كيف تتعافى من أبوين غير متاحين عاطفيًا؟ (مترجم) – 2
أنماط الآباء غير الناضجين عاطفيًا
يتجلى عدم النضج العاطفي للآباء في أربعة أنماط رئيسية:
- الأب الانفعالي أو الأم الانفعالية
- الأب المتحكم أو الأم المتحكمة
- الأب السلبي أو الأم السلبية
- الأب الرافض أو الأم الرافضة
قد تنطبق إحدى هذه الأنماط العامة على أحد أبويك أو كليهما لذا دعنا ننظر عن قرب لما يشمله كل نمط من هذه الأنماط:
- الأب الانفعالي أو الأم الانفعالية: يرسّخ الآباء الانفعاليون مشاعر عدم الاستقرار، ما يسبّب التوتر والقلق لأبنائهم الذين يُضطرون إلى التعامل معهم بحذر بالغ، ذلك لأن لديهم مزاج عاطفي مضطرب لا يمكن التنبؤ بتقلّباته.هذا الوضع السام يزيد مشاعر عدم الاستقرار، وربما يؤدي إلى الترويع؛ فيفقد الأبناء اتزانهم العاطفي بسهولة، تأثرًا بحزن عابر،ويصبحون أسرى اندفاعاتهم العاطفية قبل أي شيء.
- الأب المتحكم أو الأم المتحكمة: تجد هنا الأبوين مهووسين بمثالية كل شيء، قد يبدو الأمر طبيعيًا ولا يحمل أي علامات اضطراب نفسي، لكن الافتقار إلى النضج العاطفي يظهر في الاعتقاد بامتلاكهما لجميع الإجابات وإحاطتهما بالمسائل كافة. قد يبدوان داعمين لنجاحك،لكنهما يفرضان وصاية على رغباتك ويدفعانك عادة إلى أمور بعينها.يأتي هذا الدعم الموجّه من رغبتهما في دفعك للالتزام بمعاييرهما الصارمة النابعة من النشأة المحرومة عاطفيًا. إذ يخافان من الإحراج إذا انخفض أداؤك،ما يسرّب إليك شعورًا بأنك في موضع تقييم مستمر، سواء في الدراسة أو فيما تمارسه من هوايات. ينشغل الأب المتحكم/الأم المتحكمة دائمًا بضرورة إنجاز الأمور.هذا الهوس بالإنجاز يضعك تحت ضغط زائد، وتشعر أنه يتوجب عليك دومًا فعل المزيد أو فعل شيء آخر غير الذي تقوم به بالفعل،ما يكسبك إحساسًا بعدم الكفاية وقلة الاطمئنان عند الخضوع للتقييم. كثيرًا ما يتجاوز الأبوان المتحكمان حدودك الشخصية ويفرضان وصايتهما على اهتماماتك ويتصرفان نيابة عنك دون السؤال عن موافقتك، كما يتدخلان في حياتك بشكل مفرط،ما يطمس شعورك بالاستقلالية.
- الأب السلبي أو الأم السلبية: يتجنّب هذا النوع من الآباء مواجهة المواقف الصعبة. قد يبدو عليهم أحيانًا الهدوء والمرح والحنية، وتجد أرواحهم بشوشة،لكنهم يفشلون في رعاية أبنائهم حين يحتاجون إلى الرعاية العاطفية.إذا أظهر لك أحد منهم شيئًا من العطف والحنان، فهذا على الأغلب ينبع من تمركزه حول ذاته؛ حيث يستغلك كي يشعر هو بأنه محبوب وضروري في حياة الآخرين، ليسد بذلك حاجاته النفسية. تجد نفسك تنجذب دون وعي منك إلى هذا الاهتمام الذي يمنحه لك، بل وتعتبره “الأب المثالي”.ورغم التجارب الإيجابية المحتملة، لكنك قد لا تشعر بأهمية وجوده؛ إذ ينسحب هذا النوع من الآباء في وقت الشدائد، ومنهم من يترك العائلة وراء ظهره إذا أتاحت له الحياة فرصة أفضل، تاركًا أبناءه يعانون شعورًا عميقًا بالنبذ.
