سايفر والمصفوفة: الثقل غير المحتمل لشعلة بروميثيوس

دائمًا ما ركَّزت المقالات التحليلية لسلسلة «ماتريكس»، وتحديدًا في المحتوى العربي، على معضلات الخير في مواجهة الشر وحرية الاختيار في مقابل الجبرية، واضعة «نيو» والعميل «سميث» على طرفي طيف (Spectrum)، يبدأ بـنيو كممثل حصري للخير وحرية الاختيار والتحرر من نير زيف الواقع، وينتهي بالعميل سميث مدافعًا عن المصفوفة وممثلًا لها، ومن ثم ممثلًا للشر والإجبار، ساهم ذلك الاختصار المخل في إغفال عنصر من أهم العناصر التي ساهمت كثيرًا في شمول فلسفة أفلام ماتريكس، وساهمت أيضًا بدورها في تحريك الأحداث، بل والأكثر من ذلك أنها ترسخت في أذهان مشاهدي السلسلة كرمز واضح للخيانة، فلو كان نيو، كما تشبهه بعض التحليلات، مسيحًا فاديًا للبشر ومحاربًا بالنيابة عنهم ضد المصفوفة، سواء كانوا من أصدقائه الذين فطنوا لزيف المصفوفة، أم كانوا من باقي البشر الذين ظلوا تابعين لها بغير إرادتهم. فـ«سايفر» موضوع المقال هو بالقطع «يهوذا الإسخريوطي»، ويتجلى ذلك واضحًا في جعله زميلًا لـ نيو وكأنه أحد حوارييه، الذي فضَّل مع تتابع أحداث الفيلم أن يقبع في منتصف الطيف مقررًا أن معارك نيو وفريقه ليست معاركه، وأن الشر المطلق للعميل سميث وممثلي المصفوفة ليس الحل الأمثل لحياة تخلو من التفكير العميق في معضلات الحياة والمعرفة الكلية ومدى حقيقية الواقع المادي، ليترك كل حزب بما لديهم فرحون، ويقرر سايفر  -بكامل إرادته- ألا ينتمي لأي من الحزبين، وأن يتخلى عن الحياة في صحراء الحقيقة والمعرفة في مقابل العودة إلى المصفوفة والبقاء فيها، ولكن تصوير الفيلم لشخصية سايفر يطرح كثيرًا من التساؤلات: هل كان تصويرًا عادلًا؟ ما الخلفية التي أتى منها سايفر التي على أساسها اتخذ قراره بالتخلي عن رفاقه؟ بل ويمكن طرح سؤال آخر أكثر أهمية: هل كان سايفر محقًا؟

في عديد من القصص، سواء كانت ميثولوجيا أو قَصص ديني، رويت شواهد عديدة على المعرفة عندما تصبح وبالًا على صاحبها، ففي الميثولوجيا الإغريقية، يحكي الشاعر الإغريقي «هسيودوس» عن «بروميثيوس»، أحد عمالقة الإغريق وتابع لـ«زيوس» ائتُمن من قبله على توزيع عطايا وقدرات الآلهة على مخلوقات الأرض، إلا أن بروميثيوس قرر أن يسرق النار، في مخالفة صريحة لقواعد زيوس، ليهديها للبشر، فما كان من زيوس إلَّا أن عاقبه بتكبيله وتسليط نسر لينبش كبده الذي يتجدد يوميًا ليأتي النسر لنبشه مرة أخرى، في عقاب أبدي جزاء لما رآه زيوس خيانة وخداع.

كانت نية بروميثيوس أن يستخدم البشر النار في تطويع الطبيعة لصالحهم والسيطرة على الكائنات التي اكتسبت قدرات تفوق طاقة البشر وقوتهم، إلا أن ذلك خلق احتمالية مضادة، ألا وهي إمكانية استخدام تلك المعرفة في شن الحروب وتدمير الطبيعة، وهو ما برهن البشر تاريخيًا على صحته، فأي معرفة يصل إليها الإنسان لا يتوانى عن تفكيك عناصرها والتفتيش في داخلها عن بذور فسادها.

