التجديد في الخطاب الديني “هدم أم بناء”

نقد كتاب "جمهورية النبي" لعبد الرزاق الجبران

عبد الرزاق الجبران في كتابه “جمهورية النبي” يريد إنقاذ الرسول والرسالة التي جاء بها من الكهنوت وأحكام الفقهاء وتشويه أهل الدين له، وهذا ما فعله.. لكنّه من خلال بنائه لـ “جمهورية النبي” قد هدم جميع الثوابت فلم يبق لديه شيئًا حتى يشيد بناءه.

حاول عبد الرزاق الجبران إظهار الجوهر الإسلامي، وهو حقًا ما عناه بقوله “عودة إلى الوجودية الإسلامية”.
ففي هذا الكتاب دعوة إلى نبذ الاستحمار الديني وتقديس الكهنوت على مصلحة الدين والإنسانية، إنه الحلّ الأمثل للدفاع عن الإسلام في ظلّ الاتهامات التي تُنسَب إليه، كالقتل والسلب والسبي، التي تنفّر الكثير من هذه الإيدولوجيا. ورغم اختلافي مع الجبران في الكثير حول أسلوبه في تجديد الخطاب الديني وهدمه للتراث بالكامل، لكن دعونا نبيّن أن غاية الكاتب من هذا الكتاب هي إخراج جوهر الرسالة الإلهية من تحت عمامة الفقه وقبة المعبد، وإنقاذ النبي من افتراءات الإسلام التاريخي وتزوير بعض الفقهاء لأحكامه.

لمْ يُخفِ المفكّر عبد الرزاق الجبران في كتابه “جمهورية النبي” غضبه الشديد ونقمه على منظومة الفقه والتشريع بالكامل، وهذا ما أوقع الكاتب في أخطاء عديدة لم تقتصر على طريقته في الأسلوب والعرض فقط وإنما امتدت إلى أخطاء في الشواهد والتوثيق التاريخي، والجهل بالكثير من العلوم والأحداث والأحكام التاريخية، بالإضافة إلى المغالطات المنطقية التي لجأ إليها لتبرير موقفه من المنظومات الدينية بشكل عام.

دعونا نتطرق إلى بعض النقاط المثيرة للجدل في كتابه

_الوجودية الإسلامية التي تكلّم عنها جبران تجعل الإسلام دينًا متجردًا من كلّ العوامل المادية، فقط تجعله دينًا خاصًا بالروح وداخل الإنسان لا علاقة له بخارجها.

جبران يحاول أن يبعث صورة جديدة للدين، ويريد توحيد الديانات الكبرى كون جميع العقائد تتفق في موضوع الألوهية والخير والإنسانية، وما يطرحه جبران أمر مُغرٍ ومؤثر جدًا في نفسية القارئ المسلم، خاصة بعد تشويه (سمعة الإسلام) وتصوير الأصوليين المتشددين بأنهم زمرة الإسلام الوحيدة. ولكنّ جبران يريد أن يُحدِث تغييرًا جذريًا في مفهوم الإسلام الذي تربينا عليه ويكسر جميع القواعد الفقهية، ويؤسس بذلك مفهومًا إسلاميًا أو دينيًا مختلفًا تمامًا؛ حيث الصلاة والمسجد لا يشكّلان أية أهمية، وحيث لا فقهاء ولا طوائف دينية، إذ لا فرق بين مسلم وهندوسي إلا بالإنسانية..

إعلان

_ في المبدأ الذي اعتنقه جبران يُبطل كلّ مظاهر الشريعة وأحكامها، فكما يقولون (قد أخذ العاطل بالباطل)، فقد نفى القوانين التي من شيمها تنظيم المعاملات والأحكام بين الناس، فيقول الكاتب “إن الزواج هو شريعة الحب وليس شريعة المعبد، فكما يرى المعبد أن الزواج بدون عقد حُكمه زنا، فالكاتب يعتبر الزواج بدون الحب في حكم الزنا”. إذ أن في جمهوريته أفعال القلوب هي من تحكم وليس العقود. كم أتمنى أنّ هذا المبدأ هو ما فيه صلاح البشرية، لكنّ جبران تجاهل تمامًا الطبيعة البشرية، وهذا العالم ليس كالمدينة الفاضلة التي يريد أن يرجوها، حيث لا بدّ من وجود حدود وقوانين وشرائع حتى تنتظم البشرية، فالقانون وحده من لديه الصلاحية لضبط المجتمعات.

_ جعل جبران التاريخ الإسلامي أسوأ تاريخ مَرّ على البشرية، فهو يقول أنّ ما فعله المسلمون في البشرية لم يتكرر على مدار التاريخ.. يذكر نماذجًا عن تسلط الخلفاء على الناس واستعبادهم وطريقة حياتهم، ونقل كل ذلك من كتب التاريخ الإسلامي نفسه، لكن لماذا لم ينقل الجوانب الإيجابية لهذا التاريخ والتي ذكرت في كتب التاريخ نفسها التي استخدمها؟ حتى الخلفاء الراشدون لم يسلموا من قلمه.. فتارة يصف حرب الردة في زمن أبي بكر الصديق أنها حرب همجية على المظلومين وأصحاب الحقوق الشرعية!!