- الأب الرافض أو الأم الرافضة: تجد هذا النوع من الآباء منكفئًا على نفسه، غير مبالٍ بأبنائه ومزدريًا لهم؛ حيث ينبذ اهتمام أبنائه به ويبدو متحفزًا نحوهم بشكل عام ويُحيط نفسه بسياج عازل عنهم. يفتقر الآباء من هذا النوع إلى حس التعاطف ويمكن أن يظهر على طباعهم الوعيد والتحفز، وفي أشد الحالات تطرفًا، يمكن أن يكونوا ذوي ميول سيكوباتية، أو أن يصل بهم الأمر إلى تعنيف الآخرين جسديًا. إذا كان أحد والديك من هذا النوع، ستجد صعوبة في التعبير عن رغباتك، ما ينتج عنه تبنّي أسلوب التعلق الرافض المُتجنب.
نمطا الاستجابة لانعدام النضج العاطفي
يستجيب الأطفال لانعدام النضج العاطفي لدى آبائهم وفق نمطين عامين وذلك حسب طباع الطفل نفسه:
- نمط خارجي (مستهدِف للآخر – externalizer)
- نمط داخلي (أو مستهدِف للذات – internalizer)
تجد أصحاب النمط الأول يميلون إلى توجيه اللوم للظروف والآخرين عندما تتعقد الأمور، بينما يميل أصحاب النمط الثاني إلى توجيه اللوم لأنفسهم. قد تندرج تحت أحد هذين النمطين، وقد تندرج تحتهما معًا، لأن الأمر أقرب إلى طيف متداخل أكثر من كونه ثنائية جامدة: “إما/ أو”. دعنا ننظر إلى ما يشمله كلٌ من هذين النمطين عن قرب:
- النمط الخارجي المستهدِف للآخر:
تجد الطفل يوجه اللوم إلى الآخرين عندما تتعقد الأمور وربما يسيئ التصرف. يتعامل الناس عادة مع هذا النوع من الأطفال على أن لديه مشاكل سلوكية. قد تشمل هذه المشاكل السلوكية تعاطي المخدرات وانتهاج سلوك متهور ومتمرد. ويحدث أن يتطبع هذا النوع من الأطفال بطبائع آبائهم المفتقرة إلى النضج العاطفي؛ فتجدهم يكبرون وهم يفرضون رغباتهم على الآخرين ويتلاعبون بمشاعرهم ويحملونهم على الإحساس بالذنب والخزي. يبدو على هذا النوع مشكلة واضحة ولا يمكن التغاضي عن معاناتهم بسهولة، ما يدفع البعض لنصحهم بالتماس العلاج. ورغم أن هذا النوع من الأطفال يُطلب إليه كثيرًا التماس العلاج، فقليل منهم من يحصل على الدعم اللازم وذلك لأن يميلون أكثر إلى توجيه اللوم إلى الآخرين.
- النمط الداخلي المستهدِف للذات:
على النقيض، تجد هذا النوع يلوم نفسه ويبحث بداخله عن أسباب تعقد الأمور. هؤلاء الأشخاص حساسون للغاية ويدفنون مشاعر العنف بداخلهم ويرتدون الأقنعة عندما يتعاملون مع الآخرين. يهابون المصارحة بحقيقة مشاعرهم لاعتقادهم بوجود عطب في طبيعتهم. يشعر المستهدِفون للذات بوحدة مؤلمة، ويسعون دومًا لتواصل حقيقي، ويعتقدون أن أفضل وسيلة لتحقيق التواصل هي أن يصبحوا أشخاصًا محبوبين؛ يضعون رضا الآخرين كأولوية لهم، ويبذلون جهدًا كبيرًا في سبيل ذلك، معتقدين بأن إهمال النفس هو ثمن مقبول لتحقيق هذا التواصل. ولأن هاجس عدم الكفاية يطاردهم دومًا، فهم يسعون إلى تعويض هذا عبر فعل المزيد. إذ يعتقدون أن قيمتهم تنبع من كمّ الأشياء التي يمنحونها إلى الآخرين، وليس من حقيقة وجودهم ذاته.
إن وهم الفوز بمحبة الآخرين يجعلهم يدورون في حلقة مفرغة من إهمال النفس، ويدفعم عجزهم عن قول “لا” للآخرين إلى يكونوا الطرف صاحب الجهد العاطفي الأكبر في علاقاتهم. ورغم شعورهم بالضيق تجاه من يتحملون مسؤوليتهم، فهم يخفون ذلك الضيق ويظهرون لهم الرضا أو التصميم على منح المزيد بدلًا من التعبير عن غضبهم.
