لماذا تعتبر الإرادة الحرة صحيحة فلسفيًا وعلميًا (مترجم)

ناقش جرّاح الأعصاب «مايكل إجنور – Michael Egnor» في آخر بودكاست له علی موقع «ID The Future» الذي يحمل عنوان: “للبشر إرادة حرّة”، عالم الجيولوجيا «كيسي لوسكين – Casey Luskin» الحجج القائمة علی العلم التي تعارض الإرادة الحرة. فهل كانت هذه الحجج تحديًّا جدّيًا؟ أم أنها لا تعدو كونها محض تمنيّات من قبل الماديين؟ فيما يلي اقتباس جزئي من نص الحوار:

«كيسي لوسكين»: الآن د.إجنور سنكمل الحديث الذي بدأناه آنفًا في البودكاست السابق، حيث دار حول نقاشك في موقع «Evolution News and Views» ردًّا علی البروفيسور «جيري كوين – Jerry Coyne» عالم الأحياء التطوري المعروف في جامعة شيكاغو. «كوين» هو من يمكن تسميته بالملحد النزيه؛ كونه علی استعداد للاعتراف بالتداعيات المترتبة علی الإلحاد والحتمية الداروينية تجاه مفاهيم عدة كالإرادة الحرة والحتمية.

بعباراتٍ بسيطة، ما هي الحتمية والإرادة الحرّة؟

«مايكل إغنور»: الحتمية هي الاعتقاد بأن الأفعال البشرية محكومة بالكامل من قبل عمليات فيزيائية مثل: كيمياء الدماغ، بيئتنا المحيطة، تاريخنا ومايحدث حولنا. بمعنىً آخر لا يوجد هناك أي عنصر إرادة فيما نفعله.

اللا حتمية، أو إنكار الحتمية، هي وجهة نظر تدّعي بأننا نمتلك حرية الإرادة في اختيار بعض مما نفعله، وبالطبع لا نعمم ذلك علی جميع الجوانب الحياتية، بل البعض منها. وتعني الإرادة الحرة بأن حرية الاختيار لبعض الجوانب عائدة لنا، وكان بالإمكان الاختيار خلافًا لذلك.

يمكن تعريف الحتمية بطريقة شديدة الوضوح والبساطة، فهي بالإضافة لكونها تصوّرَ أنّ كل أفعالنا محكومة ومحددة سابقًا بالكيمياء والفيزياء والتاريخ، فالحتمية هي التصور بأن -في أي فترة من الزمن فإن المستقبل لا يمكنه أن يختلف عمّا هو عليه.

إعلان

علی سبيل المثال: تخيّل ماذا يمكنني فعله ابتداءً من هذه اللحظة ولعشر ثوانٍ؛ فإذا كانت الحتمية صحيحة فكل ما كان من المفترض أن يحدث بعد عشر ثوانٍ سوف يحدث. لا يوجد أي خيار لتغيير ذلك. وفي حال كانت الحتمية صحيحة، والإرادة الحرة خاطئة، فهذا يؤدي إلی الكثير من وجهات النظر المجنونة تقريبًا.

“الإرادة الحرّة ليست سوی وهم، فنحن لسنا صنّاع إرادتنا، وتنبثق الأفكار والنوايا؛ نتيجةً لمقدمات وأسباب خفية لا ندركها، ولا نمتلك أي سيطرة واعية عليها، ونحن لسنا أحرارًا كما نعتقد”

– سام هاريس، من كتابه «الإرادة الحرة» 2012.

لماذا تعتبر الحتمية غير سليمة بديهةً؟

تميل غالبية الناس إلى اعتبار الإرادة الحرّة من المسلّمات. وليس ذلك فحسب، فالبعض يذهب أبعد من ذلك ويعتقد أنك بإنكارك الإرادة الحرّة فأنك تنكر التجربة الحياتية لجميع سكان هذه الأرض. ومن الممكن أن يكون الجميع مخطئين، لكن إنكار الإرادة الحرة بمثابة نظرية جذرية تتطلب الكثير من الأدلّة الجوهرية لدعمها.

المشكلة الأخری التي تترتب علی إنكار الإرادة الحرة هي أنه بغياب الإرادة الحرة وحتمية أفعالنا المحددة مسبقًا، فلا يوجد ما يدعى بالأخلاق.