يروي هسيودوس أيضًا قصة «باندورا» أول وأجمل امرأة مخلوقة من قبل زيوس, التي أهداها صندوقًا مغلقًا كهدية زواجها من «إبيمثيوس» -الأخ الأصغر لـ بروميثيوس وطلب منها ألا تفتحه مطلقًا، وبدافع الفضول وحب المعرفة الفطري لدى الانسان، خالفت باندورا تعليمات زيوس وقررت فتح الصندوق، الذي ما لبث أن أدخلت فيه مفتاحها حتى أطلق كل الشرور إلى عالم البشر، لتحيا باندورا عقب تلك الحادثة مثقلة بما تراه من مجاعات وأوبئة وكراهية تسببت هي فيهم بشكل رئيسي. يمكن ملاحظة كم التقاطعات بين قصة باندورا وقصة هبوط السيدة حواء للأرض في الأديان الإبراهيمية، ببساطة هما امرأتان كانتا ضحية حب المعرفة المغروس في الإنسان الذي في الأغلب يودي به إلى الهاوية.

كل الدنيا مسرح، والرجال والنساء جميعًا مجرد ممثلين؛ لهم مداخلهم ومخارجهم، ويمثل الرجل خلال حياته عدة أدوار، تبدأ بالطفل وتنتهي بالشيخوخة.

ويليام شكسبير

عطفًا على القصص التي سُرِدَت وعلى المقولة الشهيرة لـشكسبير» على لسان إحدى شخصياته في مسرحية (As you like it)، يمكن الاستنتاج أن لكل منا دورًا مكتوبًا له في الحياة، والسيناريست هو المنتج وهو أيضًا مخرج العمل، صانع وحرفي شديد الصرامة لا يمكن إضفاء أي تغيير على نصه، قد يمتلك البعض شجاعة التمرد والتغيير سواء بالحذف أو بتغيير دورهم بالكامل، كأبطال فيلم ماتريكس، وقد يرى البعض الآخر أنه لا جدوى من ذلك التغيير، فكل شيء يدور في فلك الصانع، كما ورد في الفيلم، وأي محاولة للتغيير ستبوء حتما بالفشل، فالتحلي بفضيلة كفضيلة الشجاعة، على الرغم مما لها من جاذبية، ليس حلًا مثاليًا في كل الحالات، وسبر أغوار المعرفة والحقيقة والوعي بالعالم والذات ليس على رأس أولويات الأغلبية العظمى من البشر في وقتنا الحالي؛ لسببين: الأول هو ببساطة عدم اهتمامهم بذلك، وهو ما نتج عن الحياة في عصر ما بعد حداثي سماته الرئيسة هي الاستهلاك المفرط وغياب المعنى وانهيار السرديات الكبرى وسط مجتمعات مشغولة وتكاد تكون مهووسة بتحقيق الذات، وهو ما يصفه الفيلسوف الكوري-الألماني المعاصر «بيونج تشول هان» بمجتمع الإنجاز، الذي ينشأ من الضغوط التي فرضها البشر على أنفسهم للوصول إلى أفضل نسخة ممكنة، نسخة تحقق وتمتلك الكثير، مما تسبب في نهاية الأمر بالاحتراق الداخلي للإنسان المعاصر، وتركه فريسة لحلقة مفرغة من الاكتئاب وتدمير الذات، وانعدام القدرة على التأمل في العالم وفي النفس، وتناقص الرغبة في الوصول لمعرفة لن تزيده شيئًا -من وجهة نظره-. والسبب الثاني هو الشعور السائد بأن محاولات التمرد والعبث بالنظام والوصول للمعرفة لن تضيف لحياتنا شيئًا سوى التعاسة والشعور بالعجز أمام يد خفية مجهولة تتلاعب بحركة التاريخ والمستقبل، وهو ما آمن به (سايفر)، مقررًا على إثر ذلك أن يصافح تلك اليد الخفية ويسلم نفسه إليها، رغبة منه في الوصول لأفضل نسخة ممكنة من نفسه في عالم المصفوفة، فلا جدوى من البقاء ضمن مجموعة تحارب طواحين الهواء في عالم سمته الأساسية هي عدم اليقين وضبابية المستقبل ورمادية الصواب والخطأ.

