مواسم الحب قصة قصيرة لإيناس مانسي
هناك في المرتفعات التي تبدأ فيها النّهارات بصياح الدّيكة، وتُعلِن فيها الحياة عن تناقضها عن ألسن الحيوان، فتُبشّر بخيرها بزقزقة عصفور وتُنذر بشرّها بعُواء ذئب في وقت السّحَر. ويبدأ البشر ضجيجهم المعتاد في صباحات ريف نشيط.. وتلقی الشمس نظيراتها من النّساء والشابّات اللّواتي يستيقظن قبل الحياة بقليل.. ليشهدنَ البدايات ويُباركنها كآلهة.
تعيش فتاتنا بسمة، وهي أرقّ من اسمها بقليل، كان لها من البدايات أن تكون علی رأس إخوتها في الولادة، فكبُرَتهم عمرًا وجهدًا؛ إذ اضطرّت منذ سنّ الثامنة للانقطاع عن تعليمها ومساعدة أمّها في تربية إخوتها، كانت متوسطة الجمال، طويلة القامة، شفتاها رفيعتان، جافّتان طوال الوقت، بسبب تغير الطقس، وبسبب تعرّضها للفرن التقليدي طويلًا. أما شَعرها فقد استوی علی سطح رأسها وانتهی بضفيرة متدلّية من غطاء رأسها. أمّا إذا تطاول شغفُها بنفسها علی انضباط روتينها اليومي فكانت تُسدِلُ علی جبينها وخدّها بعض السّوالف كإعلان عن اكتمال النُّضج الأنثوي، خاصّة في اللّقاءات التّي تجتمع فيها النساء في مواسم الأفراح. فكانت إذا أربكتها نظرات بعض النسوة وحملقتهنّ فيها، ضمّت تلك السّوالف في ارتباك لتركُنها خلف أذنيها، ثم تُعاود عرضها إذا خفّت عنها النظرات.
طبعًا هذه الجلسة الاستعراضية لمفاتنها لا تدوم لفترة طويلة؛ إذ عليها إثبات جدارتها في حذق الأشغال المنزلية وإيتيكيت الضّيافة وتقديم الطّعام والمشروبات في هذه المناسبات، الفتاة النشيطة والأكثر حيوية هي التّي تجلبُ الأنظار أكثر وتُوضع في أوّل قائمة الفتيات المُرشّحات للزّواج، وليس غريبًا أن تتدرّب الفتيات علی إتقان هذه التفاصيل طوال الشتاء لتُختبَرنَ فيها صيفًا علی مرأی الجميع، ولا غرابة أن يتغافل مجتمعها الصغير المحافظ والمتشدّد علی الخروج عن صرامة القواعد الأخلاقية، فيُسمحُ لهنّ صيفًا ما لا يُسمحُ لهنّ شتاءً، فيرقصن ويتمايلن في ليالٍ صيفية علنًا أمام الرّجال، لعلهنّ تظفرن بعريس في هذا الموسم قبل أن يعود الشتاء بقيود التزمّت والمنع. أمّا من فاتها الموسم فعليها انتظار سنة أخری لتجديد حظوظها.
لم تعرف بسمة من العالم غير الجبال المحيطة بها، وغير الأعمال المنزليّة كواجبٍ يوميّ لا حياد عنه، ولم تعرف إجازة من كلّ هذا غير يوم واحد في الشهر؛ اليوم الذي تجتمع فيه فتيات القرية في منزل “نائلة”، نائلة هي الرّاعي الرسمي لأنوثتهنّ! وسفيرة الموضة إلی قريتهنّ النائية، كيف لا وهي تأتيهنّ مُحمّلة بحقائب الثياب المستعملة ومساحيق التّجميل -فاقدة الصلوحية- التي عنطت رائحتها، والعطور الرّخيصة في القوارير البلاستيكيّة، مع ذلك تدّعي نائلة أنّها سلعة تركيّة باهظة الثمن، فتقوم بغسل الثياب المستعملة وكيّها وتقوم بتعليب مواد التجميل وتضع عليها مُلصقات أسعار وهميّة تضمن بها حصد ما وفّرته نساء وفتيات القرية من المال في مواسم الحصاد أو جني الزيتون خِفيةً عن آبائهن وأزواجهنّ.
