فيلم Outrage أن نمنح الحياة فرصة أخرى

كثيرٌ من السعادة، وبعض من الكعك والفطائر لموعد يوميّ بين حبيبين يقرِّران الزواج إكمالاً لقصة حبهما، إنَّها الصور التي تفتح لنا الطريق لبداية فيلم Outrage الذي قامت بإخراجه الأميركيَّة البريطانية إيدا لوبينو، فأخيرا تجد الآنسة “آن والتون” الشخصية الأساسية التي تقمَّصت دورها الممثلة مالا باورز؛ رجل أحلامها جيم.
إنَّها مجرد فتاة عادية والابنة الوحيدة لأسرتها الصغيرة التي تهتم بها، لكن الأمر ليس بتلك البساطة، لأنَّ وقائع جديدة من شأنها أن تقوم بتغيير مسار حياتها التي يُرمَى بهدوئها وطمأنينتها بعيدًا.
فيلم Outrage الصدمة والألم:
تتشتَّت حياة آن بدءًا من مشهد اغتصابها الذي يلاحقها فيه أحد الشبان وهي تسير في الشارع تحمل بعضا من أحلامها ومشاريعها المستقبليَّة حول الزواج، سيحبس المشاهد أنفاسه، فمشاهدة الشاب وهو يلاحقها يثير الاستياء، إنَّها مناظر تخدش أعصابنا، وحيث رغب مخرج الفيلم وصناعه تجنَّب وضع أيّ موسيقى إثارة أو حركاتٍ وركضٍ مبالغٍ فيها في هذا المشهد، فإنَّ ما يُرَى على الشاشة يبدو حقيقيًا وأبعد من مجرَّد مقاطع سينمائيَّة.
لا تنجح آن في الاختباء من المغتصب، ليس لاستحالة وجود وسيلة لتحقيق ذلك، بل لأثر الخوف الذي جعلها شبه مشلولة وهي ردَّة فعل حقيقيَّة تحدث للفتيات اللواتي يقعن في مثل هذا الموقف. فالارتياع الذي يتكاثر في بدن المرأة حين تجد نفسها قرب رجل لا يبصر غير الجسد هو موتها الأول بعد موتها الثانٍ والأخير، إنَّه شعورٌ ليس بإمكان الرجل اختباره وفهمه جيدا، بغضِّ النظر عن محاولات فهمه لأنَّ الكائن الوحيد الذي يعيشه هو المرأة.
لقد شارك فيلم Outrage في ربطنا بتلك الأفكار، ونجح في إيصال شيءٍ من شعورها بالرعب ولو كان بنسبة صغيرة بصورٍ تبدو واقعيَّة، بالتالي سينتج هذا تعاطفًا أكبر مع حالتها وتفاعلا مع الحبكة.
تتلقى آن المساعدة الطبيَّة بفضل عائلتها لكنَّ المشكلة لا تتوقَّف هنا، وإلى جانب صدمتها التي تحتاج فترة طويلة لتزول فهي تتخلَّى بإرادتها عن زوجها المستقبلي جيم.
إعلان
الكلمة تقتل:
لقد صار الاغتصاب حدثا لم يمسس أناها وجسدها فحسب، بل وتفرَّع وبسط نفسه في جهات مختلفة، منطلقا من الضحية، ثم للأب والأم، منتهيا إلى الرجل الذي يُنتظر منه أن يكون زوجا.
وسيأتي الآن دور المجتمع في التسبَّب بحالة من الضياع عند آن بعدما كان شخصا واحدا جعل حياتها تضطرب. يتحدَّث الناس عنها ويتهامسون بين بعضهم البعض، وتقفز الألسنة أيضا نحو والدها المدرِّس ليصبح الوقوع في الاغتصاب ختما سيئا يُطبَع على سيرة ضحيته الذي يبدو فيها وسط إطاره المجتمعي وكأنَّه هو من اغتصَب لا اغتُصِب.
إنَّ الجسد في المجتمعات هو بناء ثقافي تمتلكه العائلة يرمز أحيانا إلى الشرف أو الكرامة حين يتعلق بالجسد الأنثوي، وأيّ ضرر يحدث له فإنَّ للعائلة دور فيه.
