“ألم ومجد”: قـصـيـدة سـيـنــمـائـيـة في مـديـح الألـم
من جديد يرجع “بيدرو ألمودوبار” إلى معشوقته الأثيرة – السينما – هذه المرة عبر بوابة الذاكرة والتأريخ الشخصي لمسيرة فنية ممتدة، يعود “ألمودوبار” ،وهو على أبواب السبعين، ليلامس كمال نضجه الفني في فيلمه الأخير “ألم ومجد” (DOLOR Y GLORIA)، الفيلم الذي أعد له السيناريو بنفسه، والذي هو من بطولة أنطونيو بانديراس وبينلوبي كروز وأسير إتكسينديا وجوليتا سيرانو وليوناردو سباراجليا.
عُرض الفيلم في إسبانيا خلال شهر مارس العام الجاري، قبل أن يلفت الانتباه بشدة خلال عرضه في مهرجان كان السينمائي صيف هذا العام، حيث رُشح لجائزة السعفة الذهبية، إضافةً إلى ثلاث جوائز أخرى فاز منها بالاثنتين: أحسن ممثل لأنطونيو بانديراس، وأحسن موسيقى لألبيرتو إيجلسياس.
وقد اختارت الأكاديمية الإسبانية الفيلم ممثلاً لإسبانيا ومنافساً على لقب أحسن فيلم أجنبي في الدورة المقبلة من مسابقة الأوسكار.
بحثاً عن ظِل:-
ما إن يطالعنا بوستر الفيلم بلونه الأحمر القاني – أحد ألوان ألمودوبار المفضّلة – وفي صدره يقف أنطونيو بانديراس بملابس وماكياج يجعلان منه قريب الشبه لألمودوبار نفسه، وخلفه يظهر ظل الشخصية الرئيسة بفضل زاوية الإضاءة المنخفضة، ندرك أن ظل سلفادور مايو (بانديراس) المخرج الذي يعاني آلامه وعدم قدرته على إنجاز فيلم أو أي عمل درامي آخر ما هو إلا ظل “ألمودوبار” نفسه بملامحه المميزة.
“ألم ومجد” هو فيلم اعترافي بامتياز لمخرج يغوص في ذاكرته بحثاً عن ذاته: آلامه، وما تحتويه الذاكرة من رغبة وسعادة، وأسئلة بلا إجابات يحاول أن يكمل نقصانها، أو كما صرّح “بانديراس” في المؤتمر الصحفي بعد عرض الفيلم في الدورة السابعة والخمسين من مهرجان نيويورك السينمائي سبتمبر من هذا العام:
“-ألمودوبار أراد أن يكمل مساحات بعينها من أحجية الصور المكونة لحياته من خلال إنجازه لهذا الفيلم”.
تدور أحداث الفيلم حول سلفادور مايو (أنطونيو بانديراس) المخرج السينمائي المتقاعد نتيجة لأمراضه المزمنة، وتقرر السينماتيك الإسبانية الاحتفاء به عبر تنظيم عرض خاص لنسخة مرممة من أحد أفلامه، والذي كان قد أنجزه قبل 32 عاماً، وهي المناسبة التي يستغلها المخرج المتقاعد لمصالحة بطل فيلمه ألبيرتو كريسبو – أدى دوره أسير إتكسينديا – الذي كان قد اختلف معه عقب العرض الأول للفيلم ولم يتحدثا بعدها مطلقاً.
بداية من تيتر الفيلم بألوانه وتراكيبها السيريالية، وإضافةً للموسيقى التصويرية الموترة، نستطيع معرفة أننا بصدد فيلم مختلف عما سبقه من أفلام في مسيرة ألمودوبار، المشهد الافتتاحي للفيلم يدخلنا في قلب الحكاية مباشرة، إذ يظهر لنا سلفادور جالساً القرفصاء في حوض السباحة، يغمر جسده الماء وتظهر على ظهره ندبة بارزة، إثر عملية جراحية، بطول الظهر من أعلاه لأسفله، يكتم أنفاسه ويتذكر، لينتقل ألمودوبار تدريجياً إلى الماضي، حيث يسير السيناريو في خطين متوازيين:
ماضي سلفادور وحاضره.