وعندما لم يكن الحبّ مُتاحًا لهنّ ما لم يُقدّم كعرضٍ أو طلب من إحدی العجائز، فقد كان الحبّ كصكوك غفران تنلنها الفتيات جزاءً خدمتهنّ وتفانيهنّ في مَحارِب العادات والتقاليد. وكانت مساحيق التجميل وتلك العطور البخسة قرابينًا يُقدّمنها لأرباب العادات ليَنلنّ الرّضا.
وبسمة لا تزيد عليهنَّ بشيء، غير أنّها كانت ذات صوت عذب يُحاكي في عذوبته جمال الطبيعة المحيطة بها، كما لو أنّه آخر زفرة من زفرات رياح خريفيّة مسافرة لصيفٍ آتِ، أو كأنه زقزقة عصفور أُصيب بطلق ناري، فراح يُغرّد ليتأكّد أنّه قادرٌ علی الغناء مرّة أخری، وإن ظلّ كسِير الجناح مُقعدًا في عشّه، ولست أعلم حقًا أيّهما أهمّ بالنسبة للعصفور أن يغرد أو أن يطير، ولكن الأمر سيّان بالنسبة لبسمة، فلا هي تغرّد ولا هي تطير بعيدًا عن السياج المحيط بها، فكان الغناء بالنسبة إليها من المُتع المسروقة التّي لا تُعلن عنها إلّا في الجلسات الأكثر سريّة، إذ لا يجب أن تُعرف بجمال صوتها حتی لا توصف بالمجون وبعدم الجديّة و بأنها “خفيفة” إذ كان الثِقل في أن تكون الفتاة جادة في ما ينفع المجموعة نفعًا ماديًّا لا أكثر! أمّا كلّ ما هو محسوس، فمتروك للخفاء، ولكنّها مع ذلك لا تبخُل علی نفسها بتوفير المال لشراء أشرطة الكاسيت التي تأتي بها نائلة من مدن “العادي” إلی ريف “المُعادِي” لكلّ ما يُنعش حواس امرأة. تسمعها بسمة خِلسة في نهارات الصيف الطويلة، فتدندن معها حتی تبتلعها كلمات الأغاني إلی خيال قصص ترنو إلی عيشها، ثم يبتلع النّوم خيالها فتنام ملء قلبها، والحقّ أنّ أحلام بسمة لا تختلف كثيرًا في النوم وفي اليقظة، وإن كانت تستطيع أن تُداري صوتها العذب فإنها لا تستطيع مداراة حبّها لابن عمّتها “خليل”، لقد كان غاية انتظارها الوحيدة، والأفق الوحيد الذي يعلّق عليه قلبها كل آماله، إنّه النّوتة المفقودة في كلّ الألحان التّي سمِعَتها، والترجمة الوحيدة لكلّ كلمات الأغاني التّي تطربُ لها.
كانت كلّ آمالها معلّقة حول نيل رضا عمّتها، فتتّخذها زوجة لابنها، ولعلّها كانت تعتقد أنّ صلة القرابة ستُقرّب الطريق إلی قلب خليل، ولكنّ في قلب هذا الأخير، هذا الشاب ذو الملامح الهادئة والوجه الذي تحرقه الشمس فيتلوّن بحمرتها، كان ينبتُ حلم آخر، وتنسج قصّة أخری مطامحها، ويعدُّ انتظار آخر لحظات صبره، وجسر آخر يمتدّ حُبًّا من ريف الصمت إلی مُدن تبتلع كلّ الأصوات ثم تزفَرُ بها صُراخًا متنكِّرًا.
خليل كان يحبّ نائلة، بل كان الحبُّ متبادلًا بينهما، وهو الأمر الذي رفضته عائلته رفضًا قاطعًا، فنائلة في نظرهم فتاة يتيمة لا سُلطة عليها غير والدتها العجوز التّي لا تدبير لها مع تدابير ابنتها، هي الفتاة المتمرّدة التّي لم تنسحب مع جُملة الفتيات اللّواتي تنتهي مسيرتهنّ الدراسية عند أعتاب السنة الابتدائية الأخيرة، فراحت تُزاحم الذّكور في طلب العلم في مدينة غير مدينتها وفي مبيتات التلاميذ بعيدًا عن بيتها، ثم عندما نالت من العلم ما نالت، التهمتها المدن بتبرّجها وبمحلّاتها، وبالوكائل المكتظّة بخمسة الثمن وبالزّحام وبالغناء والرقص والحب والمقاهي والركض والعادي، كلّ شيء عادي هناك، جعل من نائلة فتاة غير عادية، لا تشبه فتيات القرية في شيء، غير ذلك النّسب الذّي مازال يُنازع من أجل البقاء، أمّها هي الوتد الوحيد الذّي مازال يدافع عن حقّها في العودة إلی تلك الأرض كلّ مرّة مُحمّلة بالعادي، العادي المخيف. العادي المُربك. العاديّ الذي يشوّه عيشهم المتواضع. العادي الذي ينتهك قواعدهم. العادي الذي لا يمكن أن يصبح حبًّا في قلب خليل ويهدم تلك الوساطة بين رضا العجائز وقلوب العاشقين، ونائلة وخليل ليس بينهما أي وساطة قبولًا أو رفضًا فكان بالنسبة لهم أمرًا محظورًا وحبًّا شاذًا وجبت محاربته حتی لا يتحوّل إلی عدوی في قادم الأيام.
