قراءة نقدية لرواية الرباط المقدس لتوفيق الحكيم
لن أدعِي الحياديَّة فِي نَقدِي لرواية الرباط المقدس أو أُحَاوِل أن أَصطَنع تِيك الموضوعيَّة الكاملة، وَلكِني أيضًا سأحاول أَلَّا أَترُك هذَا المجَال الفسِيح لِمشاعري التِي استثارت لِأقصى حَدًّا عِنْد قِراءة نص الرِّواية كي تَخُط بِدورِهَا هَذِه السُّطور محاولةً صنع هذَا التَّوازن، فوجدت أَنَّه مِن الخير التَّنويه بهذا، ولا أرى النص يَحتمل أكثر من ذلك.
لَمحَة عن رواية الرباط المقدس
تدُور أحدَاث رِّواية الرباط المقدس حَول تَلاعُب وخيانة زوجَة لِشريكهَا فِي عَصر تَضَاربَت فِيه القيم ولم تُصبِح لِمعاني الفضيلة والعِفة أي مِن الأهمِّيَّة -بِحَسب تعْبيره- . رَسم الكاتب شخصيَّاته: “الزَّوج” يَرمُز إِلى الإخلاص والتَّفاني فِي إِسعَاد زَوجَتِه، هذَا الشَّخص المُثقف الواعي الذِي يَفنِي حياته وسط المطالعة والكتب، وشخصِية “رَاهِب الفكر” الذِي يَرمُز إِلى المُثل العُليا وقيمتهَا، وَاسِع الحكمة، و”السَّيِّدة (الزَّوجة الخائنة)” التِي تَرمُز إِلى المرأة المعاصرة والمتأثِّرة بِقيم الحداثة والتِي تُحَاوِل مَنطَقة سُيُولَة القيم والأخلاق فِي حَديثِها مع “رَاهِب الفكر”.
الزَّوَاج مع المعرفة المُسبقة بِانعدام التَّوافق الفكرِي بَيْن الشَّريكينِ
يظهِر بِشَكل فجِّ سَعي الزَّوج لِتغيِير زَوجَه، ومحاولة تَقرِيب الاهتمامات بينهم (إلى اهتماماته هُو)، مُحاوِلًا جَعلها تَهتَم بِالشُّؤون الفكريَّة قائلا لهَا: (لن يَحدُث هذَا الاتِّصال الكامل بيْننَا لَو لَم تهْتمِّيْ بِهَذا الشَّأْن فَيصبِح لِكيْ نَصِف زوْجًا ولن تَحصلِي على نِصْفِي الآخر، مُمارَسا نوعًا مِن أَنوَاع الابتزاز العاطفيِّ على الزَّوجة. أَولَيس هُو الذِي اِختارها؟ وعلى أيِّ أسَاس اِختارهَا؟ أَولَيس على أَسَاس جَمالِها الخارجيِّ واهتمامهَا المبالغ بِشكلِهَا؟ ثُمَّ يَأتِي بَعْد ذَلِك يتَّهمهَا بِالسَّطحيَّة والاهتمام بِصغائر الأُمور!
رُؤية رَاهِب الفكر لِطبيعة المرأة
لن يسْتوقفني كثيرًا إِنَّ كان يَتَحدَّث عن حال هَذِه السَّيِّدة الخائنة بِوصفِهَا بالسَّطحيَّة، الطَّيش، والعَبث بِكلِّ مَا هُو طَيِّب مِن مَشاعِر الأفراد حولهَا، (فأنَا لا أجِد بِطبيعة اَلحال مَا يُبرِّر أيَّ خِيانة، ولَا أقِف كثيرًا لأزايد على رَدَّة فِعل أشخاص تَمَّت خِيانتهم، فتكفيهم مرارَة الفعل)، وَلكِن مَا استوقفني هُو رَبط كُلِّ مَا يَخُص السَّيِّدة وَحَالهَا بِطبيعة المرأة، ومَا أَثَار حفيظَتي أَكثَر هُو مُحَاولَة مَنطَقة الكراهية والعدوانيَّة لِجنس النِّساء كُلَّه حَالَه فِي ذَلِك حال الكثِير مِن المفكِّرين -الذِين يُمكِن أن أقرَأ لَهُم كُلِّ مَا يكتبونه- ولكِن لا أستطِيع تَمرِير كُلِّ هَذِه التَّجاوزات التِي يخطُّونهَا عِنْد اِمتلاكهم لِسلطة القلم والقدرة على الكلِمة والإبداع فِيهَا.
قُدرَة المرأة على الاهتمام بِشؤون الفكر على تَنوعِها:
“…إنه يفترض لهذه المرأة من الذكاء ما لا يمكن أن يحوي مثله عقل أنثى…”.