ويصف خالد بن الوليد بالسفاح الأكبر في التاريخ.. بل ويمجّد هولاكو لأنه قضى على دولة الظلم في عاصمة الخلافة بغداد.. وأما عن الصحابة فلم يذكر أحدًا منهم بخير سوى أبى ذرّ والإمام علي.. أجد أسلوبه فيه مبالغة حيث تعدى الانتقاد إلى اللغط، ربما ابتعد كثيرًا عن كونه منصفًا في ذكر المحاسن والمساوئ.

_كذلك حاله مع الفقهاء، حيث أنه عمّم حكمه على الفقهاء جميعًا ولم يستثنِ منهم أحدًا طبعًا، ونسي كل أولئك العلماء الذين عُذبوا وسجنوا لكلمة الحق، وتناسى جهود العلماء المجددين كأمثال أبي حامد الغزالي والإمام محمد عبده ومَن بعدهم ممن حاولوا تشذيب العلوم الشرعية ممن أفسدوها.

_ قوله بأن جمهورية النبي لا تخصّ المسلمين فحسب، فهي لكل الديانات، والنبيّ ليس عنده فرق بين المسلم وغيره، بل وحتى الله نفسه ليس لديه مشكلة مع الشرك والكفر، بل مشكلته مع أهل المعبد كما يصفهم.. وربما يوجد الله في الحانة أكثر من تواجده في المسجد والكنيسة حسب رأيه.. لأن المساجد، كما يدعي، هي مجرد بيوت للصوص الله وأصحاب السلطان والكهنة، وهذا ما يتنافي مع قوله تعالى (إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)، فهو بهذا يطعن في أصول التوحيد .ربما يحاول القول أن الله لا ينظر في المقام الأول إلى من نعبد بل إلى إذا ما كنا إنسانيين أم لا، لأن الغاية من إرسال الرسل كما يقول جبران هي خدمة وإرساء الإنسانية لدينا وليس لتعظيم الربّ.

_ أنّ جبران اكتفى بالهدم ونفي كل ما له علاقة بالتراث والتاريخ، ولم يقدم بدائل واضحة أو حلولًا كافية دقيقة، وهو حسب الحل الإنساني الذي قدمه المتمثّل في الحرية الإنسانية، لا يعطي نتيجة واقعية أو تفصيلًا لماهية هذه الإيدولوجية.

_ في كلّ مرة يستدلّ جبران بحديث نبوي، إن كان التاريخ في عينه كافرًا ولم يسلم منه غير أفراد قلائل فكيف وصلته تلك النصوص؟ فهذه الأحاديث التي استشهد بها واتفق عليها هي أيضًا من كتب التراث التي ينفيها! هذا فضلًا على أنّه لم يقدّم أي منهج واضح لا في المقاصد الرئيسة للتشريع (غير الإنساني والجمال)، ولا في الحكم على النصوص.

_ قدّم جبران في كتاب جمهورية النبي الكثير من الحكمة والنظرة العميقة لمقاصد الدين، كتحرير البشر، والدعوة للسلام والإنسانية، بدل التشريعات الغليظة مثل التي نجدها في المذاهب المتشددة، لكنه رغم محاولته تلك إلا أنّ كتابه مليء بالمغالطات المنطقية كمغالطة الأبيض والأسود؛ حيث صوّر الكثير من الأمور كمتناقضات والتي لا بدّ من اختيارها أو الكفر بها، مثل (همّ الله عباده لا عبادته) (الله والإنسان) (الفقه والأخلاق) (التاريخ والإنسانية).

فلا شكّ أنّ في الفقه ما هو لا أخلاقي، وفي التاريخ ما هو لا إنساني، ولكن لا يُنكَر أنّ فيهما كذلك ما هو مشرّف، وهذا لا يكفي لتبنّي الانقلاب على الكلّ بدل التجديد.

وكذلك مغالطات أخرى: كالمصادرة على المطلوب (لا يفعله مؤمن حقيقي)، والاحتكام إلى أسباب غير مؤكدة والاستشهاد بمحلّ شبهة، وكثير من التعميمات المبنية على مقدمات غير كافية..

_ أنّه في محاولته التجديدية لا يختلف عن غيره من المجدّدين، فيحاول إظهار أنّ رؤيته لفهم النص هي الفهم الصحيح. كذلك أن الكاتب يعيب على الناس تقديس الكهنة، وبالمقابل يقدس هو أشخاصًا آخرين لأنهم يمثلون رموزًا بالنسبة له ، فوقع فيما انتقد فيه غيره.

وختامًا، فإنّ أي مفكّر يتبنى فكرًا جديدًا، سيصيب أحيانًا ويخطئ أحيانًا، لذلك يجب علينا النظر إلى أي بشري أو مجتهد بعين الخطأ والصواب، شأنه شأن الفقهاء والمشايخ والمفكرين، أحيانًا يصيبون وأحيانًا يخطئون، لكنّ هذا المفكر ربما حاد كثيرًا عن طريق الصواب، فهدم أكثر مما شيّد وأخطأ أكثر مما أصاب وأنكر ما لا يصحّ إنكاره، وأقرّ ما لم نعهد إقراره، نهاية الأمر أن عبد الرزاق الجبران قد أراد حقًا لكنه لم يدرِ من أين تورد الإبل.

إعلان

اترك تعليقا