أصول عدم الإيمان الدينيّ

على الرغم من أن معظم الناس مؤمنين، إلا أن هناك مئات الملايين من اللادينيين في العالم. كيف ينشأ عدم الإيمان الدينيّ؟ وما الأسباب التي تدفع الناس إلى ترك الدين؟ تشير التطورات الحديثة في علم الدين المعرفيّ إلى استنتاج مفاده أن اللا دينيّة تنشأ من مساراتٍ تفاعليّةٍ متعدّدة. حالياً توصّل علماء النفس إلى أربعة مسارات، تؤدي إلى أربعة أشكال متميزة من الإلحاد أو اللادينية.

الطرق التي تؤدي إلى الإلحاد

– اللا مبالاة أو اللا إكتراثيّة (Apatheism):
كثيراً ما يسمع المرء عبارات مثل:

• الدول التي بها نسب عدم إيمان عالية “أكثر صحةً (الصحة الجسديّة)” من الدول التي بها نسب إيمانٍ عالية.
• الدول التي بها نسب عدم إيمان عالية “أكثر أمنًا” من الدول التي بها نسب إيمان عالية.
• الدول التي بها نسب عدم إيمان عالية “أكثر غنىً” من الدول التي بها نسب إيمان عالية.

هل هذه العبارات صحيحة؟ نعم صحيحة. حسب كتاب ”دليل جامعة كامبريدج إلى الإلحاد“ فالدول التي بها نسب عدم إيمان عالية تتفوق على الدول التي بها نسب إيمان عالية على مستوى الصحة الجسديّة والأمان والغنى (والغنى يساعدهم على الاهتمام وتطوير العلم والتكنولوجيا) وأيضاً المساواة بين الجنسين وبالتالي فهذه الدول أكثر تقدماً وتطوراً. الدول التي بها نسب إيمان عالية تتفوق فقط على الدول التي بها نسب عدم إيمان عالية على مستوى الصحة النفسية، حيث نجد أن أعلى معدلات الانتحار في الدول التي بها نسب عدم إيمان عالية وأقل معدلات الانتحار في الدول التي بها نسب إيمان عالية [1].

لكن البعض قد يظن أن ترك الدين هو ”السبب“ الذي جعل هذه الدول أكثر تقدمًا وتطورًا. هذا ليس صحيحاً. أسباب ذلك متعددة؛ قد تكون مثلاً إنّ الكثافة السكانيّة في الدول التي بها نسب إيمان عالية أكبر بكثير من الكثافة السكانية في الدول التي بها نسب عدم إيمان عالية، وعليه فدخل الفرد في الدول التي بها نسب عدم إيمان عالية أعلى من دخله في الدول المقابلة. وبالتالي فهذه الدول أغنى؛ بما أنّ دخل الفرد عالٍ في هذه الدول لن يضطر هذا الفرد لارتكاب أي جرائم. في الدول التي بها نسب إيمان عالية، الفقر شديد فيضطر الأفراد للسرقة مثلاً من أجل جني المال وعليه تصبح هذه الدول أقل أمنًا وهكذا. في الواقع العكس هو ما قد يكون صحيحًا. هناك علاقة سببية محتملة بين التطور والتقدم وترك الدين لكنها علاقة سببيّة معكوسة.

إعلان

الدين بطبيعته يوفّر للإنسان احتياجاته الوجودية؛ لو أنت تعيش حياة بائسة (مريض وفقير لا تستطيع أن تتعالج مثلاً) في الدنيا، الدين يعدك بحياة رائعة بعد الموت. وعليه الإنسان يتمسك بالدين لأنه أمله الوحيد في عيش حياة سعيدة. في الدول الصحيّة الغنيّة الآمنة، الإنسان ليس بحاجة لدين يعطيه أمل في عيش حياة سعيدة لأنه يعيشها أصلاً. ما يوفره الدين للمؤمن متوفر لديه ابتداءً، وبالتالي هو لا يكترث بالدين ويتركه. فليس الإلحاد أو عدم الإيمان هو ما يسبب التقدم والتطور، العكس هو الصحيح التطور والتقدم هو ما قد يسبب الإلحاد وعدم الإيمان [1].