“وهل کنت تنتظر من امرأة أن تكتب في موضوع غير هذا… إن المغامرات الغرامية هي حلم كل امرأة..”.
تُذَكرنِي هَذِه الكلمات بِسطور قد قَرَأتهَا بِالسَّابق ولا أذكُر أَين كانَت -ومَا أَكثَر نصوص كَهذِه على أَيَّة حالٍ- (أنَّ المرأة وَإِن استطاعت أن تَكتُب لا تَكتب سِوى عن الحُب على عَكس الرَّجل الذِي يَكتُب فِي كُلِّ مَناحِي الحيَاة وَيبدِع فِيهَا…)، مُعتبرين قُصُور الرُّؤية النَّقديَّة والتَّحليليَّة شَيء أصيل في المرأة مُستبطِن لا يُمكِن تجاوزه وإِن حدث وكتبت امرأة فِي هذه الشؤون يُصبِح عملًا مُتكلِّفًا وغيْر نَاجِح.
المرأة كَائِن لَعُوب “بِطبيعته”:
“…ثم طريقة تمثيلك للدور الذي أردت تمثيله، والمرأة بطبعها ممثلة قديرة، ولكنك تمتازين في التمويه والكذب”.
“ها هو ذا رجل الفكر قد أخفق كما أخفق رجل الدين.. كلاهما قد أحسن الظن بطبيعة المرأة أكثر مما ينبغي، ونسج حولها أضغاث أحلام..”.
يُصوِّر الكاتب على لِسَان “رَاهِب الفكر” أنَّ المرأة “بِطبيعتهَا ” تُظهِر عَكس مَا تُبطِن؛ فتتلَوَّن لِتفعل مَا يَحلُو لَهَا.
“ونزلت هي إلى الشوارع والحوانيت والمقاهي والملاهي.. وكل مكان، في كل حين.. تخطر بعطرها وزينتها وابتساماتها ونظراتها.. جهاز لا سلکي متنقل في ثیاب امرأة، يلقى في وجه كل عابر بموجاته التي لا تقهر ولا ترد..”.
يعتَبر هُنَا رَاهِب الفكر أنَّ كُلَّ مَا تَقُوم بِه المرأة وَكُل حَركَة مِنهَا تَتعمَّد بِهَا إِثارة مَن حولهَا حتَّى لِيَصل إِلى مُجرَّد خُروجِهَا للشَّوارع واصفًا إيَّاها بـ “جِهَاز لا سِلكِي مُتَنقل فِي ثِيَاب امرأة”.
“الحُرية” على لِسَان النِّسَاء:
“أيام كانت المرأة حبيسة خدرها وبيتها، وجليسة أهلها ولداتها.. لم تصل بعد إلى فمها كلمة الحرية.. ولم تعرف بعد قدمها الطرق الصاخبة والمجتمعات الحافلة.. فكان إشعاعها مقصورا على التسلل من حجرة إلى حجرة أو من بيت إلى بيت، وكانت تيارات الدين تطغى على كل البيوت وتسكت فيها كل إشارة.. أما اليوم فقد تركت المرأة العصرية البيت والحجرة الصوت الدين.. يدوي فيهما كيف يشاء”.
كُنت دائمًا أتَساءَل عن كُلِّ القيم والمبادئ التِي يُمكِن أن تَكُون فِي نظر البعض هِي ضرورات وغايَات حَتمِية لِلإنسان مِثل: الحُرية، المساواة، الحُقوق، العدل، حُريَّة التَّعبير، الخيارات الشَّخصيَّ، رُؤيَة الفرد لِذاته.. أَقرأ عنها وتعجبني خَاصَّة مَا يَتَعلَّق بِصورة الفرد لِذاته، هل لَدينَا نَفس الفُرصة بصفتنا نساء لِلخوض فِي هَذِه الأحاديث ونطمح فِيهَا؟ أَولَيس نَحن بشر لَنَا خِياراتنَا فِي الحيَاة وتفضيلاتنَا الشَّخصيَّة المتنوِّعة؟ لِماذَا يَجِب بَعْد كُلِّ كَلمَة مِن هَذِه نُحَاوِل رصُّ اَلجُمل مِثل: ( نُريد حُريَّة المرأة وَلكِن بِحدود، أنا مع حُريَّة المرأة وَلكِن بِحدود، لا يَجِب أن تُترَك المرأة هَكذَا، فَطَبيعَة المرأة…” هل نَحن المسؤولات مُنْذ بَدْء الخليقة عن هَذِه الأشباح والهواجس التِي تُصور للبعض كي نُحَاوِل تبريرهَا؟
ولمَ هذا الاعتبار المُسبق بِأنَّ المرأة كَائِن جَامِح لا يَعرِف حُدُوده ولا يَمتَلِك أيَّ وَازِع؟ فَنسُد آذانهَا عن كَلمَة الحُرية أو لِنُشيطن مِثل هَذِه الكلمات لَهَا، كأنَّ المرأة كَائِن فَاقِد اَلقُدرة بِذاته على التَّحليل والنَّقد والأخذ والتُّرك، فنصِف كل حدث فِي حَياتِها وَنقُول لَهَا كَيف تَعيشُه وكيف لَهَا أن تَشعُر بِه وَإلَّا تَضُر بِطبيعتهَا “التِي تَخدِم مصالحنَا” أو ليصل إلى حدِّ إخراجهَا مِن إِطَار المرأة “الجيِّدة”، ولِنضَع أفعالهَا تَحْت المجهر ثُمَّ لننتعهَا بِأسوأ مَا يُمكِن لِلمرء سَمَّاعه بل وتبرِير التَّجاوز فِي حَقهَا وانتهاكهَا وخاصَّة إنَّ خَرجَت عن النِّطَاق الذِي رَسمَه لَهَا المجتمع أو لِجعلهَا مَادَّة لِلسُّخرية.
