد يحقق العدل لمجتمع آخر، وحتى قياسًا على الأفراد فعقاب المجرم يُعتبر ظلمًا لإنسانيّته وربما تجد أن من يعاقبونه هم من يستحقون عقابًا أشد.
وخلاصة القول:
إن عناصر الإطار الفكريّ تنقسم كالتالي:
1-قيود نفسية: مثلًا كعشق إنسان لشخصيّة تاريخيّة وجد فيها إشباعًا لبعض رغباته المكبوتة كحب القوة -مثلًا- فهو يجد في نفسه نقصًا سدّته هذه الشخصيّة.
2-قيود اجتماعيّة: كصراع بين شخصين كلٍ منهما من طائفة مختلفة وكلٍ منهما يبرز البراهين والأدلة على أنه على حق، وحينما يجد أن الآخر غير مقتنع يأخذ بشتمه وسبّه لأنه متعصب ويرفض الحق، وهما بذلك كرجلين يقفان أمام هرم أحدهما يقول أن لونه أصفر والآخر يقول أن لونه أزرق، والواقع أن الهرم أصفر من ناحية وأزرق من الناحية الأُخرى. ولكن كلَ واحدٍ منهما ينظر للهرم من الناحيّة التي يقف عندها ولا يقبل أن يذهب للناحية الأُخرى ليتأكد منها.
3-قيود حضاريّة: وهي القيّم التي تختلف بين ثقافة وأُخرى كالعرب والغرب.
العدل والظلم والخير والشر إنما هي مشكلة معايير ومناظير ونسب قياسًا على مجتمعٍ ما، فلو تحقق العدل في مكان ما لعدد كبير من الأشخاص على حساب أشخاص آخرون أقل عددًا كان ذلك خيرًا لهؤلاء وشرًا لهؤلاء، فالأحكام المطلقة هنا لا وجود لها وإنما الحياة بطبيعتها نزاع بين المصالح المختلفة فحتى الغزاة والمحتلون يرون الحق من منظورهم الخاص.