والحقّ أنّ خليل لم يكن بطلًا ليدافع عن حبّه، فلم يعترض بغير الحزن والانقطاع عن المباهج والانزواء، أمّا نائلة وقد علِمت منذ البداية أنّ ما اختارته لحياتها لا يمكن أن تجنِي منه غير هذا الرفض العنصريّ لشخصِها، لم تحاول الاعتراض ولا حتّى الاستنكار، فعادت إلی مدينتها مُحمّلة بحقيبة سفر مكتظّة هذه المرّة، فيها بقايا من كلّ شيء، من العطور ومساحيق التجميل وأشرطة الكاسيت، وبقايا حبٍّ في قلبها زهدوا فيه بثمنٍ قليل، فباعوها للمدن، لم يكن ثمّة أيّ داعٍ للبقاء، ولا فرق بين أن تُنفی من القلوب أو تُنفی من وطنها، انتزعت نائلة ذلك الوتد الذي يشدُّها إلی تلك الربوع، أُمّها التّي لم تشفع لها عندهم، فرحلتا معًا بغير رجعة.
وتُعرَضُ بسمة علی خليل كزوجة. فيقبل.. قبِل لأنّه لم يرفض قرار أهله في المرّة الأولی، فلِمَ سيرفضه هذه المرة؟ لم يعد الاختيار بتلك الأهمية بالنّسبة إليه. بسمة أو غيرها هي بدل فاقد، وسدُّ أذن بالشمع، وإسقاط واجب تجاه عائلته.
أمّا بسمة التي تری أنّ حلمها قد تحقّق وأنّها ستكون أخيرًا مع من تحبّ، لم تكن تعلم أنّ ذلك الجسر الذّي امتدّ من قلب عمّتها العجوز إلی خليل، ليس إلّا جسرًا متآكلًا، قَطّعت أوصاله عذابات حبّ آخر، فما كان ليؤدي لشيءٍ غير الفراغ، هذا الفراغ الذي دأبت عليه الحياة بين خليل وبسمة طيلة سنوات من الزواج فيما بعد، حتی ذلك المنزل الذي صار مليئًا بالأطفال وبالحصاد والزيتون ورائحة الخبز والطّعام، والذي يعجُّ بدخان الفرن صباحًا مساءً، كان يملأ بطونهم لكنّ قلوبهم ظلّت خاويةً باردةً مجوّفة تسكُنها ذاكرة ألمٍ قديم، وبسمة التي لم تكن تستطيع إخفاء حبّها لخليل صارت تُبدع في ذلك وتتحفّظُ عن تعابير الحبّ، وما كانت تعلم من أمرِ حبّ خليل لنائلة شيئًا إلّا بعد زواجهما، حين صارحها بذلك مبرّرًا لها أسباب جفاءه، وحتّی يستثير كرامتها فتنأی بنفسها عنه وتتركه وشأنه لماضيه وذكرياته.
المنزل كان يعجّ بكل شيء عداهما، أمّا خزانة خليل الصغيرة المُعلّقة أمام السرير فقد كانت مكتظّة برسائل كثيرة، تكشف نفسها علنًا ولا تستتر، تسخرُ من جهل بسمة بالقراءة والكتابة، فلم يتّخذ خليل لتلك الخزانة قِفلًا، ولم يشكّ أنّ يد بسمة ستمتدّ إليها، وحتّی وإن امتدّت يدها فلن يمتدّ عقلها، غير أنّ ما كان يمتدّ حقًا هو قلب بسمة، التي تری تلك الرسائل كل يوم، تتصفّحها بعينيها، تُعمِل حدسها لعلّها تفكّ شيفرات تلك الرسائل، تُعمل كل حواسّها تشمّ الرّسائل، فتجد فيها ريحًا أنثويًّا، تلمسها فتحسّ بقايا عرق رجل، نديّة بدموعٍ منهمرة، مهترئَة تلك الرسائل كما لو أنّها قُرِأت ألف مرة، ودخلت الظّرف وخرجت ألف مرّة، ونامت بين ذراعيه ألف مرّة.