ولأن آباءهم غير الناضجين عاطفيًا أنكروا عليهم مشاعرهم، فقد باتوا يستبطنون ذلك الإنكار لمشاعرهم ولأنفسهم من خلال التقليل من معاناتهم والاعتذار عمّا يشعرون به، فضلًا عن شعورهم بالذنب لتخصيص الآخرين بعض الوقت لهم، وشعورهم بأنهم سيصبحون عبئًا على كاهلهم إذا طلبوا منهم المساعدة.
قد يستبطن أفراد النوع المستهدِف للذات عقلية “مطلِق الأحكام”؛ إذ يقسون على أنفسهم ويحرصون على عدم البوح للآخرين باحتياجاتهم ومعاناتهم خوفًا من حكم الآخرين عليهم بالعجز، ما يؤدي بهم إلى مزيد من الانعزال والشعور بالحرج من طلب المساعدة. وإذا منح أحدٌ قدرًا من الاهتمام لمشاعرهم، فقد يدهشهم ذلك، لأنهم غير معتادين على الأمر.
هؤلاء على عكس النوع الأول يمكن ألا يفطن إليهم أحد، وهم ذوو أداء مرتفع غالبًا ويركزون على الإنجاز. لذا قد يبدون لآبائهم المفتقرين إلى النضج العاطفي وكأنه لا ينقصهم شيء. إذا كان لفرد من النمط المستهدِف للذات أخ من النمط المستهدِف للآخر، فمن شأن هذا أن يدفع الأخ المستهدِف للآخر إلى الغيرة من الأول وتوجيه الانتقاد إليه بسبب المقارنة الاجتماعية التي يُجابه بها. يركز أفراد النمط المستهدِف للذات على إصلاح الآخرين وإنقاذهم، وتجدهم يحاولون أكثر كلما ازداد التحدي صعوبة، وغالبًا ما تذهب هذه الجهود المبذولة في تغيير الأشخاص أدراج الرياح؛ لأنها تُبذل في سبيل أشخاص لا يريدون تغيير أنفسهم، ما يؤدي إلى الإنهاك النفسي والشعور بالاستياء.
التعافي من انعدام النضج العاطفي للأبوين
“لم تُخلق لتعالج صدمات والديك النفسية غير المعالَجة”@selfhealth3
يتطلب الخروج من هذا النفق اكتشاف وهم المعالِج والتحرر من الدور المرسوم لك واكتشاف قيمك الخاصة ورسم حدودك الشخصية واتباع منظور المراقِب والتركيز على الاهتمام بالنفس. يمكن أن تستغرق رحلة التعافي بعض الوقت وذلك لأن العادات القديمة متجذرة بشخصيتك، لكن توجد خطوات يمكن القيام بها في الحال لمباشرة هذه العملية:
- اكتشاف وهم المعالِج:
استخدمت الكاتبة في أجزاء شتى من الكتاب مصطلح “وهم المعالِج” لتصف محاولات أفراد النمط المستهدِف للذات كسب عاطفة آبائهم غير الناضجين عاطفيًا. ينبع هذا الوهم بشكل عام من الاعتقاد بأن كل شيء سيتحسن إن استطعت فعل المزيد. قد ينتج عن هذا انتهاج سلوكيات مساعدة عديمة الفاعلية مما ورد ذكره سابقًا أو قد ينتج عنه فرط الإنجاز أو الهوس بالمثالية أو الركون إلى العادات القديمة عند التعامل مع الشركاء العاطفيين في العلاقات، لذا يُعد اكتشاف هذا الوهم بداية طريق التعافي.
في أي المواقف تتصرف كمقامر يحاول تعويض خسارته آملًا في الحصول على الجائزة الكُبرى التي ستُغير كل شيء؟ فكّر قليلًا في المواقف التي تتعلّق فيها بآمال زائفة. أين تحدث نفسك بمثل: “آه لو حدث كذا”؟ ومتى تضغط على زرّ آلة الاحتمالات راجيًا دومًا أن تحصل على نتائج مختلفة؟ ما هي السبل التي تسعى من خلالها على الدوام لكسب رضا الآخرين عنك؟ إذا استطعت التحرر من وهم المعالِج لديك، ستدرك حينها أن هذا الصدود الذي يجابهك به والداك غير الناضجين عاطفيًا إنما يرتبط بالصدمات النفسية والتجارب السابقة لهما أكثر من ارتباطه بقيمتك كإنسان.
