أشرف مروان…الطفل المعجزة
سُئل الرئيس “السادات” – والسائل صديقه “محمود جامع” – لماذا يحتفظ بـ أشرف مروان مقربا منه رغم كل الشبهات التى تحوم حوله، وكان رد الرئيس :”إن أشرف يقوم بمهمات لاتسمح “كرامتى” أن أقوم بها”
ظهر “أشرف أبوالوفا مروان” فى المشهد السياسى فى منتصف الستينيات عندما تقدم لخطبة “منى” الإبنة الصغيرة والمدللة ل”جمال عبدالناصر”، وقتها تم تعيينه في المعامل المركزية للقوات المسلحة بعد تخرجه مباشرة من كلية العلوم، ورغم أن والده كان ضابطا كبيرا فى الجيش (تولى بعد ذلك قيادة سلاح الإمداد والتموين) إلا أن “عبدالناصر” تردد فى قبوله، ولم يوافق إلا بعد ضغط من إبنته (التى كانت تحبه بجنون) وأيضا زوجته.
وبعد الزواج تم نقله لسكرتارية الرئاسة مساعدا ل”سامي شرف” ثم سافر إلى لندن للحصول على الدكتوراه، وعاد منها بأمر مباشر – وصارم – من حميه عندما شاعت أخبارا أنه حصل على أموال من أحد أمراء الخليج وطالبه برد تلك الأموال.
بعد وفاة “عبدالناصر” المفاجئة إنحاز “أشرف” للسادات وكان هو من حمل إستقالات مجموعة مراكز القوى ل”السادات”، وأخطر من ذلك قام بالإستيلاء على خزنة الرئاسة السرية بما تحتويه من أسرار بالغة السرية، وتقديرا لذلك تم تعيينه سكرتير الرئيس للمعلومات.
في تلك السنوات كان الدور الحقيقي لـ أشرف مروان هو نقل رسائل من الرئاسة المصرية لدوواين الحكم في إمارات الخليج، وكذلك مبعوثا خاصا لدى “معمر القذافي“، وكان – بشهادة “أنور السادات” – ناقلا أمينا لتلك الرسائل.
ومن المهام التي لاتنكر له هو دوره فى صفقة “الميراچ” الفرنسية التى كان الطيران الحربى المصرى يحتاجها وقتها بشدة، ودوره في إقناع القيادة الليبية (بفضل صداقة وطيدة مع “عبدالسلام جلود” نائب مجلس الثورة) تمويلها (كان عددها 104 طائرة)،كذلك دوره – عبر صداقات أخرى – لتوفير بعض قطع غيار عسكرية أثناء حرب أكتوبر.
ولما كان “أشرف” ذكيا وطموحا (لدرجة التهور أحيانا) فإنه إستغل مهامه السياسية السرية، وكون صداقات بمجتمع الثلاثى الشهير، المخابرات-البترول-السلاح، وكانت صداقاته تشمل “كمال أدهم” (مدير المخابرات السعودية) و “عدنان خاشقجى” (تاجر السلاح المشهور) ثم ذادت علاقاته حين إختاره “السادات” ممثلا له فى إجتماعات نادى السفارى(وهى منظمة سرية أسستها مصر والسعودية وإيران والمغرب لمكافحة الشيوعية فى إفريقيا).
لكن ذلك الطموح خلق له عداوات وأدخله فى صراعات فى مجتمع السلطة، خصوصا وأنه كان متزوجا من إبنة “عبدالناصر” العدو اللدود لكثيرين فى مصر السبعينيات والذين أرادوا تصفية حساباتهم معه من خلال صهره، وكان من أبرز هؤلاء الأخوين “على ومصطفى أمين” الذين أطلقا عليه وصف “الطفل المعجزة” وكذلك “جلال الدين الحمامصى” ، ورغم تمتعه برعاية الرئيس وثقته المطلقة إلا أن “السادات” قرر إبعاده عن الرئاسة وعينه رئيسا للهيئة العربية للتصنيع، ولم يقبل أى حديث عن محاكمته بأى تهم، بل ومنحه وسام نجمة سيناء (أعلى وسام عسكرى)، ولكن تلك العداوات والصراعات لم تهدأ من حوله حتى وهو بعيد عن دائرة صنع القرار.
