مترجم| كيف يمكن لألعاب فتجنشتاين اللغوية أن تحررنا؟
إنّنا نعيش حياتنا وسط عالم من اللغات، هذا العالم نستخدم به الكلمات للقيام بالأشياء والأفعال. بطريقة غير مُدركة نتعامل مع اللغة والكلمات التي نقولها. الطريقة التي نستخدم بها اللغة تؤثر على نسق حياتنا، ويتعدى الأمر إلى أنّ تؤثر على كينونتنا. الإنسان مَغمور بممارساته اللغوية، والتي بدورها تُشكل طريقة حياته في العالم. إذا أردنا تغيير الأنظمة التي نحيا من خلالها نحتاج لتغيير الكلمات التي نستخدمها، ولكن هل يمكن أن تجعلنا الألعاب اللغوية أحرارًا؟
صاغَ الفيلسوف المُنشَق لودفيج فتجنشتاين مصطلح الألعاب اللغوية ، حيثُ أن الكلمات تكتسب معناها من خلال استخدامها، ويُربط استخدام الكلمات مع الممارسات الاجتماعية التي تنشأ عنها. لقد استخدم مصطلح الألعاب اللغوية لجذب الانتباه إلى الممارسات الناشئة عن اللغة وليس فقط اللغة نفسها. انظر إلى كلمات مثل “النجدة!” و”نار!” أو “لا!”، هذه الكلمات تؤدي وظائف مجتمعية مُتفق عليها مثل الرجاء والتحذير والتحريم. يريد فتجنشتاين أن يقول لنا أن الكلمات هي أفعال نقوم بها في كل مرة نستخدم بها كلمة ضمن جماعة.
كان فتجنشتاين عازمًا على إظهار أنَّ التحدث للغة ما هو نشاط مجتمعي أو شكل من أشكال الحياة. يضرب لنا مثالًا في تحقيقات فلسفيّة عن عامل بناء يقول لمساعدة “بلاطة!” ومُساعده يفهمه ويستجيب له. يقول فتجنشتاين أن العامل يتفاعل مع الأمر بطريقة تختلف عن استجابة الكلب مثلاً، لأن البشر بينهم تلك التفاهمات الخاصة التي تنطوي على ممارسات اجتماعية مميزة.
يطلب فتجنشتاين منا محاولة معرفة ما نفعله حين نقول كلمة. ولكن إذا كنا مغمورين بممارساتنا اللغوية ضمن المجتمع، هل يمكننا رؤية وفهم ما نفعله؟
واجهت رؤية فتجنشتاين اعتراضات بأنه يمنعنا من رؤية شيء آخر سوى اللغة، ومن إدراك إمكانات جديدة. يقول المفكر الألماني هربرت ماركوز أنَّ هواجس فتجنشتاين اللغوية تشتيت عن السياسة الحقيقية، وفي كتابه “الإنسان ذو البعد الواحد” اعتبر أن عمل فتجنشتاين كان مُختزلاً ومحدودًا، ولا يمكن أن يكون تحرريًا؛ لأن التركيز الوثيق على كيفية استخدامنا للكلمات يفقدنا معرفة ما يحدث بالفعل. تتحول اللغة إلى لغة سلوكية بلا تاريخ أو أبعاد، لغة مقفلة ومنغلقة.
يدّعي ماركوز أن فتجنشتاين مختزل للأمور في لغة فقط . في سعي فتجنشتاين لإلقاء الضوء على الألعاب اللغوية يقول ماركوز أن هذا الأمر غبي. هل فعلاً يبدو هذا الأمر غبيًا؟
يقول فتجنشتاين في كتابه ” الثقافة والقيمة”:” كم من الصعب أن أرى الأمور التي أمام عيني بشكل صحيح.” في أغب الأحيان كما يقول نفتقد فهم ما هو واضح، ما هو قريب هو الأصعب في فهمه ورؤية ما هو عليه. في استخدامنا للكلمات مشاركة في التفاهمات اليومية. فتجنشتاين يفحص هذا الاستخدامات اليومية للغة، ويوضحها لنا.
يسخر ماركوز من مثال فتجنشتاين الذي أورده في تحقيقات فلسفية وهو “مكنستي موجودة في الزاوية” وينكر هذا الاختزال الشديد للكلام إلى هذه البساطة وحصره في ممارسات سلوكية. ولكن ماركوز لم يفهم فتجنشتاين الذي أورد مثالاً دنيويًا عن ممارسات يومية. وإن نظرت عن كثب قد يكون بيانًا عاديًا مثل “مكنستي موجودة في الزاوية” لا يبدو تمامًا كما هو، حيث قد يحمل عدة أوجه وتفسيرات حسب اتفاقات معينة بين جماعة.