من المفيد النظر إلى الآباء غير الناضجين عاطفيًا بوصفهم يعانون من (الرُهاب العاطفي-Emotional phobia)، تخيّل أنك تخشى العناكب أو الثعابين أو المرتفعات أو الحديث أمام الجمهور ويأتي أحد ليخبرك بأنه كان عليك أن تتعامل مع هذه الأشياء. هذا بالضبط شعور الشخص المصاب بالرُهاب العاطفي.
إن التخلّص من وهم المعالِج يقتضي تقبّل ذلك الجانب عند أبويك، ورغم أن هذا لا يُبرر سلوكهما تجاهك، فإنه يسمح لك بترشيد توقعاتك والتعاطي مع الواقع. قد يبدو لنا الأفراد غير الناضجين عاطفيًا بائسين ومتشائمين ودائمي الشكوى أحيانًا، لكنهم قد لا يكونون راغبين في التغيّر حقًا. في ضوء تجربتك الشخصية، يمكنك أن تسأل نفسك: “كم مرة حاولت تغييرهم ونجح الأمر؟” حين تعيّن وهم المعالِج لديك، عندها يمكنك أن تتحرر منه وأن تتقبل حقيقة أنك تتعامل مع شخص يعاني من رهاب عاطفي.
- التحرر من الدور المرسوم:
الدور المرسوم هو الدور الذي تلعبه داخل ديناميكيات العائلة: هل أنت مصلح/متهرّب/مهرج/متفوق/متمرد؟ في الأُسر المتداخلة التي لا مكان فيها لمناقشة المشاعر، تكون الأدوار القاسية هي ما يحفظ تماسك الأسرة. إنه نمط من التوازن المختل؛ إذا تصرفت وفقًا للدور المرسوم لك فسيصبح لك مكان بالأسرة. لكن هذا الانتماء المزيف يأتي على حساب مشاعرك الحقيقية.
هذا الوضع يشبه المسرح، حيث يرتدي الجميع ملابسهم ويؤدون الدور المقرّر لهم، لكن تناول القضايا الأعمق يتطلب بالضرورة الخروج من هذا الدور والمجازفة بهذا الإحساس الهشّ بالانتماء الذي تتيحه الأُسر المتداخلة. التحرر من هذا الدور يستلزم إدراكه أولًا ثم اتخاذ قرار واعٍ بإظهار ذاتك الحقيقية. هذا لا يعني الانفتاح العاطفي تجاه أشخاص يعانون من الرهاب العاطفي؛ بل يعني إظهار قيمك الأصلية والاتساق مع ذاتك الحقيقية.
- إظهار قيمك الأصلية وذاتك الحقيقية:
إن الانسلاخ من القالب الذي رُسم لك والتصرف وفقًا لذاتك الحقيقية يحتاج إلى الثقة بإحساسك الداخلي وبحدسك. متى تشعر بأنك دخلت حالة “التدفق الذهني” حيث ينعدم إحساسك بالزمن؟ ما الذي كنت تحبه حين كنت طفلًا؟ ما الأشياء التي كانت تجذبك إليها تلقائيًا؟ ما الأشياء التي كنت تستمتع بفعلها؟ متى تشعر بأنك تعيش لحظات من السعادة الحقيقية؟ من شأن إيضاح قيمك الأصلية أن يمنحك بوصلة للكيفية التي ينبغي أن تتعامل بها مع الآخرين.
عندما تحرر من هذا الدور، فقد تنزع الغطاء عن غضب مكبوت داخلك، وإذا كنت من النمط المستهدِف للذات، فقد تنظر لهذا الغضب على أنه أمر غير مقبول وخطير، لكن إذا جاز لنا أن نشبّه مشاعرنا بأضواء موشر فحص المحرك في السيارة، فيجوز لنا أن نرى الغضب المكبوت تعبيرًا عن احتياجات غير ملباة. يتناسب التشبيه السابق مع شعور “التعايش مع الأبخرة المتصاعدة”. أن تسمح لنفسك بأن تشعر بالغضب لا يعني بالضرورة أن تكون حانقًا ومستاءًا؛ إذ يمكن للغضب أن يركّز انتباهك إلى الحاجات غير الملباة، وأن يدفعك للتحرك من أجل تلبيتها من خلال التواصل المعتدّ بالنفس أو رسم حدودك الشخصية.