– الإلحاد التحليلي/العقلاني (Analytic/Intellectual atheism):

هذا أكثر أنواع الإلحاد شعبية بين العرب والغرب، كلما سألت ملحد عن أسباب إلحاده، يخبرك إنه: ملحدٌ عقلاني، والأديان – حسب زعمه – مجرد أساطير تتعارض مع العقل والمنطق.

يوجد الكثير من الدراسات التي تشير إلى أنّ الإيمان بالأفكار الدينيّة مثل الإيمان بإله كليّ، القدرات والإيمان بالحياة بعد الموت وخلود الروح أمرٌ فطريّ. البشر يولدون مؤمنين –بدون تلقين من المحيط الذي يعيشون فيه – بهذه الأشياء [2]. أحد الطرق التي قد تؤدي إلى الإلحاد هو قدرة الملحد على إسكات هذا الصوت الفطريّ من خلال التفكير التحليليّ أو التفكير العقلانيّ.

في سلسلة من الدراسات التي قام بها علماء النفس لقياس درجة التفكير العقلانيّ لدى الناس من خلال اختبارات معينة؛ وجد هؤلاء العلماء أنه كلما زادت درجة التفكير العقلانيّ عند الناس كلما قلّت درجة تدينهم، على سبيل المثال اختبار مثل هذا: ”مجموع تكلفة مضرب وكرة يساوي 1.10 دولار. يكلّفُ المضرب 1.00 دولار أكثر من الكرة. كم سعر الكرة بالسنت؟“ الإجابة الحدسية على هذا السؤال ستكون 10 سنت وهذه إجابة خاطئة، في حين الإجابة التحليليّة العقلانيّة على هذا السؤال هي 5 سنت وهذه هي الإجابة الصحيحة. وجد العلماء في هذه الدراسات أنّ الأشخاص الذين يعطون الإجابات الصحيحة (مستويات التفكير العقلاني عندهم أعلى) أقل تديناً من الأشخاص الذين يعطون الإجابة الخاطئة (مستويات التفكير الحدسي عندهم أعلى). وعليه الإلحاد ينتج من التفكير العقلاني.

لكن هناك تحفظات كثيرة على هذه الدراسات يذكرها بعض من قاموا بها بأنفسهم [3]:

• التأثيرات التي تم الإبلاغ عنها في كل هذه الدراسات صغيرة جداً، بمعني أنّ التفكير العقلانيّ أو التحليليّ يقلّل التديّن بدرجات صغيرة. يعني التفكير العقلاني أو التحليلي لا يمكن أن يكون هو المحرّك الأساسيّ لتحول شخص من مؤمن إلى ملحد.

• لم يتم تكرار نتائج هذه الدراسات من فرق بحثية مختلفة. العلم الذي يمكن الاعتماد عليه هو العلم القابل للتكرار (لمّا نكرر التجربة، نحصل على نفس النتيجة في كل مرة تكرار). وهناك تكرار فشل في الحصول على نفس نتائج أحد التجارب التي تزعم أنّ التفكير العقلاني يقلّل التدّين. في هذا التكرار لم يجد الباحثون أيّ دليلٍ أن التفكير التحليليّ العقلانيّ يقلّل التدين.

