ذئب في الحظيرة
كانت تظنه مازحًا عندما رفع تنورتها ذات الوردة. ربما كان ذلك جزءًا من اللعبة. عانقها بقوةٍ بجسده المتين حتى كادت تختنق. لحظتها أحست الصغيرةُ بشيءٍ كبيرٍ شبيهٍ بعظم يحتَكُّ بسرتها.
أرادت أن تحرِّرَ نفسها وتستمرَّ في الاستمتاع والضحك من جديد. كانت تحب أن تجريَ وراءَ أبيها في الحقل المخضر قرب النهر، غير بعيدٍ عن المنزل العائلي. ثم قرقرت، أما هو فلا.
لحظة بعد ذلك، غرز عضوَه التناسليَّ بين ساقيها الحليبيَّتيْن، هي التي لم تطلبْ أي شيءٍ من أحد.
ـ أنا أيضا أحب اللعب معك يا قرةَ عيني فاطمة.
قال لها ذلك بنبرةٍ جدِّ تافهة، النبرة نفسها التي كان يستعملها مرةً كلَّ يومين ليطلب منها شراء الرغيف عندما ترجع من المدرسة. لم تحرك ساكنا، أما هو فقد تركها هناك.
كانت بالكاد تبلغ من العمر أحدَ عشرَ ربيعًا!
حول المائدة، لم تكن فاطمة جائعةً جداً، عندما سألتها أمها عن سبب فقدانها للشهية، لم تعرف كيف تنطق بالسبب.
مرت عشرون سنة، أصبحت فاطمة امرأة مُزهِرة. وذات يومٍ من أيام الخلق، التقت برجلٍ وأحبَّته من كل قلبها، كانت تناديه «حب حياتي». كانت تكتب له عشرات من القصائد الشعرية وترسم له عشرات من القلوب الوردية في كل مكان. هي المرأة النشيطة بكل ما تحمله الكلمة من معنى ومنحى، بل كانت حيويتها زائدة عن اللزوم، كما يقول عنها بعض من معارفها الذين يستمتعون بردِّ كل شيءٍ إلى سيدهم سيغموند فرويد. صحيح أن شخصيتَها كانت مليئةً بالتناقضات، لكن هذه الأخيرة كانت في الوقت نفسه في غاية الأناقة والنعومة، هذا على الأقل ما كانت تريده كل صباح على الساعة الحادية عشرة واثنين وأربعين دقيقة، لكن «حب حياتها» بدأ يخنقها تماماً.
عندما يأتي الليل ـوهذا شيء ممتع للغايةـ كانت دائماً تسبقه للفراش وتنام قبله. كانت الستائر التي تسقط على نافذة غرفتهما في حالةٍ يرثى لها، لم تكن هذه الستائر غيرَ شفافةٍ كما قالت لها البائعة المخادعة؛ لذلك قررت فاطمة استبدالها منذ أربعة أو خمسة أشهر. وبما أن مصباحًا من مصابيح الشارع كان مغروسًا قبالة الغرفة الحميمية، لم تنعم هذه الأخيرة بالعَوْم في الظلام المرغوب. ربما لهذا السبب كان «حب حياتها» يشكو دائماً من التعب على مدار الأيام، لكن هذا لا يهم كثيراً ما دام في وسعه تأمُّلُ وجهِ فاطمةَ قبل النوم والاستمتاعُ بأسرار ومحاسن جغرافيته، اللهم إنْ ساوره القلق؛ لأنه عندما تغرق فاطمة في نومها تكون حروف وجهها ضحيةَ تعابيرَ من الخوف لا يَقدِر «حب حياتها» على فهم أسبابه ومصادره.
علامات خوفٍ غيرُ ملائمةٍ وغيرُ مألوفةٍ وغيرُ مناسبة، تقريبًا طفيلية تجتاح الوجه الحسن كما تجتاح نوتةٌ نشازٌ ترانيمَ لحنٍ رائعٍ وبديع. ولا تعود البسمة إلى وجهِها وإلى شفتيها إلا في الصباح الباكر. أما «حب حياتها» فاللحظة الوحيدة التي يتجدد فيها لقاؤه مع ذلك الشكلِ المروعِ الخائفِ هي عندما يمارسان الحبَّ بقليلٍ من العنفِ والوحشية، وبالضبط عندما يطوِّقُ وركيْها بيديه الصارمتين، أو عندما يغامر بالعضِّ على أسفلِ بطنها بغير قليلٍ من الحماس والعنف. لم يكن يقدر على الإفصاحِ عن قلقِه من ذلك الخوفِ المتسلِّلِ إلى فاطمة، كان يتخيل أنَّ يديْه العاشقتين كانتا أقلَّ شجاعةً منه، وأن قرينتَه غيرُ متعودةٍ على الشيء..
مرت عشرون سنةً أخرى. الآن، ورغم أن فاطمة لم تعد تناديه بحب حياتها في منعرج الخمسينيات من عمرها، يتوفر الثنائيُّ على كثيرٍ من الوقت الحرِّ من أجل الرسم وتطوير تقنياتٍ جديدةٍ أقل ما يمكن القول عنها هو أنها مدهشةٌ وفريدةٌ من نوعها. الآن كذلك أصبحت فاطمة مرتاحةً لهذا التواطؤِ الجميل بينهما في الخلق والإبداع. أما هو فما يزال يقول لها: «أنت جميلة ومشرقة»، كما أنه يجدها رفيعةً وساميةً لمَّا تضعْ بندقيةً على كتفها.
ـ «جنوني فاطمة!»، كان يهمس لها وهو يعَضُّ شحمةَ أذنِها اليسرى.