قد تخبرك الطريقة التي نشأت عليها بأن المشاعر “إما جيدة وإما سيئة”، لكنك حين تنظر إليها بوصفها معلومات عن حالتك، فحينها تستطيع التخلي عن الحاجة إلى كبت “المشاعر السيئة”. والحال أن هناك مشاعر مريحة وأخرى غير مريحة، وكلا النوعين موجودان ليعكسا معلومات مفيدة عن احتياجاتك الضرورية.
- رسم الحدود الشخصية:
إن رسم الحدود الشخصية يعني بشكل عام القدرة على أن تقول “لا” عندما تجد نفسك تساعد الآخرين على حساب صحتك أنت، ويعني كذلك أن تفهم رغباتك وأن تحققها من خلال التواصل المعتدّ بالنفس، ويعني أخيرًا أن تبتعد عن العلاقات السامة.
في كتاب آخر رائع عن الموضوع بعنوان عندما يقول الجسد لا When the Body Says No، يقول الدكتور <<غابور ماتيه – Gabor Maté>>: متى ما تعرضت لخيارين أحدهما الشعور بالذنب والآخر الشعور بالاستياء، فاختر الشعور بالذنب، لأن هذا يجعلك تلاحظ متى يدفعك الشعور بالذنب لفعل أشياء للآخرين من شأنها أن تشعرك بالاستياء منهم في النهاية. أن تختار الشعور بالذنب يعني أن تهتم بنفسك بما يكفي لتقول “لا”. صحيح أن ذلك قد يترتب عليه شعور مؤقت بالذنب، لكنها تبقى خطوة في رحلة الاهتمام بالنفس والتعافي من شعور الخزي الأكبر.
يقول لك الشعور بالذنب: “لقد فعلتُ شيئًا سيئًا”، بينما يقول لك الإحساس بالخزي: “أنا سيئ”. إن اختيار الشعور بالذنب قصير المدى يعالج الإحساس بالخزي طويل المدى، يتيح لك هذا أن تكتسب شعور تقدير الذات؛ وهذا بدوره يعالج الإحساس المستمر بالذنب. وبينما تحرز تقدمًا في هذا الشأن، تأمّل تلك “الينبغيات” التي تحدث نفسك بها. لاحظ مدى احتمال أن تكون هذه الأشياء هي صوت الأب الناقد داخلك، لذلك فإنك حين تضع حدودًا في التعامل مع والديك فأنت تضع حدودًا في التعامل مع الصوت الناقد بداخلك أيضًا.
يمكنك أن تمنح نفسك العطف الذي لم تتلقاه قط. ربما تتمثّل ممارسة العطف على الذات في أن تسأل نفسك ما الذي كنت ستقوله لشخص تهتم لأمره إن كان يمرّ بمثل ما تمرّ به؟ أن تكون رحيمًا بنفسك يعني أن تعالج شعور الخزي العميق داخلك وأن تنسحب من أفكارك في اللحظات التي يحاول فيها الناقد القابع بداخلك أن يضيّق الحدود التي رسمتها حولك من خلال “الينبغيات” التي تدفعك للشعور بالذنب.
- اتباع منظور المراقِب:
بعدما يكتسب المرء وعيًا جديدًا بخصوص الخزي العميق والذنب والنفس اللوّامة داخله، قد يكون من المفيد استخدام منظور المراقِب عند التعامل مع أب يفتقر للنضج العاطفي؛ وهذا يعني أن تأخذ خطوة إلى الوراء عند التعامل مع منظومة أسرتك وأن تنظر إليها بعين العالِم. يمكنك أن تتخيل نفسك مثل عالمة الأنثروبولوجيا <<جين جودل-Jane Goodall>> وهي تدرس <<التواصل بين الرئيسيات primate interactions>>، أن تتساءل عن الأدوار والتفاعلات والسيناريوهات التي يتم تمثيلها، وكيف يؤدي كل فرد الدور المقرّر له؟ عبر هذه الطريقة يمكنك أن تأخذ مسافة شعورية من المواقف المحتدمة، وأن تراقب أفكارك ومشاعرك المشروطة؛ فبدلًا من أن تكون تصرفاتك مجرد ردّ فعل عليها، ستجد الآن مساحة للاستجابة لها بشكل مناسب.