الخط الأول – الماضي – ويدور حول طفولته في قريته البعيدة، وعلاقته بأمه خاسينتا (بينلوبي كروز في دورها شابة وجوليتا سيرانو في دورها مسنة)، وكيف خطا خطواته المعرفية الأولى بداية من تعلمه القراءة والموسيقى والغناء نهاية بشغفه بالسينما.
الخط الآخر، وهو حاضر سلفادور وعالمه الخاص بعد موت والدته، في ظل معاناته من أمراض عضوية ونفسية أثرت على طاقاته الإبداعية ولم يعد قادراً على متابعة مسيرته كمخرج .
” لقد جعلوني جاهلاً تماماً دون خوض امتحانات”:
في مشهد سينمائي بديع يصف سلفادور أمراضه وآلامه من خلال التشكيل والرسوم المتحركة وبتعليق صوتي مؤثر، يسرد من خلاله قائمة أمراضه المزمنة، رابطاً بينها وبين جهله بالعديد من العلوم، ومنها علم التشريح، وذلك نتيجة لإعفائه من دراساتها وخوض امتحاناتها وشغله الدائم بنشاطاته الفنية أثناء دراسته، يتحدث أيضاً عن جهله بالجغرافيا، ويسرد بعدها أمجاده كمخرج مُجيد طاف أرجاء المعمورة بأفلامه، وبذلك يدخلنا “ألمودوبار” مباشرة في قلب معاناته وأزماته الحالية في سعيه لكمال الصورة من خلال سرد سينمائي ممتع.
وكالعادة، ألمودوبار لم يتخل عن طاقم عمله المعتاد، سواء من ممثلين أو تقنيين أمثال أنطونيو بانديراس وبينلوبي كروز أو المصور السينمائي “خوسيه لويس ألكاين”.
وأما عن اختياره لـ”بانديراس” لأداء دور البطولة فقد قال مازحاً:
“عندما رأيت صورة أنطونيو بعد تعرضه لنوبة قلبية، وقرأت الألم البادي على وجهه، أدركت وقتها أنه الأنسب للدور فاتصلت به فوراً”.
” إن كان هناك ما أنقذ مارسيللو، ذلك لأنه قد رحل عنّي..أما أنا فبقيت في مدريد وأنقذتني الأفلام “:
بتلك الكلمات الدالة يختم ألبيرتو عرض المونودراما المسرحي وهو يقف على خشبة المسرح أمام شاشة بيضاء في قاعة صغيرة، وذلك بعد أن تصالحا ووافق سلفادور على منحه النص المسرحي لأدائه شريطة ألا يذكر اسم سلفادور كمؤلِف وينسب النص لنفسه، النص المعنون بـ”إدمان” يستدعي فيه المؤلف ذكريات علاقته بصديقه مارسيلو، وهنا تتكشف لنا ثنائية المتخيل والحقيقي، لنكتشف بالصدفة أن مارسيلو الحقيقي – صديق سلفادور– يحضر العرض واسمه فيدريكو (أدى دوره الممثل الأرجنتيني ليوناردو سباراجيليا) .
وهنا تبرز المفارقة في ثنائية الحلم/الواقع، ما بين إدمان سلفادور لصناعة الأفلام وبين إدمانه للهيروين مؤخراً كنوع من الفضول، أو بين مارسيلو الخيالي وفيديريكو الواقعي، ليكشف لنا ألمودوبار عن ذاته الحقيقية دون خجل أو خوف، ويغوص أكثر في ثنايا ذاكرته ليكشف لنا كيف يمكن للألم أن يصنع مجداً، وينقل لنا الصورة في حقيقتها غير المكتملة ببساطة قائلاً: هذا أنا.
“هاملت أم بريك أم جويدو؟”:
في لمحة ذات دلالة، استخدم ألمودوبار بوسترات لثلاثة أعمال إبداعية كخلفية ديكورية في فيلمه وهي: مسرحية “هاملت” لويليام شيكسبير، ومسرحية “قطة على صفيح ساخن” لتينسي ويليامز، وفيلم “2/1 8” لفيدريكو فيلليني.
