اقتصاديات عدم اليقين Economics of Uncertainity
قبل أن تشرع في قراءة مقالي هذا عن اقتصاديات عدم اليقين economics of uncertainty، دعني أحذرك من البداية: إذا كنت تعرف ماذا سيحدث غدًا، والمستقبل يقيني بالنسبة لك certain، فهذا المقال لن يفيدك. هذا المقال موجه لخلق الله -مثلي- الذين لا يَرَون ما ببطن الغيب و لايعرفون يقينًا ما هم فاعلون غدًا، والمستقبل بالنسبة لهم محمّل بكافة الإمكانات والاحتمالات ولا يمكن أن نضمن تحقّق أحد أحداثه أبدًا، فهو غير يقيني uncertain، ولا يمكنك التنبؤ بدقة مطلقة بما قد يجلبه معه من الأحداث.
مصادر عدم اليقين في المستقبل
ويمثل السلوك البشري، والطبيعة بكل تأكيد، أكبر مصدر لعدم اليقين uncertainty في المستقبل، حيث لا يمكن أبدًا التنبؤ بالسلوك البشري على نطاق واسع بدقة مهما تحسنت النماذج الرياضية وتعقدت المعادلات الرياضية وتطورت تطبيقات الاقتصاد القياسي، واستدعيت إلى مكتبك عرافة “دلفي” نفسها. وعندما نشبت، على سبيل المثال، الأزمة المالية العالمية في عام 2008، لم يكن أحد يتصور أبدًا أن ذلك الجزء الصغير من التمويل العقاري المسمى قروض الرهن العقاري عالي المخاطر، والذي لا يشكل إلا حصة ضئيلة في النظام المالي العالمي قادر على خلق هذه السلسلة المتتالية من التفاعلات التي دفعت بالاقتصاد العالمي برمته إلى حافة الإفلاس.
صعوبة التنبؤ في النظام الاقتصادي
وترجع صعوبة التنبؤ بمثل هذه الأحداث إلى طبيعة النظام المالي العالمي نفسه الذي يتسم بالتعقيد، ونقصد بالتعقيد complexity هنا هو وجود ملايين من شبكات العلاقات المتداخلة التي تربط بين المقرضين والمقترضين والتعاملات في الأسواق المالية وملايين من الشركات والأفراد في جميع أنحاء العالم، هذا بالإضافة إلى أنه قد يترتب على معاملة مالية بسيطة في أحد الأسواق ردود أفعال كبيرة لا تتناسب مع حجم العملية الأولية (تذكر أثر الفراشة butterfly effect)، ويعني هذا أن سلوك اللاعبين الأساسيين مثل البنوك وأصحاب القروض والمتعاملين في الأسواق (ولنسمها مدخلات النظام) قد يترتب عليها نتائج مخرجات outputs لا تتناسب على الإطلاق في الحجم ولا في الاتجاه مع المدخلات.
ونسمي هذا في علم الاقتصاد والرياضيات بالعلاقات اللاخطية nonlinear relationship، ويستخدم علماء الاقتصاد القياسي عمليات رياضية معقده (معادلات غير خطية ومعدلات نمو أسية) لوضع نموذج يحاكي أسواق المال. ولعل أهم سمات النظم “غير الخطية” هي الصعوبة الشديدة في التنبؤ برد فعلها تجاه أصغر صدمة ممكنة للنظام، ومن ثم فإنه لا عجب أن تسمى دراسة كيفية استجابة هذه النظم للمتغيرات بنظرية الفوضى chaos theory، وهي التي ساعدتنا في إدراك أن المصدر الأساسي لعدم التيقن في الاقتصاد هو طبيعة النظام الاقصادي نفسه.
اقتصاديات عدم اليقين economics of uncertainty
ولهذا نشأ فرع في علم الاقتصاد يعنى بدراسة حالات عدم التيقن التي تتعلق بما قد يحدث في المستقبل، ذلك المجهول الذي يخبئ في طياته احتمالات عديدة معلومة ومجهولة لا تدري أي منها قد يتحقق، ويسمى هذا الفرع ”اقتصاديات عدم اليقين“ economics of unceratinity، والذي يدرس الدور الذي تلعبه حالات عدم التيقن في الاقتصاد وفي تخصيص الموارد وتحليل الاختلاف في تفضيلات الناس للمخاطر (النفور، الحب، الحيادية) وتطبيقات هذا على أنشطة التأمين وأسواق المال واقتصاديات المعلومات.
عدم اليقين والمخاطر Uncertainty and Risks
إن أحد أركان التحليل الاقتصادي للمخاطر ومفتاح الدخول إلى بهو اقتصاديات عدم اليقين economics of uncertainly هو تحديد الفرق بين “عدم اليقين” و”المخاطرة”، وهما مصطلحان قريبان في مفهومهما لدرجة أن المتخصصين يستبدلون خطئًا الأولى بالثانية، ويمكن التفرقة بينهما، بشكل مبسط، فيما يلي:
( ١) عدم اليقين uncertainty:
المستقبل غير معلوم وأنت لا تدري ماذا سيحدث غدًا، وبأي أرض تموت، يمكن مثلًا أن تتعثر في قشرة موز ألقاها أحد الحمقى في طريقك وأنت ذاهب إلى مقر عملك، فتنكسر قدمك، وتقضي شهرًا إجازة مرضية في بيتك، ويمكن أيضًا أن تصطدم بكائن فضائي فيغضب غضبًا شديدًا فيدمر كوكب الارض، ولا تذهب للعمل أيضًا.