• العينات في الغالبية العظمي من هذه الدراسات جاءت من أمريكا الشماليّة، يعني هذه النتائج تخصّ أمريكا الشماليّة فقط ولا يمكن تعميمها على بقية أهل الأرض، وفي الواقع هناك دراسة عالميّة تمت في 13 دولة مختلفة قامت بتخطئة فكرة تعميم النتائج على بقية ثقافات العالم. على المستوي الدوليّ ليس صحيحًا دومًا أنّ التفكير التحليليّ العقلانيّ يقلل التدين. كان هناك ارتباط بين الإلحاد والتفكير التحليلي العقلاني في ثلاث دول فقط سنغافورة والولايات المتحدة الأمريكية وأستراليا، في بريطانيا مثلاً كانت النتيجة عكسيّة، المفكرون التحليليون كانوا أكثر تدينًا. وعلى المستوي الدولي أيضًا حتى عندما يؤدي التفكير العقلاني التحليليّ إلى تقليل درجة التدين في بعض الدول، فالتأثير ما زال صغيراً، التدّين يقلّ بدرجات بسيطة فقط، لا تصلح هذه النتائج لتبرير فكرة أن التفكير العقلاني التحليلي هو المحرّك الرئيسيّ للإلحاد [4].

وعليه تقارير الملحدين/اللا دينيين الذاتيّة والمبالغ فيها عن أن سبب إلحادهم الأساسيّ هو التفكير العقلانيّ التحليليّ قد يعكس فقط التحيّزات الشخصية لبعضهم في تصوير أنفسهم على أنّهم عقلانيين [3].

– الإلحاد الوراثي (InCREDulous atheism):

كما يوجد دراسات تشير إلى أنّ الإيمان الدينيّ فطريّ. هناك دراسات أخرى تنكر ذلك وتقترح أن الإيمان الديني وراثي من البيئة التي يولد فيها الإنسان [5].

عندما تولد في بيئة دينية ستكون بنسبة كبيرة مؤمنًا. فالمؤمن مؤمن لأنه ولد في أسرة مؤمنة وعائلته علمته أن هناك إله وروح وحياة بعد الموت وعلمته كيف يؤدي الطقوس والعبادات الدينية المختلفة، تعرّض المؤمن لهذه المؤثرات الثقافيّة هو ما جعله مؤمنًا ببساطة.

بالمثل عندما يولد الإنسان في بيئة غير دينية لا يتعرّض فيها لهذه المؤثرات الثقافيّة، بيئة تعلّمه أنه لا يوجد إله أو روح أو حياة بعد الموت ولا يتم فيها تأدية أي طقوس أو عبادات دينية. سيصبح هذا الإنسان بنسبة كبيرة غير مؤمن ببساطة أيضًا [6].

– الإلحاد النفسي:

هناك الكثير من العوامل النفسية والعاطفية التي قد تؤدي إلى الإلحاد أو عدم الإيمان منها:

– الرغبة في التخلص من القيود الدينية: بعض الملحدين لا يحبون فكرة وجود إله ورجال دين يخبرونهم بما يجب عليهم فعله. ويحبون أن يعيشوا حياتهم وفق قواعدهم ورغباتهم الشخصية الخاصة. بحسب بعض المؤرخين هذه الرغبة كانت أحد أهم الأسباب النفسية الرئيسية التي أشعلت فتيل الإلحاد الحديث. الغضب والاستياء والقلق من تحكّم رجال الدين في حياة الناس؛ أدّى إلى ظهور الإلحاد كتحدٍ لسلطة الهيمنة الدينية التي تجبر الناس على العيش وفق نظام دينيّ معيّن حتى لو بعض الناس لا يرغبون بالعيش وفق هذا النظام [7].

– أسباب نفسية ”محتملة“ متنوعة:

• أسباب متعلّقة بالإله من نوع: في وقتٍ سابقٍ من حياتي، شعرت كما لو أن الله خيب أملي أو إذا كان الله موجودًا، فسيكون الله مسؤولاً عن معاناتي (معضلة الشر والمعاناة باختصار، والشعور أن الإله قاسٍ ولا يهتم بنا ويتسبب في معاناتنا بطرق مختلفة).

• مشاعر إيجابية تجاه عدم وجود الإله من نوع: أجد أنه من الجيّد أن أصدّق أن الله غير موجود أو أجد أنه من المريح أن أؤمن بعدم وجود الله أو أحب عدم الإيمان بوجود الله.

