شاعرات أندلسيات (1)

عرفت الأندلس بمكانة اللغة العربية السامية فيها، الشيء الذي جعل الشعر مادة خصبة للإبداع من طرف عدد كبير من الناس، لم يكن الأمر حكرا على الرجال فحسب، بل وضعت النساء بصمتهن الخالدة في هذا المجال، وعد شعرهن ملمحا بارزا من ملامح الشعر الأندلسي.
اتسمت شاعرات الأندلس بالفصاحة والبلاغة، واشتهرت العديدات بأنهن شاعرات بالفطرة، يقول المقري في كتاب “نفح الطيب” في مستهل فصله عن النساء: وإذا وصلتُ إلى هذا الموضع من كلام أهل الأندلس، فقد رأيتُ أن أذكر جملة من نساء أهل الأندلس اللاتي لهن اليد الطولى في البلاغة؛ كي يُعلم أن البراعة في أهل الأندلس كالغريزة لهم حتى في نسائهم وصبيانهم”! [1]
اخترت أن أبدأ الحديث في الجزء الأول من مقال شاعرات الأندلس عن أميرة أندلسية لامست بشعرها القلوب نظرا لقصتها المؤثرة، أتحدث هنا عن ” بثينة بنت المعتمد بن عباد ” ، بيد أنه لا يمكننا المرور لها دون أن نعطي شذرات من حياة والدتها اعتماد الرميكية.
اعتماد الرميكية شاعرات الأندلس
يحكى أن المعتمد بن عباد[2] كان يتمشى في بعض مروج إشبيلية على ضفاف الوادي الكبير مع وزيره أبي بكر بن عمار حين ارتجل فجأة ” صنع الريح من ماء الزَّرد ” ثم صمت ملتفتا لرفيقه ينتظر منه إكمال البيت، بيد أن التتمة جاءت من صوت أنثوي خلفه ” أيُّ درعٍ لقتال لو جمد ” ، التفت ابن عباد ليرى مصدر الصوت فإذا بها امرأة تغسل الملابس على النهر، تعجب من براعتها و بديهتها، وأعجب بها، ثم علم بعد أن سأل عنها أنها جارية لرميك بن حجاج.
إعلان
و هكذا، لم يمر وقت بعد هذه الحادثة حتى اشتراها من صاحبها و تزوجها.. و تحكي كتب التاريخ عدة قصص بين المعتمد وزوجته حيث كان لا يرد لها طلبا، وانتشر الكلام بين الناس عن انغماسه في حياة اللهو والتبذير إرضاء لرغباتها، ويعد ” يوم الطين” من أشهر الحوادث التي خلد ذكرها.
يُذكر أن اعتماد رأت جواري يبعن اللبن وقد شمرن عن سوقهن وسواعدهن يخضن في الطين، لتخبر زوجها أنها اشتهت أن تفعل مثلهن، فما كان منه إلا أن أمر بجلب العنبر والمسك، وسحق الطيب، ثم غطيت به كل ساحة القصر، وصب ماء الورد عليها، وقد عُجِنَ ذلك حتى أصبح كالطين لتخوض فيه الرميكية وبناتها وجواريها..
كما لها نفوذ سياسي واضح في عهد زوجها، بحيث أمرته بقتل الوزير أبا بكر محمد بن عمار بسبب هجائه لها، في هذين البيتين:
لأحي بالغرب حيا جلالا أناخوا جمالا وحازوا جمالا
تخير من بني الهجين رميكية ما تساوي عقالا
لم يكن هذا هو السبب الحقيقي في قتله، بل كانت هناك أسباب سياسية أدت إلى ذلك، كاستغلال أبي بكر مكانته الرفيعة لدى المعتمد فحاول اقتسام ملكه عندما وثب على مرسية بعدما استرجعها ابن عباد، وهو الأمر الذي أقلق الرميكية ورفضته، فقتله ابن عباد بأمر منها. [3]
وتمر الأيام لينتهي حكم بني عباد في الأندلس، وتنقل الرميكية مع زوجها وأولادها أسرى إلى المغرب من طرف المرابطين، حيث قضت أربع سنوات، هي ما تبقى من عمرها رفقة زوجها في أغمات، وتوفيت سنة 488 هـ .
