أسواق المال تتحرك بالأقوال وليس بالأفعال

“السوق مثل البندول الذي يتأرجح دومًا بين التفاؤل الذي لا أساس له والذي يجعل الأسهم باهظة الثمن وبين التشاؤم الذي لا مبرر له والذي يجعل الأسهم رخيصة وتباع بثمن بخس.” _ بنيامين جراهام

مَن يُراقب أسواق المال يعرف جيدًا أن هذه المقولة أصابت كَبِدَ الحقيقة إلى حدٍ ما، فلم تعد الحقائق هي من تُغذّي الأسواق بل أصبحت الإشاعات والتكهنات والأقوال هي المؤثر الأكبر على تحركات هذه الأسواق.

فبمجرد أن تقوم جهة معينة بنشرِ خبرٍ ما فإن الأسواق تنقلب رأسًا على عقب، حتى لو كان هذا الخبر عاريًا عن الصحة وغير مبني على أساس دقيق.

وفي أيّ لحظة قد يحدث حدث سياسي أو اجتماعي معين يؤدي إلى نشر حالة من الفوضى وعدم اليقين في الأسواق الماليّة وهو ما يؤثر بشكلٍ مباشر على تداولات الأدوات المالية في هذه الأسواق.

ومن جانب آخر هناك بعض المشاكل التي تحدث في الاقتصاد ويكون لها تأثيرات سلبيّة على مجمل القطاعات المعنيّة في الدولة وبالذات على قطاع الاستثمار في الأسواق الماليّة.

ومن منطلق وجود مشكلات في الاقتصاد يأتي دور تدخّل الجهة المعنيّة والتي تعتبر المحرك الأساسي لتدفّقات الأموال في الاقتصاد وهي البنك المركزي، أو كما يُطلق عليه (الاحتياطيّ الفيدراليّ في أمريكا)، وذلك لغرض الحلّ أو التخفيف من حدة هذه المشكلات من خلال السياسة النقديّة وأدواتها المتعددة.

إعلان

وتمتلك السياسة النقديّة التي يديرها البنك الأم في الدولة العديد من الأدوات التي يستخدمها حسب ما يقتضيه حال الاقتصاد، وتعتبر معدلات الفائدة الأداة الأكثر استخدامًا لضبط إيقاع الأموال في الأسواق.

ولكن كيف يتمّ استخدام معدلات الفائدة في الاقتصاد؟ وما هو تأثير أسعار الفائدة على الاستثمار في أسواق المال وخاصة أسواق الأسهم والسندات؟ وما الذي حدث لأسواق الأسهم الأمريكيّة يوم الاثنين الأسود من عام 2018؟ هذا ما سنسلّط عليه الضوء في هذا الطرح.

معدلات الفائدة في الاقتصاد:

يُقصد بأسعار الفائدة

بأنها تلك التكلفة التي سيقوم المقترض بدفعها مقابل استخدامه أموال طرف آخر.

وتلعب معدلات الفائدة دورًا مهمًا في الاقتصاد، فهي الأداة التي تستخدمها السياسة النقديّة للتحكُّم في حجم الأموال المتداولة في الأسواق، فزيادة النقود عن الحدّ المطلوب يسبب مشكلة خطيرة وهي إيقاع اقتصاد الدولة بين مخالب وحش التضخُّم. وقلة النقود أيضًا مشكلة ليست بالهينة فهي تؤدي إلى حدوث حالة من الخمول والفتور الاقتصادي أو ما يطلق عليها بالانكماش.

ومن هنا يأتي دور تدخّل السياسة النقديّة وذلك من خلال إعادة النظر في مستويات معدّلات الفائدة وهي الأداة والعلاج المضادّ للأمراض الاقتصاديّة الخطيرة أمثال التضخُّم والانكماش.