• مشاعر سلبية تجاه وجود الإله من نوع: إذا اكتشفت وجود الله سأشعر بالخوف أو سيكون من المحزن أن أؤمن بوجود الله.

• كراهية ومعاداة الدين لأسباب معينة من نوع: المتدينون جعلوا حياتي أسوأ أو الإيمان بالله يمنع الناس من تحسين المجتمع أو لقد تأذيت من قبل المؤمنين في الماضي أو الدين له تأثيرات سلبية وضارة علي المجتمعات.

• الشعور الداخلي (الحدسي) أن الإله غير موجود: أعرف فقط أن الله غير موجود أو لدي شعور بديهي أنه لا يوجد إله أو أعلم على المستوى الشخصي العميق أن الله غير موجود.

• أسباب متعلقة بالنشأة في بيئة اجتماعية لا إيمان فيها من نوع: الناس من حولي سيسخرون مني إذا آمنت بالله أو الإيمان بالله يجعلني منبوذاً وسطهم [8]،[9].

الدراسات في [8]،[9] كانت عبارة عن استطلاعات رأي لغير المؤمنين عن أسباب ومدي أهمية هذه الأسباب في إلحادهم. من الجدير بالذكر أن الملحدين واللا أدريين/اللا دينيين في هذه الاستطلاعات بلغوا دوماً أن أسباب إلحادهم العقلانية من نوع (لا يوجد دليل علمي على وجود الإله، أو لا يوجد سبب عقلاني يجعلنا نؤمن بوجود الإله) أهم بكثير من أسباب إلحادهم النفسية. ومع ذلك كما يكتب الباحثون في هذه الدراسات، فبعض الأسباب النفسية المذكورة بالأعلي ما زالت تلعب دورًا مهمًا نسبيًا في ترك بعض الناس للدين.

لكن كما يذكر الباحثون في الرابط [8]، هناك قيد مهم على هذه الدراسات وهي أنها معتمدة على التبليغ الذاتي من اللا دينيين والملحدين بأنفسهم. وبالتالي لا يمكن استبعاد وجود تحيزات في عملية التبليغ الذاتي، تحيز لتصوير نفسك على أنك عقلاني فقط، كما يذكر الرابط [3] بالضبط، وبالتالي يتم إخفاء/التقليل من أهمية الأسباب النفسية بسبب هذا التحيّز. وأيضاً فعينات الدراسات من أمريكا فقط، قد تختلف الأسباب ومدى أهميتها عبر الثقافات المختلفة.

خاتمة.

الطريق إلي عدم الإيمان هو طريقٌ معقد وله مسارات متعددة، وقد تتداخل هذه المسارات مع بعضها البعض، فيكون لعدم الإيمان أكثر من سبب من الأسباب المذكورة. وقد تكشف الأبحاث المستقبلية عن مسارات أخرى جديدة.


مصادر:

[1] https://www.cambridge.org/core/books/abs/cambridge-companion-to-atheism/atheism-contemporary-numbers-and-patterns/BEF15F4317FFCF555DCC5A1DD16AA95A
[2] https://www.harvard.com/book/born_believers_the_science_of_childrens_religious_belief/
[3] https://onlinelibrary.wiley.com/doi/10.1111/spc3.12365
[4] http://journal.sjdm.org/18/18228/jdm18228.html
[5] https://www.nature.com/articles/s41598-017-14090-9
[6] https://www.oxfordhandbooks.com/view/10.1093/oxfordhb/9780199988457.001.0001/oxfordhb-9780199988457-e-36
[7] https://www.hup.harvard.edu/catalog.php?isbn=9780674241824
[8] https://psycnet.apa.org/record/2018-36594-007
[9] https://psycnet.apa.org/record/2016-13467-001

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: بيسان صلاح

اترك تعليقا