“إن المرأة إذن، الكائن الفظيع الذي يعج بالعلامات”. مفاهيم عالمية التذكير والتأنيث (الجندر) ص25.
لم تستطع المجتمعات الغربية التخلَّص من هذه المفاهيم إلا في هذه الحقب، فالغرب والشرق لطالما تشابها ولم ينفصلا إلا في نهايات القرن العشرين، فالإنسان قبل ذلك كان واحدا.إنَّ المرأة الغربية لم تكن غريبة عن شقيقتها الشرقية إلا في بعض أنماط الحياة لا المفاهيم الشمولية حول الجسد والجنس والجندر. يحاول عالم الاجتماعي الأمريكي آرفينغ غوفمان إثبات ذلك وهو يكتب ما يلي: “مؤكّدٌ أنَّ الحجة، التي تقول: إنَّ المجتمع الغربي مجتمع يقوم على التمييز الجنسي، حجة صحيحة شأنه في ذلك مثل باقي المجتمعات على وجه التعميم.”(2) البناء الاجتماعي للهوية الجنسية ص:88.
يتساءل الأب عن الهدف من تربية الفتاة متحسِّرا وهي معرَّضة كلّ يوم إلى الاعتداء لتختفي سعادتها التي يريد لها الدوام، فنحن نجد في ردّ الفعل هذا شعورا بالعبثية.
ومن جهة أخرى تقرّر آن تحدّي المجتمع: المغتصب الثاني الذي يحاول الآن سلب راحتها، فتذهب للعمل، لكنها لا تستطيع الصمود ليوم واحد ظنَّت فيه أو تخيلت أنَّ العيون تراقبها والأفواه تتحدَّث عنها أكثر مما تفعل.
بعيدًا عن العالم:
تهرب آن إلى مدينة لوس أنجلوس من غير وجهة محدَّدة أو هدف معين، إنَّها تحاول الابتعاد عن ذاكرتها المكانيَّة السابقة التي كانت فيها إلى ذاكرة أخرى فارغة باستطاعتها أن تملئها بأحداث جديدة حتى تنسى الأولى لكنها معركة شرسة مع الحياة وهي مجرد فتاة غريبة ليس لديها أي علاقة بهذه المدينة.
غير أنَّها تجد نفسها في أحد المنازل بعد أن عُثر عليها ملقاة على الطريق من التعب. يستطيع المشاهد معرفة الرعب الذي لا يزال يعيش معها وهو يراها تستيقظ في أحد الغرف لتسارع إلى تفحَّص جسدها وجزئها السفلي، وكأنَّها رجل خائف من إخصائه، ثوانٍ تمر حتى تجد نفسها أمام رجل غريب، لقد صار الرجال شبيهون بذلك المغتصِب وهي تنتظر منهم الآن أيّ فعل مشابه لما حدث لها، إنَّهم “الآخر” لكن هذا الآخر يغادر بعد الترحيب بها.
نقتبس مرة ثانية من نفس منجَز آرفينغ غوفمان “يجب على الفرد أن يحمل جسده معه أينما حلَّ وارتحل، يعني ذلك أنَّ كلَّ ما يمكن للأجساد أن تأتي به من شرّ، و كلّ ما يمكن أن يؤثر فيها، يرافق الفرد أيضا”. مرجع سابق، ص:90.
يحاول فيلم Outrage التقاط جزء صغير يخصُّ العمل الفلاحي والتجاري في الولايات المتحدَّة الأمريكيَّة، فالمنزل الذي تمكث فيه البطلة مؤقَّتا هو بيتٌ داخل مزرعة برتقال، بإمكانها أن تقضي يومها عاملةً في مصنعه توظِّب وتغلفّ صناديق الفاكهة إلى جانب بقية النساء العاملات. لكن الرجل الذي أحضرها يجدها مفيدة أكثر في عمل المكتب وهو العمل الذي كانت تشتغل فيه قبلا في مدينتها. نرى هنا احتقارا لعمل المصانع التي توظَّف فيها النساء أكثر من الرجال من حيث العدد.