لا يترك لها الحدس خيارًا غير إجابة واحدة، وهي أن تلك الرسائل من نائلة لا غيرها، ورغم أنّ خليل أراد مِرارًا أن يقطع تساؤلاتها بالقول أنّها رسائل تلقّاها من أهله وأصدقائه عندما كان يُؤدّي الخدمة العسكرية لم يُفلح في ذلك، تفضحه لهفته و حرصه عليها كلّما فتح فيها الخزانة. مفضوحٌ هو الحبّ في أعين حامليه.
كرامة بسمة لم تسمح لها بالاستعانة بإحداهنّ لتقرأ لها تلك الرّسائل، ليس زُهدًا في معرفة الحقيقة أو تأكيدها، بل لأنّها ظلّت تعيش علی أملٍ ضعيفٍ في أن لا تكون لتلك الرّسائل علاقة بالحبّ، أملٌ كاذبٌ أمهلَتهُ سنوات من الصبر. حتی تكبر ابنتها الكبری. حتّی تتعلّم القراءة، فتكون القارئة التي تكشف سرّ والدها وتشفي هوس أُمِّها، وتهجأ كلمات لا تفهم من معناها غير الأحرف الأبجديّة.
تجلس عند ركبتيّ أمّها، تقرأ تلك الرّسائل، فتنهال كلماتها كالسّهام علی بسمة إنّها نائلة كانت تحبّه حقًا كما أحبّته بسمة أيضًا، ولكنّ نائلة كانت تقول له ذلك، كانت تُجيد لغة الحبّ فلطالما تفوقّت عليهن. حتی وهي غائبة الآن حاضرةً حضور الشمس في الشِتاءات الباردة، هكذا كتبت نائلة لخليل في إحدی الرسائل مقتَبسةً أُغنية فيروز
” بأيّام البرد وأيّام الشتي… والرصيف بحيرة والشارع غريق… تجي هاك البنت من بيتها العتيق… ويقلها انطريني وتنطر ع الطريق… ويروح وينساها وتدبل بالشتي… حبيتك بالصيف حبيتك بالشتي”
تذكّرت بسمة شغفها بتلك الأغاني، تذكّرت أنّ صوتًا عذبًا محشورًا في حلقها. إنّ ما كتبته نائلة، كانت بسمة قادرة أن تصدح به عاليًا. أين ذلك الصوت الآن؟ إنّه مسجون، مخنوق ببكاء عتيق، عمره سنوات من الصمت ومن عذابات حبّ أمِّي.
في هذه اللحظة الفارقة في حياة بسمة والتي ما عادت تخشی فيها خسارة شيء، ولا تحتاج فيها وسيطًا لقلب من تحبّ، يخرُج ذلك الصوت طليقًا، وراء باب غرفة خليل المغلقة، تضع رأسها علی خشباته الباردة، تُغنّي بصوت يُلحّنه الحنين والبكاء، “مرقت الغريبة عطيتني رسالة كتبها حبيبي بالدمع الحزين، فتحت الرسالة حروفها ضايعين، ومرقت أيام وغربتنا سنين، وحروف الرسالة محيها الشتي، حبيتك بالصيف، حبيتك بالشتي”
لا حياة لمن تنادي خلف ذلك الباب المغلق، لا شيء. غير صوت بكاء متقطّع لرجلٍ مُقطّع بين ذكری حبٍّ غابر وبين امرأة تستجدي الحبّ من خلف باب لن يُفتَح أبدًا، أغنية واحدة لثلاثة أشخاص، أغنية واحدة لهم جميعًا، والحب قاضٍ نقف أمامه جميعًا مظلومين، لا ظالم في الحبّ. هو سرّ برتبة ذنب نعتقد أنّنَا نستطيع إخفاءه طويلًا. وأغنية حزينة، كلٌّ منّا يعتقد أنّها كُتِبت له وحده..
قد يعجبك أيضًا: أعظم عشر قصص حب في التاريخ