هنا تبرز جدلية تأثر ألمودوبار بالأعمال الثلاثة؛ فشخصية سلفادور تحمل شك هاملت وعدم يقينه، كذلك استخدم ألمودوبار تيمة فيلم داخل فيلم لتشبه تيمة مسرحية داخل مسرحية في “هاملت”، وكذلك التشابه مع مسرحية “قطة على صفيح ساخن”، كالعلاقة المثلية بين “بريك بوليت” وصديقه “سكيبر” في نفس المسرحية، كما استخدام ألمودوبار تيمة فقد الإلهام وعدم القدرة على صياغة عمل فني مثل “جويدو أنسلمي” بطل فيلم فيلليني.
وكعادته، يداعبنا ألمودوبار ويطرح أسئلة دون إجابات، فمن مشاهدتنا الأولى للفيلم يبرز في ذهننا فوراً مقارنة “ألم ومجد” بفيلم “2/1 8” كما ذكرت مجلة “رولينج ستون” الأمريكية في عرضها عن الفيلم:
“إن ألمودوبار قد صنع نسخته الخاصة من فيلم فيلليني الشهير 2/1 8“.
لكنه في حقيقة الأمر لم يفعل ذلك فهناك اختلاف واضح في السرد في كلٍ من الفيلمين:
فطريقة نقل الواقع أو طريقة الحكي مختلفة، فهنا ينقل لنا ألمودوبار واقعاً عاشه عبر استدعائه في خط حكي موازٍ لواقعه الحالي أما في فيلم “2/1 8” فإن فيلليني ينقل لنا مجموعة من الرؤى الداخلية ندرك من خلالها أن ما نشاهده ليس نسخة من العالم الذي نعرفه بل العالم كما يتذكره فيلليني ذلك بعد ترشيحه وفلترته في ذهنه كراوٍ للأحداث.
” لقد وجدت رواية “:
بالصدفة البحتة يكتشف “سلفادور مايو” في أحد المعارض الفنية لوحة بالألوان المائية لرسام مجهول تظهره طفلاً جالساً يقرأ كتاباً، يتعرف سلفادور على صورته وهو طفل، ويتذكر تلك الصورة التي رسمها البنّاء الشاب الأميّ الذي كان سلفادور يعلمه القراءة والكتابة، وبعد قراءة الإهداء المكتوب خلف اللوحة والذي كتبه الرسام له منذ زمن بعيد، يقرر كتابة فيلم يحكي سيرته الذاتية، وذلك من باب إلقاء حمل الذكريات الثقيل من على كتفيه وتخليداً لذكرى والدته وقريته، فقد صوّر ألمودوبار علاقته بوالدته كأجمل مايكون في واحدة من أمتع المعالجات لعلاقة مبدع بأمه، فوالدته كانت حاضرة في بعض أعماله السابقة لكن لم تكن بمثل هذا الحضور الطاغي المؤثر.
وأخيراً في مشهد ختامي، حوى مفاجأة خبأها لنا ألمودوبار، حين نرى الأم الشابة وابنها في الكادر نفسه الذي بدأ منه الحكي بصياح الطفل: “لقد وجدت رواية”. يتسع الكادر تدريجياً لنرى معدات الصوت والصورة ويصيح بعدها سلفادور “اقطع”، لنكتشف أن الجزء الخاص بالماضي في أحداث الفيلم ما هو إلا فيلماً يبدعه سلفادور تحت اسم “الرغبة الأولى”، وندرك في الأخير أن ألمودوبار يخدعنا بمهارة لا تخلو من عذوبة نعشقها في السينما عامةً وفي سينما ألمودوبار خاصةً، متذكرين مقولته السابقة:
” صغيراً وعندما كنت أشاهد فيلماً أو استمع إلى قصة، أعيد روايتها بطريقة مختلفة، والمدهش أن الناس كانت تفضّل طريقتي في الكلام، ربما هذا ما جعلني مخرجاً”.
نرشح لك: فيلم Good Will Hunting: الخوف من الهجر وكبح الحياة