يلفت فتجنشتاين الانتباه إلى الطرق التي نلتزم بها من خلال ألعابنا اليومية، فهو ينظر بكثب إلى ما يفعله ويقوله. يرى العمل في الفلسفة على أنها علاجية بمعنى “العمل على النفس”، وهذا واضح في تحقيقات فلسفية فهناك تدقيق ومراقبة للذات. من اللافت للنظر، أن نشكك في الطرق التي نستخدم بها اللغة لأداء أشياء عادية مثل قول الوقت، يبدو أن هذا الأمر غير معتادين عليه. هل يعتبر هذا بأننا مازوخيين لسلطة اللغة؟ إنه إخضاع أقوالنا وممارساتنا للفحص وإعادة النظر، لكنه بالتأكيد فعل مازوخي، مؤلم ومهين لأولئك الذين يخسرون شعورهم بأنهم أذكياء لدرجة لا تجعلهم يخضعون لمراجعة لغتهم. إذا أردنا الفهم والتغيير، يجب أن نواجه أنفسنا ولغتنا بحق وأن نعترف بغبائنا، وأن نعرف من نحن.
هل يبدو اعتراض ماركوز الثاني أكثر إنصافًا؟ حيث يقول أن فتجنشتاين يحاصرنا، فارضًا علينا مزيدًا من اللغة، وهي لغة ذات بعد واحد. لكن هذا لا يمكن تبريره عندما نقرأ كتاب فتجنشتاين. في تحقيقات فلسفية نجد رؤيته للغة بأنها متعددة الأبعاد بشكل لا يمكن إنكاره. يوضح فتجنشتاين أن اللغة مشروطة ومؤقتة حسب أنماط النشاط المجتمعي؛ لذلك يمكن للألعاب اللغوية أن تتغير بطرق عديدة. يستطيع المرء أن يرى شيء ما بطريقة أو بأخرى، وهنا نعرض أحد أشهر أمثلة فتجنشتاين عن هذا الموضوع :
أنظر إلى الصورة، يمكنك رؤيتها كبطة أو أرنب. نظرًا إلى أن البشر يلعبون ألعابًا لغوية، يمكننا ملاحظة ما في الصورة حسب لعبتنا اللغوية. مثال آخر معاصر وهو الجدل حول كلمة “manel” وتعني لجنة خبراء مكونة من ذكور على الرغم من وجود النساء فيها، حيث يتم إقصاء العنصر النسائي، مع أنه يمكنك القول “مجموعة من الخبراء” دون تفضيل عنصر على آخر. هذا المثال يدعونا إلى التساؤل كيف تؤثر ألعابنا اللغوية علينا وتجعلنا نغير نظرتنا عن الأمور. لكن ماركوز لا يذكر مثال الأرنب والبطة أو يناقش تداعياته.
إن استخدام اللغة يعترف بالاختلاف والتغيير وفقًا للأوضاع المختلفة. ينكر ماركوز ذلك، ويقول حتى أن العمليات المجتمعية تغلق عالم الخطاب.
يقول فتجنشتاين: “إن هناك شيئًا جديدًا، (عفوي ومحدد ) هو دائمًا لعبة لغوية”. تشير هذه الملاحظة إلى الألعاب اللغوية الجديدة التي تنشأ نتيجة استخدام مجموعة معينة للغة تختلف عن المجتمع، حيث أن لغتهم الجديدة نمط مناسب للتعبير عنهم. على سبيل المثال اللعبة اللغوية”Polari” الخاصة بالمثليين المستخدمة في زمن فتجنشتاين. يفسر فتجنشتاين هذا بقوله :
“لقد نشأت هذه اللغة كنمط مناسب لتفكير مجموعة من الأشخاص، لتتمكن من تخليصهم من تمردهم الفطري ضد اللغة. لا يمكنك مساعدة اولئك الذين أُرغموا على العيش في جماعة خلقت لغة لا تناسب طريقتهم في التعبير.”
المتمردون يعيشون في حالة من عدم الرضا عن اللغة. إنهم يشعرون بنفورهم منها، يشعرون بالمنفى والغرابة، معزولون عن الآخرين وعن أنفسهم داخل اللغة؛ فيلجئون لخلق نمطهم اللغوي الخاص. قراءة فتجنشتاين تقودنا لمثل هذه الأسئلة وغيرها.
يمكننا القول أن اعتراضات ماركوز لا أساس لها من الصحة. لقد فشل في إظهار أن تدقيق فتجنشتاين الكبير والمتعمق في الألعاب اللغوية أمر غبي أو مُختزَل. في الواقع، لا تزيد محاولات ماركوز في تسخيف فتجنشتاين إلا من أهميته في ظلام هذه الأوقات.
استخدام اللغة جزء لا يتجزأ من وجود الإنسان. نحن نعيش ضمن لغة، لكن طريقة حياتنا شيء صعب لنفهمه أو ندركه. لا يقوم فتجنشتاين ببيع إجابات جاهزة لهذا المأزق. ما دام هنالك لغة، فإننا مأسورين ومفتونين بها، ستغرينا دائمًا لسوء الفهم. ليس هناك مَهرب مميز خارج نسق لغتنا، لكن يمكننا أن نقيم نوعًا من الحرية داخلها. قد نحتاج أولاً إلى أن نكون أغبياء لفهم ذلك.