إذا كانت جميع أفعالنا محددة بالكيمياء، فالكيماء ليست معنيًّة بالخير والشر. لا يوجد ما يسمى بتفاعل كيميائيٍّ خيّر وآخر شرير، وبالتالي جميع ما يفعله البشر -بما في ذلك ما فعله النازيون في الهولوكست وما بذلته الأم تيريزا في إطعام الجياع- ليس له معنی أخلاقيّ. ويشاطر القاتل المتسلسل الذي يزهق الأرواح، والشخص الذي يدافع عن الناس ويحفظ حقوقهم ذات المكانة الأخلاقية المنعدمة. ولذلك فإن كنت حقًا تؤمن بالحتمية، وتنكر الإرادة الحرة فأنت تنكر الأخلاقيات والخير والشر.

لكن في الحقيقة يعلم الجميع بأن هناك أفعال خيّرة وأفعال شريرة، ويتفق «جيري كوين» مع كونِ تعذيب القطط عملًا خاطئًا، ولكن إيمانك بالحتمية وإنكارك لحرية الإرادة سيصعّب عليك وصف أي فعل علی أنه سيء أخلاقيًا.

لماذا تعتبر الحتمية غير منطقية أيضًا

إضافةً إلى ذلك فإن إنكار الإرادة الحرة وتأكيد الحتمية يدحض نفسه، والكثير من الادّعاءات المادية تدحض نفسها بنفسها لكن هذا الإدّعاء بعينه يدحض نفسه بشكل مميز. فإذا كانت معتقداتك وآرائك محددة مسبقًا عن طريق الكيمياء وليس لك أي خيار آخر فيما تقوله أو تفعله، فإن رأيك القائل بأن الإرادة الحرة خاطئة ليس سوى نتاج لتفاعل كيميائي.

التفاعلات الكيميائية ليست افتراضات وليس بإمكانها أن تحتمل الخطأ والصواب فهي أشياء تحدث وحسب، فعندما تدّعي بأن الإرادة الحرة غير موجودة، فأنت تؤكد في نفس الوقت عدم امتلاك دعواك لأي قيمة حقيقية على الإطلاق. إنها محض هراء متناقض ذاتيًا.

يتجه بعض منكري الإرادة الحرة لخداع أنفسهم برضاهم. “رسالتي لك: ادّع امتلاكك حرية الإرادة، فمن الضروري أن تؤمن بأهمية قراراتك وتتصرف علی هذا النحو حتی ولو لم تكن كذلك. ليست الحقيقة المجردة ذات أهمية بل اعتقادك وإيمانك، وإدراكك بأن هذه الكذبة هي الطريقة الوحيدة لتجنب العيش كما وأنك في غيبوبة. وتعتمد الحضارة بأكملها حاليًا علی خداع الذات ولطالما كانت كذلك.” «تيد شيانغ»، من كتابه «قصة حياتك».

هل هنالك إجماع علی الإرادة الحرّة بين العلماء؟

مايكل إغنور: أكّد كوين مرارًا وتكرارًا علی أن الحتمية أثبتتها الفيزياء، وأن هنالك إجماع علمي حول كون جميع ما نفعله محددًا مسبقًا. ولكن وجب التنويه أن كوين يستخدم فيزياء عشرينات القرن الماضي، ومنذ صعود نجم ميكانيكا الكم في الساحة العلمية دحضت الفيزياء الحتمية بشكل كامل، فلا يوجد اليوم فيزيائيون يدافعون عنها، حيث أثبت تجريبيًا صعوبة ذلك.

لم يكن أينشتاين (1879- 1955) من مؤيدي ميكانيكا الكم وإنكار الحتمية في الفيزياء عموماً. وأطلق علی ذلك عبارته الشهيرة (التأثير الخفي عن بعد – spooky action at a distance» الذي عنى بها وجود عنصرين غير متصلين يؤثر أحدهما بالآخر. وبذل جهودًا عدة لدحض ذلك، لكن الأدلة التجريبية استمرت في دعمه.

مايكل اغنور: اقترح أينشتاين تجربة فكرية مفادها: إذا أخذت جسيمين دون ذريين نتجا عن طريق عملية ما -كالتحلل الإشعاعي على سبيل المثال، ستتمتع الجسيمات دون الذرية بخاصية التشابك الكمي. ويعني ذلك أن خصائص تيك الجسيمات مرتبطة ببعضها البعض وإذا كان لإحداها خاصية ما سيكون للأخری خاصية معينة وفقاً لقوانين ميكانيكا الكم.

لنتخيل انبعاث هذه الجسيمات وتفرّقها باتجاهات مختلفة، يبتعد أحدها العديد من السنوات الضوئية آما الآخر يتّجه نحو مرصدك أثناء رصده. وفقاً لميكانيكا الكم لا يمتلك أي منهما أيّة قيمة محددة حتی يتم إخضاع أحدهما للقياس فيمتلك بذلك قيمة. تضفي القيمة لإحدی الجسيمات بالقياس وبالتالي أصبح لدينا جسيم ذو قيمة و آخر علی الجانب الآخر من الكون سيمتلك قيمة مقابلة بناءً علی ذلك، لأن هذه الجسيمات دائماً ماتكون متشابكة.