يَخُط الرَّجل الأبيض كُلَّ مَا يَخدِم وُجوده الإنساني ويجمع البشر كَكُل معه في صِراعه لِتحقِيق ما يُريد، ثُمَّ يَنسِج مِن وَحي خَيالِه الفروقات الجوهريَّة بَينَه وبين (المرأة والرَّجل الأسود، ومن هُم مِن دُون عَرقِه) لِينزلهم إلى مَكانَة أقل لِيبرِّر بذَلك عدم استحقاقهم لِمَا يَستَحِق هُو، فَهم “لِطبيعتهم، لِجنسِهم، لِعرقِهم” لا يَطيقون سِوى فِعل (مَا يَخدِم الوجد الإنسانيُّ لِلرَّجل الأبيض). شَأنُهم فِي ذَلِك شَأن الطَّبَقة المتوسِّطة التِي تَحشِد جُمُوع الفقراء والمعدومين بِالوعود ثُمَّ لِتنزلهم أَسفَل سَافلِين بَعْد وُصولِهم للحكم أو لِتعطيهم فُتَاتا يَسُد جُوعهم -على أَحسَن الأحوال- بِاعتبارهم “بِطبيعتهم، طَبِيعَة نمط حَياتِهم” لا يستطيعون تولِّي زِمَام أُمورِهم أو حَتَّى المشاركة فِي اتِّخاذ قَرَار؛ فتاريخنَا الإنسانيُّ لَيس سِوى تَارِيخ صِراعَات طَبَقات، المسيطر فِيه هُو الذِي يُحدِّد وَيعرِف ويشكِّل (مَن هُو، وومَن هم؟).
عدم المساواة فِي الخيانة
“-ولماذا لم تتكلم بهذه الحماسة عن خيانة الأزواج”.
-بل لأن الرجل هو الذي يعرق، والمرأة هي التي تنفق.. اكدحي کما یکدح زوجك واعرقي كما يعرق، فإذا تساويتما في التضحيات تساويتما في الحقوق.. لا أقول إن الرجل يجب أن يخون، ولكنه إذا خان خان من ماله.. ولكن الزوجة تخون من مال زوجها.. ثم هنالك شيء آخر.. هو النسل.. فالزوج يخون، ولا يدخل على زوجته نسلا مدلسا.. أما الزوجة فإذا خانت أدخلت على زوجها نسلا ليس من صلبه.. لن تكون هنالك مساواة مطلقة بينكن وبين الرجال في هذا الإثم، إلا إذا تطور الزمن تطورا آخر، فرأينا الزوجة تناضل في الحياة، وتكتسب بالقدر الذي يربحه الزوج.. ثم يستطاع بواسطة العلم أو بغيره من الوسائل أن يفرز للزوج نسله عن نسل غيره بغير وقوع في شك أو ارتياب، إلى أن يتم ذلك، فلا تتحدثن عن المساواة في الخيانة..”.
وهنا نَأتِي لِأكثر الأشْياء قُبحًا، لا يُسَاوِي رَاهِب الفكر بَيْن خِيانة الزَّوج والزَّوجة، وعلى أيِّ أَسَاس أقَام هذِه الفرضيَّة؟:
-إنهَا لا تَعمَل وتنُفِق مثلَه.
-يُمكِن أن تُنسِب له أبنَاء لَيسُوا أبناءه.