إستغل “مروان” منصبه الجديد أحسن إستغلال،ففيه زادت علاقاته بأصحاب الملايين العرب (كانت الهيئة فكرة مصرية بتمويل سعودى-إماراتى) وقد قدرت ثروته يوم خروجه من الهيئة عام 79 ب300 مليون جنيه،وكان أول مصرى يشترى طائرة خاصة.
وفي بداية الثمانينيات إستقر في لندن وإتخذها عاصمة لإمبراطوريته المتنامية، وبرز إسمه كواحد من أهم تجار السلاح في العالم (بالإضافة إلى إستثماراته في مجال السياحة).
هل كان “ملاكا” لمصر أم لإسرائيل ؟
وجدت جثة أشرف مروان يوم 27 يونيو 2007 أسفل العمارة التي يسكن فيها فى لندن، ومن وقتها وإلى الأن لم تتوصل شرطة إسكوتدلاند يارد لسبب تلك الوفاة الغامضة، وسواء كانت حادثة أو إغتيالا أو إنتحارا فمن الواضح أن ” الطفل المعجزة ” أبى إلا أن يرحل تاركا ورائه مجموعة لاتحصى من الألغاز التى تبدو وكأنها بلا حل.
إبتعد أشرف مروان عن مجال العمل السياسي تماما منذ إقالته من الهيئة العربية للتصنيع، وإبتعد كذلك عن الحياة في مصر، وبدا وكأن الناس قد نسيته ونسيت كل ما يتعلق به، وعاش بهدوء متنقلا بين عواصم العالم يتابع بناء إمبراطوريته المالية، ولم يأتي لزيارة القاهرة إلا مرات معدودة وفي سرية، خصوصا وأن أصهاره من أسرة “عبدالناصر” كانوا يقاطعونه مقاطعة تامة بسبب دوره مع “السادات” وإنحيازه له.
القصة الكبرى بدأت مع بداية التسعينات
فى عام 1991 نشر “إيلى زعيرا” (مدير المخابرات العسكرية الإسرائيلية “أمان”) مذكراته عن حرب السادس من أكتوبر، وكانت تلك المذكرات ردا منه على تهمة التقصير التى وجهتها له لجنة التحقيقة(لجنة أجرانات) وبسببها تم عزله من منصبه، ولقد إنتظر “زعيرا” كل تلك السنوات حتى يسقط القيد على الوثائق لكي يكون رده موثقا.
ولقد ذكر الرجل – دون تصريح – أن المخابرات الإسرائيلية كان لديها “عميل” مقرب جدا من القيادة المصرية، وقد إلتقاه فى لندن مساء يوم 5 أكتوبر 73 وأخبره أن مصر وسوريا سوف تشنان الحرب فى الغد، حيث سيبدأ الهجوم فى السادسة مساءا، ولكن “زعيرا” لم يأخذ معلومات عميله ( وإسمه الكودى “بابل”) مأخذ الجد لأنه حدث وأخبره بمواعيد سابقة للحرب، وكانت إسرائيل تعبئ الإحتياطى وتستعد ولا يحدث شئ مما كلفها مليارات الدولارات، والأهم من ذلك كله هو أنه لم يكن يثق ثقة كاملة فى ذلك العميل، حتى لقد إعتبره ” جاسوس مزدوج” مدسوس من المخابرات المصرية للتلاعب بإسرائيل.
ولقد ضاعت قصة العميل “بابل” ولم تلق الإهتمام اللازم في ثنايا ذلك الكتاب حيث كان تركيز الجميع على ما أورده “زعيرا” من تفاصيل الدور المريب والغريب الذي قام به الملك “حسين”.
