رسائل إلى إندي: اقتراح الهجرة إلى مدغشقر

مقالات ساخرة

العزيز/ أندري رافاري”*”
أعلم جيداً أنك تتفاجأ بهذه التسمية الرسمية في أول خطابي لك، كثيرًا ما كُنت أناديك في أول الرسائل باسم “إندي”، لكنني قررتُ أن أفاجئك بالجواب من عنوانه، الدارج عندنا في الأمثال “الجواب بيبان من عنوانه”، هذا يا عزيزي إندي الجواب بين يديك، و هذا عنوانه “كيف تقترح عليّ الهجرة إلى مدغشقر؟!”.
يا إندي، يا مسكين، أعلمُ جيدًا طيبة قلبك ورقة سريرتك، وأعلم كيف تكوّنَت بيننا الصداقة على مشاعر طيّبة، و يف صارت صحبتي معك وصحبتك معي تتخذ لنفسها أطوارًا في الأخلاق المفتقدة بين الناس في هذا الزمان، وأعلم جيدًا أنك على رغم مرور السنوات عليك، و رغم أنك يا عزيزي رجل حكيم، إلا أن طيبة قلبك جعلتك تخاف على صديقك الذي يعيش في مصر، وظننتَ أن العيش في مدغشقر أكثر أمانًا لي.
أشكرك مسبقًا على طيبة قلبك، وأستودعك الحُكم على نفسك بما تراه نفسك في أمر نفسك، ما وجدتُ بين الناس خيرًا منك للحكم على ما تقوله، وعزمتُ أن تكون رسائلي القادمة كلها أسبابي لتفضيلي الحياة في مصر، رغم سوء الحال، على الحياة في مدغشقر، وهذا يا عزيزي ليس تقليلًا من بلدكم الكريم، ولكنني أقول أن هناك أشياء جعلتني متعلق بهذا البلد عن سواه، وربما كان اقتراحك عليّ بالقدوم إلى أرضك هو ما جعلني أقدّم المقارنة بين أرضي وأرضك.
إنني يا إندي مددتُ جذورًا في هذه الأراضي، وألقيتُ فيها من الأحباب الكثار والغوالي وواريتهم التراب، وأبسط الأشياء التي تمنعني من الهجرة إليك أنني لن أجد لديكم سيارات “مقروباص” تأخذني إلى السيدة عائشة، ولن أجد لديكم إعلان مقابر يصل المتر فيها إلى سبعة ألاف جنيه، لأنها تقع في السادس من أكتوبر- طريق الواحات، لكي يموت فيها الميتون، بينما المنازل -العشش- في أحياء مصر القديمة ومحيط القلعة وسفح المقطم مجانيّة ليحيا فيها الموتى الأحياء.
أعلم أنك يا إندي تحسبني مجنونًا، تظن أنني أشكو إليك بلادي وسخريات الحوادث فيها، وأرفض أول مركب نجاة تلقيه لي من بلاد ليست أفضل حالًا من بلادي ولكن يقبع فيها صديق لي، ولكنك لا تدري أنني تكونت من هذا العفن، لن أجد في بلادك عربات الباعة الجائلين والطعام الشوارعي، ولن أستطيع أن ألقي الشتائم عبر الكلاكس مثلما أفعل على الطريق الدائري وكوبري أكتوبر، سأفقد عاداتي المقززة العفنة التي أفعلها دون اكتراث، لأنك يا صديقي الطيب تحسبني أستطيع الحياة دونها في بلدك الكريم.
ولكي لا تحسب رفضي لرسالتك -التي سأوردها في أخر رسالتي لكي تكون نُصب عينيك- نفاقًا أو احتقارًا لبلدك، ولكنني لا أقوى على الرحيل ولي أسبابي، ولعلّ اقتراحك بالهجرة مفتاح للسخرية عما يدور حولي، سأكتب لك رسائل كثيرة في الأيام القادمة، في كل رسالة سبب لعدم الهجرة، ولكلّ رسالة من تلك الرسالة هي مشكلة ليست في حياتي الشخصية “بهاء الدين يوسف حجازي”، ولكنها في حيوات المصريين جمعًا. وأشكرك على سعة صدرك، وعلى تلك المساحة التي توفرها لي لكي أسخر من هذا العفن.

رسالة إندي:

العزيز و المعلم/ ب.ي.حجازي “**”

أعلم أنني لم أتواصل معك منذ فترة، سألتك بعض الكُتب التي تقدّم لي مصر بشكل واضح وسلس، قدمت لي كتابًا من الستينات للكاتب ألبير القصيري “السخرية والعنف”، وكتاب آخر للراحل جلال عامر “مصر على كفّ عفريت”، و كتاب الصحفي المصري بلال فضل “جمهورية العبث”.

منذ لقائي بك أوّل مرة في مصر في دروس تعلم اللغة العربية، وأنا أقرأ ما تكتبه، ليس فقط لأنك كُنت معلمًا لي، ولكنني أقرأ لك لأنني غارقٌ في التهكّم الذي تقدّم من خلاله حزنك، وكونك الشخص الذي أهدى لي الحرية في الكتابة، على غير المعلمين الآخرين الذين لم يهدونا الفرصة لكتابة أي شيء متعلّق بشخصنا و أفكارنا.

لكني أراك أنت والسيد بلال والسيد ألبير والعمّ جلال غير سعداء في بلدكم مصر، وأعلم أنك قادر على العيش في أيّ بلد؛ تستطيع أن تعمل في السفارة المصرية كمعلّم لغة عربية أو سفارة أيّ بلد أخر ، لماذا لا تقدّم أنت، كبداية، لكي تعمل هنا، من ثم تكتب تجربتك تلك لكي تدعو الآخرين لكي يأتوا إلى هنا أو يهاجروا إلى بلاد أفريقيا؟ ويسرّني أن يكون السيد بلال فضل أحد هؤلاء القادمين من بعدك.

إعلان

أنا وأنت نعلم جيدًا صعوبة السفر إلى أوروبا أو أمريكا أو أستراليا، وكُنت أتعلّم اللغة العربية لكي أحسّن دخلي بعض الشيء، إذ رحلتُ إلى دول الخليج -التي، وفقًا لكتاباتك، تبغض العيش فيها وعشتَ فيها فترة طويل من عمرك- لماذا إذًا لا تجرّب أفريقيا كحلّ سهل؟

أرجو أن تتفهّم اقتراحي وتردّ عليّ سواء قبلتَ أو رفضت، و تذكّر دائمًا أنه اقتراح، حتى لا يكون هذا الخطاب بذرة تنبت العداء بيني وبينك.

 

هوامش 

* : شخصية افتراضية، تمّ تكوين الاسم عن طريق الأسماء الاكثر شيوعاً في الأدب الافريقي، 
في أعمال كويتزي وموبانكو وجورديمر.

** : لأن معظم أفريقيا مستعمرات إيطاليا و أسبانيا وأنجلترا وفرنسا، يكتب شعوب أفريقيا الاسماء 
استعانة بألقاب العائلات، لقب عائلتي "الحجازي" ، واسمي "بهاء الدين يوسف"، 
حينما يبدأ إندي خطابه "ب.ي.حجازي" ارتباطًا بثقافة أفريقيا التي تتأثر باوروبا، 
يمكن الاستدلال على ذلك بمقدّمات ول شوينكا التي يوقع في نهايتها "و . ش" ، أو "و . س"
 باعتبار شوينكا أو سوينكا.

إعلان

اترك تعليقا