هل تنتصر التكنولوجيا على الأخبار الكاذبة؟!

كان الصّدق موجودًا حتى ظهر ترامب.. يبدو أنّ هذا هو لسان حال كلّ منتقدي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي يتبادل اتهامات متصاعدة بالكذب والتضليل من أطراف عديدة ترى فيه نموذجًا معاصرًا ومحفزًا للعمل على مواجهة الأخبار الكاذبة ، ففي ديسمبر 2016، وقبل تولّي ترامب منصبَه رسميًا، أطلقت جريدة واشنطن بوست برنامجًا خاصًا للتحقق وفحص تغريدات دونالد ترامب فقط على تويتر تحت عنوان RealDonaldContext يفنّد أخطاء وسياق التغريدة الواحدة..

هذا الأمر الذي أثار الرجُل فأطلق الاتهامات ضدّ واشنطن بوست ومنعها من أي مؤتمر صحفي له، ليتطوّر الأمر مع استعراضات ترامب وغزارة تغريداته المثيرة فتفعّل جريدة لوموند الفرنسيه قاعدة بيانات لهزيمه السموم والخدع الإخبارية التي انتشرت في الثلاث سنوات الأخيرة بإنشاء قسم خاص لفحص الحقائق وكشف الأخبار الكاذبة التي تسنتزف وتعبث بالأمن الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في العالم.

اعتمدت لوموند في محرّك البحث الخاصّ بها على فكرة إشارات المرور، فاللون الأحمر بجانب النصّ يعني أنه كاذب والأصفر يشير إلى فقدان الثقة في المصدر، أما الأخضر فيدلّ على صحة النص والخبر.

وقبل كلّ ذلك وبعده يظلّ الفيس بوك هو المتّهم الأول والمروّج الأساسي لصناعة الأخبار الكاذبة في عالمنا المعاصر؛ من خلال سيطرته المتنامية على إعلانات المواقع الإخبارية والتي دفعت الكثيرين لاتهام الفيس بوك بتضليل الناخبين في استفتاء انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي بإعطاء أولوية النشر لخبر يفيد بدفع بريطانيا نحو 350 مليون يورو أسبوعيًا للاتحاد الأوروبي، وكذلك المساهمة الفعالة في فوز ترامب بالرئاسة الأمريكية، وهو الأمر الذي أكده ترامب نفسه، ودفع مارك زوكربيرج مؤسس الموقع للإعلان مؤخرًا عن إعطاء الأولوية للمنشورات الإجتماعية على حساب منشورات وسائل الإعلام التجارية، وتقليل مساحة البث الإخباري بنحو 1% لمواجهة المعلومات المضللة واستطلاع رأي نحو 2 مليار مستخدم شهريًا في جودة الأخبار الجديرة بالثقة ومن ثم منح وسائل الإعلام درجات في الظهور والانتشار.

هنا، لنا وقفة مع مشهد آخر مثير وساخر، ففي منتدى دافوس الاقتصادى رقم 48 الذي انتهت أعماله في 26 يناير الماضي، وجّه الملياردير جورج سورس نيران اتهاماته ضد الفيس بوك وترامب معًا، وبعدها بساعات قليلة خرجت إلى النور ميفان باباكار، مديرة مشروع التحقق الإليكتروني من الأخبار الكاذبة التي تتبع منظمة “الحقيقة الكاملة” في بريطانيا، لتعلن عن تكنولوجيا جديده تبدأ من أكتوبر 2018 تفحص وتتحقق آليًا من تصريحات المسئولين على الهواء مباشرة، من خلال ربط البيانات والإحصاءات الحكومية الرسمية وأرشيفٍ من المواقف والتصريحات السابقة، وكذلك برمجة اللغات الطبيعية مع البث الإخباري المباشر لأهم الأحداث العالمية، للكشف الفوري عن الأخبار الكاذبة الخاطئة والمعلومات المضللة وتحليلها قبل انتشارها.

إعلان

المثير هنا أن الملياردير جورج سورس المعروف بدوره في تمويل ثورات التغيير في أمريكا الجنوبية وأوروبا والشرق الأوسط هو نفسه المموّل والداعم الرئيسي الآن لمنظمة “الحقيقة الكاملة” التي تلقت عبر مؤسستَي  Omidar و OpenSociety التابعتين لسورس تمويلًا يقدّر بنصف مليون جنيه إسترليني للقضاء على الأخبار الكاذبة بحلول 2020، حسب تصريحات ميفان باباكار.

إذَن، نحن أمام تغيير جوهري في التعامل مع أخبار العالم، من جهود وابتكارات وادعاءات دوافعها سياسية واقتصادية في المقام الأول، للحدّ من الكذب في العصر الرقمي، وهو ما يدفعنا لطرح التأملات والأسئلة التالية في وجه مستقبل تلك التكنولوجيا الممتعة:

  • من المعروف أن أي خطإٍ ينشأ نتيجة إما معلومات مغلوطة أو معلومات منقوصة، فهل تستطيع التكنولوجيا فعلًا تنقيح الأمرين للوصول إلى المعلومة الصحيحة الكاملة، لاستعادة الثقة في مواقع النشر التي وصلت لأدنى مستوياتها بنحو 25% فقط خلال عام 2017 حسب مؤشر “إلدمان” للثقه؟!
  • الانتقاء صفة إنسانية خالصة تخضع للتوجّه والتحيّز ومزاج ومصلحة المصدر والمتلقي المشتركَة على حد سواء، فما هو ضمان حيادية اختيار تصريحات لمسئولين بعينهم ومن ثم التحقق منها وتحليلها على أساس تكرارها و تأثيرها؟! وما هي الأدوات الفعالة والحدود المسموح بها للعمل أمام هذا الفيض الهائل من الأخبار والمعلومات اللحظية؟!
  • هل الهدف فعلًا مكافحة التضليل والكذب الإليكتروني بشكل عام أم خلق منظمات جديدة وكيانات عملاقة على غرار منظمات التصنيف الائتماني؛ تعيد ترتيب وتصدير وتوجيه المعلومات والأخبار حسب رؤية مموليها؟! وهل نشهد منافسة قريبة بين منظمة فيرست درافت العملاقة لتقصّي الحقائق ومنظمة الحقيقة الكاملة للتحقق الإليكتروني؟!
  • كيف ستسقبل مؤشرات الأسواق المالية التصريحات ونقائضها وتأكيدها في نفس الوقت؟! هل ستزيد عصبية الأسواق حينها ارتفاعًا وانخفاضًا؟ هل سيؤثر ذلك على تدفق واستقرار السيولة فى الأسواق؟! وكيف حال معنويات المستثمرين حينها؟! وما هي المنتجات الجديدة التي ستخلّفها تلك التكنولوجيا؟
  • هل تفلح تكنولوجيا التحقق الإليكتروني من الأخبار الكاذبة في التفريق بين وجهة النظر والرأي والتصريح والموقف، والربط الأمين بينهم جميعًا للحصول على تحليلات ونتائج أقرب للصواب؟! أم أن الذكاء الصناعي سيتوقف مذهولًا و مقيدًا أمام الألعاب النفسية الرهيبة والمتنوعة التي يمارسها البشر ضدّ أنفسهم؟!

 

 

إعلان

اترك تعليقا