بثينة بنت المعتمد شاعرات الأندلس
تعد بثينة رائدة من رائدات القصة الشعرية في عصر الطوائف، وقد بلغت هذه الشاعرة من البراعة الشاعرية والصفاء في الأسلوب المهذب الرقيق مبلغا استطاعت فيه أن تنقل قصة واقعية من أكثر القصص في التاريخ أسى، وأخذا بمجاميع الإحساس والخواطر بإطار شعري، فجاء شعرها مزدانا بفيض من الأسى والرقة [4]
ورثت هذه الأميرة الأندلسية روح المعتمد الشاعرة، فلم يك في ملوك الأندلس قبله أشعر منه و لا أوسع مادة، وكانت ذات جمال بارع وحسن باهر، حاضرة الجواب سريعة الخاطر حلوة النادرة كأمّها الرميكية.
سبيت بثينة مع جملة النساء من قصر أبيها، فاشتراها تاجر وهو ناكر لنسبها، ووهبها لابنه على أنها جارية، فلما أراد الدخول عليها، ورأت الجد في الأمر امتنعت وأظهرت نسبها وقالت لا أحل لك إلا بعقد يجيزه أبي. وأشارت عليهم بتوجيه كتاب من قبلها لأبيها وانتظار الجواب، فوافق الشاب ووالده على رأي بثينة ووقع عندهما كلامها موقعا عظيما، فكتبت إلى أبيها كتاباً تستشيره، جاء فيه [5]
اسمع كلامي واستمع لمقالتي … فهي السلوك بدت من الأجياد
لا تنكروا أني سبيت وأنني … بنت لملك من بني عباد
ملك عظيم قد تولى عصره … وكذا الزمان يؤول للإفساد
لما أراد الله فرقة شمنا … وأذاقنا طعم الأسى من زاد
قام النفاق على أبي في ملكه … فدنا الفراق ولم يكن بمرادي
فخرجت هاربة فأعجلني امرؤ … لم يأت في إعجاله بسداد
إذا باعني بيع العبيد فضمني … من صانني إلا من الإنكاد
وأرادني لنكاح نجل طاهرٍ … حسن الخلائق من بني الإنجاد
ومضى إليك يسوم رأيك في الرضا … ولأنت تنظر في طريق رشادي
فعساك يا أبتي تعرفني به … إن كان ممن يرتجي لوداد
وعسى رميكية الملوك بفضلها … تدعو لنا باليمن والإسعاد
وصل الكتاب إلى المعتمد وهو في معتقله بأغمات يعاني ظروفا قاسية و يتفطر كمدا على حاله وحال أولاده وزوجه، وكان ذلك سلوى له بطريقة أو بأخرى هو واعتماد، فقد سرا لحياة ابنتيهما ووافقا على الزواج، ثم أشهد على نفسه بعقد نكاحها من ابن التاجر وكتب يهنؤها، وكان آخر ما في رسالته نصيحة لبثينة المقبلة على الزواج قائلا :
بنيتي كوني به برة فقد قضى الدهر بأسعافه
===================
المراجع
[1] المقري، نفح الطيب 4/166
[2] أبو القاسم المعتمد على الله محمد بن عبَّاد ( 431 هـ – 488 / 1040 – 1095 م ) هو ثالث وآخر ملوك بني عباد في الأندلس، كان ملكاً لإشبيلية وقرطبة في عصر ملوك الطوائف قبل أن يقضي على إمارته المرابطون وينقل أسيرا إلى أغمات حيث وافته المنية هناك هناك.
[3] ذ. نبيلة عبد الشكور ، شهيرات الأندلس ص 10 -11
[4] سناء الشعيري ،المرأة في الأندلس، ص
[5] شاعرات العرب في الجاهلية والإسلام، جمع وترتيب بشير يموت– ص 212
في حالة أعجبك المقال، ربما ستعجبك مقالات أخرى، نرشح لك:
طبيبات أندلسيات (2) .. طبيبات ابن زهر
كيف تسببت الخيانة في القضاء على دولة المماليك ؟!
إعلان