حيث أنّ في الفترات التي يكون فيها الاقتصاد في حالة من النمو المتزايد في النشاط الاقتصادي، يعني استمراريّة حدوث زيادة في الأموال الموجودة في الأسواق. وعندما تزيد الأموال عن مستوى معين ينقضّ وحش التضخُّم على الاقتصاد ويعمل على رفع أسعار كافة السلع والخدمات، الأمر الذي يؤدي إلى تدهور القوة الشرائيّة للعملة وإلى فقدان الثقة فيها إن استمر الوضع لفترة طويلة.

ولعلاج هذه المشكلة يقوم البنك المركزي في الدولة برفع معدلات الفائدة بنسبة مئويّة محددة، وتعمل الفائدة المرتفعة على تقليص حجم الأموال المتداولة حيث يصعب على الأفراد الحصول على القروض من البنوك لأن الفوائد عليها مرتفعة، ومن جهه أخرى يلجأ الأفراد إلى ادّخار أموالهم في البنوك رغبةً في الحصول على العوائد المرتفعة عليها، والنتيجة هي سحب نسبة كبيرة جدًا من المعروض النقديّ في الاقتصاد، فتكلفة الاقتراض أصبحت كبيرة وادخار الأموال أصبح أكثر جاذبية بسبب العوائد المغرية.

أما في الحالة التي يعاني فيها الاقتصاد من التباطؤ فإنّ الحلّ الأمثل هو تخفيض معدلات الفائدة حتى يسهل على الأفراد أخذ القروض بتكلفة أقل من أجل تمويل مشاريعهم واستثماراتهم، الأمر الذي يؤدي إلى ضخّ الأموال في الاقتصاد وبالتالي إنعاش الأسواق وإعادة الحركة إليها.

” الارتفاع في سعر الفائدة مناسب للمدخرين ولكنه ضربة للمقترضين والعكس صحيح فيما يتعلق بالانخفاض.”

كيف تؤثر التغيّرات في أسعار الفائدة على أسواق الأسهم والسندات

هناك علاقة عكسية بين معدلات الفائدة وأسواق الأسهم؛ حيث أنّ رفع أسعار الفائدة من شأنة أن يؤثر بشكل سلبي على ربحية الشركات وعلى نشاطها التوسعي والاستثماري ويحول بينها وبين تحقيق المزيد من الأرباح، فالفائدة المرتفعة تعمل على تخفيض الإنفاق الاستهلاكي للأفراد، وبالتالي فإنّ إيرادات الشركات وأرباحها تنخفض وهو ما يؤثر بشكل سلبي على قيمة أسهم هذه الشركات المدرجة في البورصة.

من ناحية أخرى فإنّ الفائدة المرتفعة تجذب المستثمرين إلى سحب أموالهم واستثماراتهم من أسواق الأسهم التي لم تعد مجدية والانتقال إلى الاستثمار في البنوك عن طريق إيداع أموالهم فيها من أجل الحصول على العائد المرتفع.

أما عندما تنخفض الفائدة فإنّ المستثمرين يسحبون أموالهم المدّخرة في البنوك ويعيدون استثمارها في أسواق الأسهم والسندات حيثما وُجدت العوائد المرتفعة.

لكن ما علاقة معدلات الفائدة والتضخّم بما حدث لأسواق الأسهم الأمريكية مؤخرًا

ما حصل لأسواق الأسهم يوم الاثنين الأسود من هذا العام لم يكن بسبب شيء قد وقع بالفعل إنما كان بسبب شيء محتمل الحدوث؛ فقد أظهر الإعلان عن بيانات الوظائف الشهرية أنّ هناك نموًا في الأجور وهو ما يعني أنّ هناك بوادر لحدوث ارتفاع في معدلات التضخم وبالتالي زيادة احتمالية رفع الفائدة بوتيرة أسرع من قِبل الاحتياطي الفيدرالي. مما انعكس بشكل سلبي على أسواق الأسهم وأدى إلى حدوث انهيار حادّ فيها واكتست جميع المؤشرات باللون الأحمر المرعب بالنسبة للأسواق، الأمر الذي أدى إلى إصابة المستثمرين في أسواق الأسهم الأمريكية بحالة من الذعر الشديد دفعتهم إلى بيع الأسهم التي يملكونها خوفًا من أن تؤثّر الفائدة التي قد تُرفع على أرباح الأسهم التي في حوزتهم.