(٢) المخاطرة Risk
هي حدث أيضًا في المستقبل لكنك تعرف نسبة احتمال حدوثه أو خصصت له نسبة لاحتمال تحققه ونسبًا أخرى للأحداث البديلة الأخرى إذا تحقق إحداها (عند إلقاء حجر نرد مثلًا يكون احتمال تحقق أي رقم من الأرقام الستة = ⅙ ). وإذا كان هناك إمكانية بالفعل للتزحلق بسبب قشرة موز أو مقابلة كائن فضائي، فيمكننا أن نخصص نسبة لاحتمال تحقق أي منهما، وليكن %99.9999 لقشرة الموز، و0.0001 ٪ للكائن الفضائي. ولتحويل أي حدث من حالة “غير اليقين uncertain إلى حالة المخاطر Risk إذا خصصنا له نسب لاحتمال تحققه.
واذا كان كل شيء ممكنًا possible، وهذا جوهر مفهوم عدم اليقين، فإن كل شيء ليس محتمل probable تحققه بدرجة متساوية، وهذا هو جوهر مفهوم المخاطرة. وإزاء ذلك يبذل المتخصصون في اقتصاديات عدم اليقين economics of uncertainity في ساحات أسواق المال وصناعة التأمين قدرًا مهولًا من الجهد والوقت لتحويل حالات “عدم اليقين” إلى مخاطر نعرف احتمالات تحققها.
(أ) صناعة التأمين واقتصاديات عدم اليقين
يعد إلحاق نسب لاحتمالات تحقق حالات عدم اليقين ومن ثم تحويلها إلى مخاطر ركنًا أساسيًا في عمل قطاع التأمين في أي اقتصاد، والتأمين هو نشاط خدمي يعمل على نقل مخاطر (احتمال حدوث) خسارة مالية كبيرة من فرد ما (صاحب وثيقة التأمين أو “المؤمّن”) إلى مجموعة أكبر من الأفراد تمثلهم شركة التأمين، وذلك مقابل قسط شهري premium، أي أنّ المؤمّن يتحمل تكلفة صغيرة Premuim (خسارة مالية صغيرة) ليتجنب تكبّد خسارة مالية كبيرة قد تحدث لمنزله أو محلّه إذا احترق، وهو احتمال قليل نسبيًا ولكنّ تحققه كارثة.
على سبيل المثال، يدفع شخص قسطًا شهريًا تأمينًا على سيارته، لينقل بذلك مخاطر risk تكبده تكلفة كبيرة في حالة تحقق هذه المخاطر إلى شركة التأمين. تقوم الشركة بتوزيع المخاطر المذكورة على مجموعة كبيرة أخرى من المؤمنين المشابهين لها من حيث الأقساط وشروط أخرى، لكن لم تحدث لهم حوادث في معظم الأحوال لسياراتهم كما حدث لصاحبنا المنكوب. افترض مثلًا أن الشركة تؤمن على ١٠٠ شخص، وتعرّضت سيارة واحد منهم لحادث تصادم تكلفة إصلاحه ٢٠ ألف جنيه. تقوم الشركة عندئذ بتحميل هذا المبلغ على أقساط التأمين الشهري الذي يدفعه بقية المؤمنين والبالغ ٢٠٠ جنيه، وبذلك لأتحمل الشركة أي خسارة، تحقق مكاسبًا في شهور أخرى.
(ب) أسواق المال
يرتكز عمل أسواق المال على مفاهيم اقتصاديات علم عدم اليقين economics of uncertainty مثل حالات نقص المعلومات وغموضها وعدم اليقين والمخاطرة، فالمتعاملون في أسواق الأسهم، وهي السوق الأكثر جذبًا للأضواء على صفحات الصحف وفِي وسائل الإعلام، يعلمون علم اليقين أن المستقبل الخاص بأسعار الأسهم وأرباحهم ومساراتهم غير معلوم وغير يقيني. ومع هذا، فإنهم يحاولون تحويل حالات عدم اليقين uncertainty إلى مخاطر يحدد لها نسب احتمالات تحققها. على سبيل المثال، قد يرغب المستثمرون في شراء أسهم في شركة “الشناوي” للتقنية توقعًا بأن الشركة ستحقق أرباحًا في المستقبل القريب. وعلى الرغم من أن الربحية المستقبلية للشركة أمر غير يقيني، فإن المستثمرين يحاولون تقدير نسب الاحتمالات الممكنة لأحداث المكسب والخسارة، وذلك قياسًا على معرفتهم بأنه على مدار العشرين عامًا الأخيرة، على سبيل المثال، حققت الشركة أرباحًا خلال ١٥ عام (¾ ٪ من المدة) وخسارة ٥ سنوات (¼ ٪ من المدة ) أي هناك احتمال ٣: ١ لتحقيق مكاسب.
ومع توافر معلومات أخرى يمكنك أن تعدّل من هذه النسب الاحتمالية، فمن الجائز أن يتسرب إليك خبر أن الشركة على وشك إبرام عقد ضخم مع إحدى شركات البترول، أو أنّ البنك المركزي سيعلن عن مؤشرات تحسّن قويّ في الاقتصاد ومن المتوقع زيادة الطلب على إنتاج شركتك. والحقيقة أن دقة المعلومات ومدى توافرها تلعب دورًا هامًا في تحديد من الفائز أو الخاسر في تعاملات البورصة، فإذا كانت معلوماتك أفضل فسوف تكسب. ومع هذا فإن اقتصاديات عدم اليقين economics of unceratinty تحذرنا من “البجعات السوداء”، كما أحبَّ أن يسميها نسيم طالب، وهي الأحداث شديدة الشذوذ بعيدة الاحتمال غيرالمتوقعة، التي تخالف كل التنبؤات وتناقض كل المعلومات .