يَتَجاهل توفيق الحكيم في “الرباط المقدس” مَا هُو أشدُّ على نَفس الإنسان وهِي آلامه النَّفسيَّة وخداعه وصدمَته، فليس أسوَأ ع لى نَفس إنسَان مِن أن يُخدَع ويتأَلَّم مِن شَخص أحبه ووثق بِه ووجَد فِيه آماله وبأنَّه آخر مِن يُؤذِيه لِيجده يَطعنَه بِقلبه بِسَهم هَذِه الثقَة، لِيتحَدَّث عن أمُور مادِّيَّة كَهذِه. وليس خفيًّا على أحد بِأنَّ مَا قَالَه تَمَّت تسويَته في عصرنَا الحال، هل سيساوي إِذَا بينهمَا فِي الخيانة؟ لِيظهر نَوع جديد مِن المُفارقات، فَنجِد هذَا الرَّجل اَلذِي يَصِف مَشاعِر المرْأة ويتحَدَّث دومًا بِحَال لِسانِهَا بِأَنه (ومَا أدرانَا بِمشاعر المرأة تجِاه شَيء كَهذا؟، ومَا أدرانَا لَعلَّهَا تَملُك مَشاعِر مُغَايرَة تمامًا لَنَا تجعلهَا لا تَتَأثَّر كثيرًا بِتعدُّد علاقَات زوجهَا).. أَولَيست المرأة عَاطفِية؟ أَوليست تَتَأثَّر بِمَا حولهَا وتضطرب أكثَر مِن الرَّجل؟ أوليست هِي دائمًا مِن تَمتَلِك رَدَّة فِعل مُبَالغة فِيهَا؟ أَين كُل هَذِه العبارات مِن وضع “الخيانة”؟
وَإذَا نَادَي أحد بأهمِّيَّة العمل للمرأة وضَرورَة استقلالهَا مادِّيًّا لِيصبح أمرها بِيدهَا ولا تضر لقبول أوضَاع مَا أو تُطبِّع خِيانة زوجهَا (فهُو يُنفِق عليهَا وإذَا خانهَا فَهُو يَفعَل ذَلِك مِن مَالِه إِذَا)، يَنهار المجتمع: (البيتُ، الأسرة، الأولاد، وفِالرِّواية ” إِن خَرجَت سَتصبِح جِهازًا لَا سلكيًّا”…).
ما يفعله بعض الرجل عندمَا تَأتِي اِمرأَة لِتفعل شيئًا يُحمَد خَارِج تَصورِهم
في الرباط المقدس يَتَحدَّث الكاتب بلسان “رَاهِب الفكر” عن زَوجات قويَّات مُثابرات ومخلصات مِثل: السَّيِّدة خَدِيجَة، زوجَة كارل ماركس، زوجَة دزرائيلي.. ويخرجهم مِن إِطَار كَونهِم إِنَاث واصفًا إِيَّاهن بِصفات (مُبَالغَة فِي الجمَال) حَتَّى لأن يُخرِّجَهم مِن كَونهِم نِسَاء في الأصل. فلَا يُرِد القول بِكلِّ أَريحِية بِأنَّهن ( “نِسَاء” جيِّدات). ومَا أَكثَر جملا كـ (أنا لَست مِثل بَاقِي النِّسَاء..، أنا” عَاقِلة، نَاضِجة، وَاعِية، قَويَّة، صَادِقة.. لَسْت كَمثَل…) وكَأنَّه لا يُمكِن أن تَكونِي كُل هذَا وأن تَكونِي “جُزء مِن النِّسَاء”، فنحْن مُتنوِّعات ولنَا اهتماماتنَا المختلفة على أَيَّة حالٍ؛ فمثل هَذِه الجُمل لا تَفعَل سِوى الحفَاظ على هذَا النَّمط الخطِّي وغير الحقيقي، وعلَى المستوى الشخصِي قال لِي أحد ذات مَرَّة فِيمَا مَعنَاه: بِأنَّني أَوعَى على أن أَكُون أنثَى! اِهتماماتي لَيسَت كالباقيات، وأنَّ مُعظَم النِّسَاء “غَير سالكَات” –بتعبيره-، لِتَمُر الأيَّام فِيمَا بَعد ويتضِح كم كان هذَا الشَّخص أكثَر الأشخاص وُضوحًا وصدقًا.
عِند قِراءة رِّواية الرباط المقدس فِي سِياقِهَا التَّاريخيِّ نَجِد أنَّ تَوفِيق الحكِيم لَيْس سَوَّى ابن لِعصره، يُعبِّر عن الرَّغبة الملِحة عِند “مُعظَم الرِّجَال” لِرؤية جميع النِّسَاء رُؤيَة شُمولِيَّة أحادية تَعتَمِد بالأساس على رغباتهم وحاجاتهم وإسقَاط عارهم وتجاربهم الشَّخصيَّة عَليهِن.
يمكنك أيضًا قراءة: توفيق الحكيم والحاكم الأصلح “مراجعة مسرحية براكسا”