إعلان

هذا هو منظوري عن الحياة منذ كنت طفلًا، أنا أشعر أنها تجربة قاتمة، مؤلمة، كابوسية، ولا معنى لها.. والطريقة الوحيدة لتحقيق السعادة فيها هي أن تخدع نفسك وتغذيها ببعض الأكاذيب والأوهام، فلو نظرت إليها بوضوح كامل، لأصبحت الحياة لا تطاق». وودي ألن

في مشهد الخيانة الشهير لـ سايفر مع العميل سميث، يقول سايفر لـ سميث ممهدًا له خيانته في مشهد أراد صناع الفيلم أن يجعلوه مشهدًا فاوستيًا بامتياز: هل تعلم؟ أنا أدرك أن قطعة الستيك التي نأكلها حاليًا ليست حقيقية، أنا أدرك عندما أضعها في فمي أن المصفوفة تعبث بعقلي ليخبرني بأنها دسمة وشهية، ولكن بعد 9 سنوات، هل تعلم ماذا أدركت بحق؟ أدركت أن الجهل نعمة”.

تلعب رمزية الطعام في هذا المشهد دورًا مهمًا في رسم ملامح شخصية سايفر وتوضيح منظوره، فالطعام الجيد ليس الغاية في حد ذاته، وإنما يأتي هو والجنس في مرتبة متساوية كوسائل للإلهاء عن واقع لا ناقة له ولا جمل في تغييره، وسائل افتقدها سايفر عندما كان جزءًا من فريق نيو، وهو ما كان محركًا أساسيًا في قراره بترك الفريق.

ربما طغت رغبة الأختان «لانا» و«ليلي واتشاوسكي» في جعل ماتريكس فيلم متعدد الطبقات والصراعات، تتنوع فيه الشخوص المهددة لرحلة البطل، على الرغبة في توضيح دوافع سايفر والتعمق فيها وإعطائها وجاهة حتى لا ينتهي الأمر بالمشاهدين متعاطفين مع منطق سايفر ضد المتمردين على المصفوفة، وهُمِّشَ دور شخصية سايفر وإظهاره بصورة الشرير الذي باع روحه للشيطان. وفي مفارقة طريفة، صدرت لعبة «ماتريكس أونلاين» في عام 2005، بعد 6 سنوات من صدور الجزء الأول للسلسلة، وظهر فيها مجموعة من معتنقي أفكار سايفر عرفت بالـ«سايفريين»، وكأن صناع السلسلة كانوا يرغبون، بقصد أو بدون قصد، في إضفاء البريق المستحق على الشخصية وجعلها ركنًت أساسيًا من أركان عالم السلسلة.

لو استثمر الأختان واتشاوسكي وقتًا أكثر في زيادة مساحة شخصية سايفر وإكساب شخصيته عمقًا حقيقيًا ودوافع معقدة ومقبولة في آن واحد دون الانحراف لمسار شيطنته منذ بداية الفيلم، لتحول إلى خصم من أهم خصوم نيو، ولتغيرت رؤية بعض الناس لشخصيته، أما من خلال أن يتعاطفوا ويتماهوا معها أو، على أقل تقدير، يتفهموا اختياراتها. وفي ظل عالم تحكمه الصراعات والنزاعات والمجازر والحروب، التي أصبح لنا جميعًا إمكانية الوصول لمشاهدها المروعة نتيجة للإغراق المعلوماتي الذي نرزح تحت وطأته، ومع إعادة مشاهدة الفيلم، ربما يصبح بعضنا أكثر تفهمًا لـ سايفر، الذي فضل الانسحاب من حرب اختار سابقًا أن يكون جزءًا منها إلى أن أدرك عبثيتها من وجهة نظره، ولقراراته لو تغاضينا عن قرارات أخرى كقتل مجموعة من زملائه في سبيل العودة للمصفوفة، ولعل بعضنا قد يرى أن سايفر كان محقًا ويقرر أن يتخلى عن شعلة بروميثيوس ويركن إلى نعيم الجهل واللا اكتراث، أملًا في حياة صاخبة، بعيدة عن التأمل في واقع مظلم، تملأ نفس صاحبها وتغطي بصخبها على أصواته الداخلية وأزماته الكامنة.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: كريم إيهاب

تدقيق لغوي: أمل فاخر

اترك تعليقا