العودة إلى العالم:
بصيص من الأمل يدخل إلى حياة آن حينما تتعرَّف إلى الرجل الذي أحضرها إلى المكان، وهو صديق العائلة التي استقبلتها، الدكتور والقسّ “بروس فرغسون” الذي يؤدِّي دوره الممثل تود أندروز.
إنَّ بروس يعيد إليها بعضا من الثقة بالرجال التي أضاعتها. كما يطلب منها أن تلبس نظارة جديدة ليتسنى لها النظر إلى الحياة بقلب متفائل ومبتهج.
ونجد في فيلم Outrage ممارسة مميَّزة لطقس الاعتراف من دون أن يرتبط بالكنيسة ولا بالمؤمن بل هو طقس مقلوب يكون بطله السيد بروس.
إنَّه يعترف لها وهو في أحد الأماكن الساحرة التي خلقتها الطبيعة لا الانسان ككنيسة على الهواء الطلق بأنَّه فقد إيمانه ذات يوم. لهذا فهو يحاول استعادته وربما قد نجح كما تحاول هي الآن.
يتحدَّث بعد أن اعترف لها بكل شيءّ: “لا ينبغي عليَّ أن أقول لك ذلك فليس مناسبا أن يشكّ ويضطرب مسؤولو الكنيسة لكنَّنا في النهاية بشر، هل تعرفين شيئا آخر، عندما أعود إلى هذا الوادي حينما عشت فيه طفلا سعيد فإنَّني أجده جميلاً كما كان دائما انظر إلى نفسي بعمق، عندها.. فوق في السماء أجد نفسي… إيماني”.
لقد صارت المزرعة بجمالها وهدوئها مع الدكتور يحتويان آن، لكن آثار الاغتصاب لا تزال داخل عقلها وجسدها، تلك الواقعة التي تجعلها ليست ضحية فحسب بل مجرمة، حين تقوم بمحاولة قتل أحد الشباب بعد أن تجلَّى لذهنها على صورة الشاب الذي اغتصبها.
تخضع آن في النهاية لعلاج نفسيّ بدل السجن، يحاول بروس من خلال ذلك معاتبة رجال الدولة الذين فشلوا في توفير بيئة جيدة للأشخاص الذين ينتهي بهم المطاف إلى الاعتداء على الفتيات، ويدعو فيها إلى بناء المراكز العلاجيَّة والنفسيَّة بدل السجون التي تجعل الشخص أكثر شرّا ومرضا.
إنَّ للسجون القدرة على إمداد المرء بأيديولوجيَّات جديدة بالغة السوء ذلك لأنَّ غايتها الأولى هي العقاب وحشر المجرم مع المجرمين الذين يشبهونه، -وربَّما يحدث العكس فنجد شخصا متهما بجنايةٍ صغيرة يعيش مع مجرم في مثل هذه الأماكن- إنَّها الشرّ الذي لا بدّ منه، يقول ميشيل فوكو “يجب الحرص على أن لا يشكِّل السجن، من الأشرار الذين يضمهم، جمهورا منسجما ومتماسكا”. المراقبة والعقاب ص239.
أما اصلاح المسجونين وتطهيرهم من خطاياهم الأخلاقيَّة فهو شيء بعيد المنال حتى بعد أن تمَّ إطلاق عدة تجارب والأخذ بعين الاعتبار العمل على تحسين السجون وجعلها مؤسسات لتقويم المسجونين والمعتقلين وتغييرهم للأفضل.
لا يُقصَد من عنوان الفيلم -وهو العار أو الفضيحة- أن يجعل من الاغتصاب عارا يلحق بالفتاة آن وعائلتها بل يعتبر كرمز لغوِّي يعاتب ويلوم المجرم والمجتمع مع رجال الدولة.
كما يحمل فيلم Outrage المشاهُد على النظر إلى الشق الجيد للحياة من دون أن يدخل في تلك المثاليات الزائفة المشرقة، إنَّه يتفهم حال ضحايا الاغتصاب والاعتداء لكنه يطلب منهن مواصلة التقدَّم في الحياة ومنحها مع أنفسهن والآخرين فرصة ثانية.
إعلان