يقول أينشتاين: إنّه لضربٌ من الجنون، كيف يمكن لأحد الجسيمات علی الجانب الآخر من الكون -لنقل بعد ساعة من التباعد- أن يعرف ماذا كان لدى الجسيم الآخر عند قياسك له؟ فكرة اللا-حتمية إجمالاً فكرة جنونية، ليس من الممكن أن تكون صحيحة. لذلك ولسنوات قادمة سيستمر النقاش حولها.

في أوائل الستينيات من القرن الماضي، أشار عالم فيزياء يُدعى «جون بيل -John Bell » إلى أن السؤال الذي طرحه أينشتاين من الممكن الإجابة عنه تجريبيًا، واقترح تجربة لم تكن حينها قابلة للتطبيق من الناحية الفنية لكن بحلول أواخر السبعينيات قام بها عدد من الأشخاص.

كُرّرت هذه التجربة عدة مرات وأثبتت للجميع أن أينشتاين كان مخطئاً. عندما تنقسم الجسيمات مع عدم امتلاكها خصائص محددة لحظة الانقسام. فقط عند قياس أحدها يكتسب الآخر في ذات وقت القياس الخاصية التي من المفترض امتلاكها وفقاً لميكانيكا الكم.

لذا تعتبر الحتمية، كنظرية في الفيزياء، منتهية. وهي منتهية في فيزياء الكم لأغلب القرن العشرين وقد أُثبت ذلك تجريبياً منذ ثمانينات القرن الماضي. وبالرغم من ذلك، يؤيّد كوين في مدونته مراراً وتكراراً صحتها فيزيائياً. فيزياء كوين متزامنة مع البيولوجيا خاصته ويتبع كلاهما للقرن التاسع عشر.

” في حين أن العديد من الأسباب تدفعنا للاعتقاد بأن إرادة الفرد ليست خالية من المؤثرات تمامًا، لا يوجد إجماع علمي يقف ضد الإرادة الحرة”

– “هل العلم يدحض الإرادة الحرة؟، مجلة علم النفس اليوم

كيسي لوسكين مخاطباً د. اغنور: أوحى الكثير من الاشخاص بأن عقولنا أو ادمغتنا تستخدم أليات مشابهه لميكانيكا الكم. أجرينا مؤخّراً بودكاست مع عالم الفيزياء ديفيد سنوك الذي يدرّس ميكانيكا الكم في جامعة بيتسبرغ ودار النقاش حول وجود البعض ممن يشيرون إلى ما ذكرناه سابقاً.. هل تتفق مع ذلك؟

مايكل اغنور: ماعلاقة ذلك بالعقل؟ هنالك العديد من النظريات المدهشة حول ذلك.. وبعضها يستحق التدقيق. لكن بغض النظر عن تلك النظريات، نحن أمام حقيقة وأودّ التنويه هنا بأنها ليست حقيقة ذات سياق نظري فحسب بل هي حقيقة مجرّبة ومفادها أن الحتمية غير صحيحة. وكوين الماديّ يؤسس رفضه العجيب للارادة الحرة علی اساس أن الفيزياء أثبتت صحة الحتمية مع العلم ان ميكانيكا الكم دحضتها منذ ثلاثينيات القرن الماضي نظرياً وتُوّج ذلك بدحضها تجريبياً في الثمانينات. يثير ذلك التساؤلات عن مدی فهم كوين للعلم أساساً، حسّه الميتافيزيقي لافت لكن علمه متأخّر قرنًا من الزمن.

كيسي لوسكين: بالطبع كوين مدافع شرس عن الداروينية الجديدة التي بدأ العديد من العلماء الآن برفضها ولدی علماء التطور الآن انتقاداتهم بشأنها. أجری كوين نقاشاته مع البعض منهم بتعصب كبير مدافعاً عن النسخة العصرية من داروينية القرن التاسع عشر.

“ازدهرت العلوم بوضوح وثبات من خلال ادّعائها بأن سلوك الإنسان من الممكن تفسيره عن طريق القانون الدقيق للسبب والنتيجة. هذا التحول في الإدراك ماهو الّا امتداد لثورة فكرية انطلقت منذ حوالي ال 150 عاماً، عندما نشر تشارلز داروين كتابه “أصل الأنواع” للمرة الأولی”

ليس هنالك ما يدعی بالإرادة الحرّة، ستيفن كيف.

المصدر

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: مجد دغلس

اترك تعليقا