ربما يعني هذا أن تمنح نفسك فسحة من الوقت، وأن تقول بلطف إنك لا تستطيع أن تفعل شيئًا، أو ربما يعني هذا ألا تفعل أي شيء من الأساس، وأن تعي أنك تتعامل مع شخص يحبس نفسه في الدور المقرر له ويعاني رُهابًا عاطفيًا. لديك الحرية لتتصرف مع الموقف وفقًا لقيمك الأساسية. إذن، من شأن اتباع منظور المراقِب أن يحررك من العادات القديمة في التعامل، والتي تتخذ ردود أفعال عاطفية تجعلك حبيسًا لأنماط سامة في التفاعل مع الآخرين. كما يسمح لك بأخذ خطوة إلى الوراء وإدراك ما يحدث على أرض الواقع. وأخيرًا يتيح لك أن ترشّد توقعاتك وأن تتعاطى مع الواقع بعيدًا عن وهم المعالِج غير المجدي.
- ممارسة الاهتمام بالنفس:
لقد سمعت بالتأكيد عن النصائح الشائعة للاهتمام بالنفس: مثل اتباع الحِميات والأنظمة الغذائية الصحية والنوم وتوفير وقت للأشياء التي تستمتع بها، وإذا كنت من النمط المستهدِف للذات، فعلى الأرجح نُصحت بفعل هذه الأشياء كثيرًا. إذن، لماذا لا يعد هذا النوع من النصائح كافيًا؟ لأن الأفراد المستهدِفين للذات، كما يمكنك أن تتوقع الآن، يعطون الأولوية لمساعدة الآخرين ويقدمونهم على أنفسهم. قد تكون القدرة على الاهتمام بالنفس جزءًا من وهم المعالِج؛ فيتم تأجيلها باستمرار بدعوى وجود مسائل أكثر أهمية تتعلق باحتياجات الآخرين.لعلك تحدث نفسك لا شعوريًا بأنك لن تكون مستحقًا للعناية بالنفس إلا حين تتمكن من إصلاح كل من حولك.
لن تكون هناك أي أهمية لأي نصائح تقليدية عن العناية بالنفس ما دامت هذه الإشكاليات الأساسية موجودة لتسدّ محفزات ممارسة الاهتمام بالنفس عندك. إذن، ما الذي يجعل المرء يركن إلى إهمال النفس حتى بعد معرفة هذه الحقيقة؟ هذا ببساطة لأننا كائنات تميل نحو اتباع العادات الآمنة المألوفة؛ إذ يمكن للمرء أن يسلك طريقًا مدمرًا للنفس لا لشيء سوى لأنه مألوف لديه. إن انعدام اليقين والخوف من المجهول يدفعان البشر لتفضيل الأدنى على الأعلى وللرضا بالفُتات المعلوم بدلًا من اتباع نمط حياة جديد أفضل لمعيشتهم.
إذا نشأت في أسرة بها أب غير نضج عاطفيًا أو أم غير ناضجة عاطفيًا، فسيبدو انعدام النضج العاطفي هو المألوف بالنسبة لك. ولذلك ربما تجد نفسك تميل لهذا النمط من الأشخاص حتى في مستويات أخرى من علاقاتك الحياتية. إن الأشخاص الذين نرى أنهم أكثر جاذبية من غيرهم يثيرون على الأغلب شيئًا بداخلنا. ولهذا فالانجذاب الفوري لشخص ما قد يكون بمثابة علامة إنذار لك بأنك تتبع نفس العادات القديمة في العلاقات. قبل التفكير في كيفية الاهتمام بالنفس، يجب أن تتخلص من تلك الروابط العميقة التي تشدّك إلى أنماط علاقات غير صحية.
من الذي تسعى لنيل رضاه؟ وهل تحتاج إلى رضاه حقًا؟ أم أنه يريد لك أن تكون محتاجًا لرضاه؟ هل تحتاج إلى أن تشعر بأهميتك؟ وإذا كان الأمر كذلك، هل تشعر بالانتماء الحقيقي عند تلبيتك لهذه الحاجة؟ أم أنك تلبي حاجة شخص آخر لأن يشعر بأهميته على حسابك أنت؟
المصدر