وما زاد الأمر سوءًا على أسواق الأسهم هو ارتفاع العوائد على السندات بشكل كبير جدًا، حينها قفزت عوائد سندات الخزانة الأمريكية لأجل 30 عامًا إلى 3.218% وصعد عائد السندات لأجل عشر سنوات إلى 2.931 %، أما عوائد السندات لأجل عامين فقد ارتفعت بنسبة 2.266% تقريبًا، حيث ومع موجة الهبوط الحادة التي شهدتها أسواق الأسهم فإنّ المستثمرين تهافتوا للبحث عن الاستثمارات الأكثر أمانًا من أجل استثمار أموالهم فيها. وتعتبر سندات الخزانة الأمريكية من الاستثمارات الأكثر أمانًا كونها مدعومة من حكومة الولايات المتحدة.

بالفعل كانت ليلة مخيفة للأسواق خسر فيها مؤشر “الداو جونز” مايقارب ال (1600) نقطة قبل أن يعاود الارتفاع قليلًا ويقلّص من خسائره قبل الإغلاق.

وكما يقال أنه:

إذا عطس الاقتصاد الأمريكي تصاب جميع الاقتصادات بالزكام

فلم تهبط أسواق الأسهم الأمريكية فحسب بل انتقلت حمّى الهبوط هذه إلى كافة الأسواق الأوروبية والآسيوية وحتى العربية، فالخسائر طالت الجميع ولم ترحم أحدًا، فما يصيب أمريكا بالتأكيد ستحل لعنته على الجميع.

الغريب في الأمر أنّ بعد ظهور البيانات الرسمية التي أكدت أنّ هناك ارتفاعًا فعليًّا في معدلات التضخم وبالتالي فإنّ احتمالية رفع الفائدة أصبح وشيك الحدوث، لكنّ الأمر لم ينعكس على أسواق الأسهم بتلك الصورة السلبية التي حصلت عندما كان الأمر مجرد تكهّنات بشأن نمو معدلات التضخم.

وهو ما يثبت لنا حقًا أنّ أسواق المال أصبحت تتأثر بالتكهنات والأقوال أكثر من تأثرها بالحقائق والأفعال.

أخيرًا

هناك الكثير من الأشخاص يعتقدون أن الاستثمار في الأسواق المالية أمر غاية في السهولة وبإمكان الجميع جني الأرباح الطائلة منها بمجرد الدخول إليها، لكن الحقيقة عكس ذلك تمامًا فمجال الاستثمار في أسواق المال لا يخلو من المخاطر فلا أحد يستطيع أن يعرف بشكل دقيق تحرّكات الأسواق وما ستؤول إليه في المستقبل مهما بلغ من الذكاء، ولعلّ خير من يصف هذا الأمر هو الفيزيائي العظيم “إسحاق نيوتن” عندما كانت له تجربة فاشلة في مجال الاستثمار في الأسهم، عندها قال:

إنني أستطيع حساب حركة الأجرام السماوية ولكن لا يمكنني حساب جنون البشر

فلم تشفع معدّلات الذكاء المرتفعة لنيوتن من الخسارة في أسواق الأسهم حينها وبسبب شعوره بأنّ حركة السوق قد بدأت تخرج عن السيطرة قام ببيع الأسهم التي يملكها في شركة “ساوث سي” وبعد أشهر جرفه حماس السوق وعاد لامتلاك أسهم الشركة ولكن بسعر أعلى مما جعلة يخسر ما يقارب ال 3 ملايين دولار بأموال العصر الحالي.

لذلك ينبغي أخذ الحيطة والحذر عند التداول وخاصة في ظلّ حدوث التقلّبات الحادة في الأسواق، ومحاولة ضبط النفس وعدم اتخاذ القرارات الانفعالية التي ستقودك بالتأكيد إلى الخسارة مهما بلغ مستوى ذكائك.

إعلان

اترك تعليقا