أشرف مروان عميلاً لإسرئيل ؟
وفي عام 2002 نشر ” أهارون بيرجمان” كتابا بعنوان “تاريخ إسرائيل” وصف فيه العميل الغامض بـ “الصهر” وحكى قصته التى بدأت في عام 1969، حين ذهب إلى مقر شركة العال الإسرائيلية (وفيها أيضا محطة الموساد) في لندن، وطلب منهم العمل كجاسوس تاركا لهم ملفا تأكيدا على نواياه الجادة، وكان ذلك الملف هو صورة من محادثات “عبدالناصر” مع القادة السوڤييت، ورغم أن الكتاب لم يذكر إسم أشرف مروان صراحة إلا أن الجميع فهم – دون عناء – أنه هو المقصود، فعبدالناصر لم يكن لديه سوى إثنين من الأصهار الأول هو “حاتم صادق” زوج “هدى”، وكان وقتها يعمل فى مركز الأهرام للدراسات، والثاني هو “أشرف” الذي كان يعمل في سكرتارية الرئاسة للمعلومات.
ويؤكد مؤلف ذلك الكتاب (وهو ضابط سابق فى المخابرات الإسرائيلية) أن “الصهر” لم يكن عميلا مزدوجا، بل كان ولاؤه بالكامل لإسرائيل، وقد قدم خدمات لاتقدر بثمن لها، مما يجعله فى مصاف “أبطال” الدولة اليهودية، وأهميته لم تكن فى قيمة المعلومات العسكرية التى كان ينقلها، بل تأتى من حيث قربه الشديد من دائرة صنع القرار المصري، وإطلاعه على التوجهات والخطط السياسية الحقيقية، وبالتالي لم تكن لقاءاته مع مندوبي المخابرات الإسرائيلية مجرد إستجواب لعميل ينقل أخبارا، وإنما كانت مناقشات سياسية وإستراتيچية عن القرار السياسي المصري قبل الحرب، ولم تكن إسرائيل تبخل عليه بالمال الذى كان يكلفها 100 ألف جنيه إسترلينى يتقاضاها في اللقاء الواحد.
ولم يبادر “أشرف مروان” بنفي تلك الرواية على الملأ، وإعتبرها نوعا من الدعاية السوداء للتشويه وإثارة البلبلة، وكان يقول لكل من يسأله عن ذلك (وكما قال ل”هيكل”) : “هل يصدق أحدا أن صهر عبدالناصر ومدير مكتب السادات كان جاسوسا للعدو؟”
مبارك يتحدث عن أشرف مروان
ولم تكن المسألة هى التصديق من عدمه بل كانت الحقيقة المجردة والواضحة هى المطلوب، لكن “أشرف” لم يكذب شيئا او يدلي حتى بتصريح وإلتزم الصمت التام.
وفيما عدا تصريح الرئيس “مبارك” (يوم وفاة أشرف مروان) الذي أشاد فيه بالدور الوطنى ل”الطفل المعجزة”(وللعلم فإن أشرف مروان كان من القلة القليلة التي حضرت حفل زفاف “جمال مبارك”) فإن أيا من أجهزة الدولة الأمنية والسياسية لم تقل شيئا وتجاهلت الأمر تماما، حتى السيد “عمرو موسى” وهو صهره لم يعلق على الموضوع.
ولقد راجت نظرية تبناها الإعلام المصرى وهي أن “أشرف” كان يقوم بدور العميل المزدوج بالإتفاق مع أجهزة الأمن المصرية، وهى نظرية لاتستقيم مع المنطق فبحسب ما تمت إذاعته فإن ذلك الجاسوس نقل لإسرائيل موعد بدء الحرب باليوم والساعة بالضبط، وقد كان الإتفاق المصري-السوري الأصلى هو شن الحرب مع غروب شمس السادس من أكتوبر قبل أن يتم تغيير الموعد إلى الثانية ظهرا، ولم يكن أشرف مروان موجودا فى مصر لحظة ذلك التغيير لأنه كان فى مهمة لليبيا.