كان أصدقاؤهما ينعتونهما بـ«زوج من المراهقين». صحيح أنهما كانا سخيفَيْن ومثيرَيْن للضحك إلى حدٍّ ما، لكنَّ علاقتَهما كانت جدَّ مؤثرة وشديدة الشغف. لم يكونا يستكثران أيَّ شيءٍ على حبِّهما. كانا يسافران ولا يلامسان الأرض إلا قليلًا، أي عندما يُجبَران على الرجوع إلى هذا السيرك المقيت المسمى «مجتمع». في الحقيقة عندما يجتمعان ببعضهما، كانا يحلِّقان في السماء وعوالمِها اللامتناهية، لكن لا أحد منهما قادرٌ على شرح سبب هذه السعادة النادرة في هذا الزمن الجبان.
في يومٍ ما، بلغت فاطمة أربعًا وستين سنةً من عمرها. يومها، تشجعت وأرغمت نفسها على التفكير، التفكير في حياتها و«أعمالها». كانت هذه الكلمة تجعلها مبتسمةً؛ «إنها كلمةٌ كبيرةٌ ورنانة، لا أحب الكلماتِ الكبيرةَ الرنانة»، تقول في قرارة كيانها.
أصبحت تُضيِّع وقتها في المتاجر الكبرى لمدينة أكادير، مثل ذلك اليوم الذي اشترت فيه قلادةً على شكل ثعبان، كانت تحب الزواحف والكِبَاش كذلك. عند مرورها أمامَ واجهةِ قاعة شاي، أحست بطعمٍ مريرٍ يجتاح فمَها وحلقَها. تهيَّأ لها أنها التهمت قماشًا متينًا؛ توقفت فجأة. لم تتمكن من منعِ نفسها من النظر إلى داخل المحل، إلى صاحبته ـتلك البورجوازية الحقيرةـ وإلى زبوناتها التي تكره فاطمةُ أن تكون مثلَهُن، إلى تلك الفطائر المحلَّاة، إلى تلك المقاهي المزدحمةِ التي يتخذها السياحُ الوطنيُّون والوثنيُّون مسرحًا لعرض مفاتنهم ومظاهرهم الخداعة. لمحت فاطمة مجموعاتٍ نسائيةً جالساتٍ مُشكِّلاتٍ من أربعِ إلى خمس وحدات. أما الخزف فوق الطاولة فقد ذكَّرها بمنزلها الدمية، كانت تحب كثيرًا اللعب داخله في طفولتها الأولى.
أبقت فاطمة أنفَها ملتصقًا بالواجهة الزجاجية كما لو أنها تهبه وقالت في نفسها: «إن كلَّ هؤلاء النساء متشابهاتٌ في التفكير». بدأ عقلُها يصول ويجول: «زوجي يخونني، أنا أحس بذلك، ابني البكر ليس ذكيًّا بما فيه الكفاية، كلبي مصاب بالسعار…»، في الأخير سقط الحكم:
ـ «يا لهن من سافلاتٍ حقيرات..»، غمغمت فاطمة بصوتٍ مسموعٍ لأن الثنائيَّ العسليَّ الواقفَ أمام الواجهة الزجاجية رماها بنظرةٍ محدقة.
عندها قامت فاطمة ـالمخربة الأبديةـ برميِهما بابتسامةٍ كلها غرورٌ واستعلاء، قبل أن تسرع من وتيرة خطواتها؛ كانت ترغب في الرجوع إلى البيت بأقصى سرعةٍ ممكنةٍ لتَناولِ فطائرَ غيرِ محلاةٍ وشربِ كوبٍ من قهوةٍ خفيفةٍ والدخول إلى البطانية الساخنة.
قررت فاطمة كتابةَ كتابٍ دون أن تعرف سبب هذه الرغبة المفاجئة. أحست فقط أن بداخلها أشياء يجب قولُها.
لقد مكَّنها عملُها من فرضِ ذاتها على الساحة، لكنْ هناك شيءٌ آخر مع الكتابة، شيءٌ أكبر وأكثر وأعظم وأغرب وأفصح، وأشياء أخرى على وزن أفعل، هذا شيءٌ تحس به داخل كيانها.
لقد بدأت فاطمةُ الحسناء تتقَدَّم في السن. لم تعد تلك الطفلةَ الصغيرةَ التي تُغتَصَب في عمق الحديقة العائلية، هذا شيءٌ تدركه تمام الإدراك.
أقفلت على نفسها باب الغرفة، وبتركيزٍ ومثابرةٍ قلَّ نظيرُهما أرغمت نفسها على الكتابة وحيدةً لأن «حب حياتها» كان في سفرٍ إلى الدارِ البيضاء من أجل عرضِ بعضٍ من لوحاته.
لما انتهت من تحرير كل شيء، أرسلت مخطوطَها إلى صديقٍ ناشر، مُرفَقًا بهذه الجملة المختصرة: «لمرةٍ أعرف لماذا!».
الشيء الذي تعرفه فاطمةُ أيضًا هو أن صديقَها سيَنشرُ المخطوط، لا يمكن للأمر أنْ يكونَ غيرَ هذا؛ لأنهما كانا صديقَيْن حقيقيَّيْن، وبالتالي يستحيل أن يديرَ ظهرَه لها، خاصةً إذا قرأ مضمونَ الكتاب الذي باحت فيه فاطمةُ بكلِّ شيء، بكلِّ ما أخفته منذ العشرات من السنين. كان الكتابُ يحمل عنوان «سري الدفين». كان على العالم كلِّه أن يعرف ما حطَّمَها، ما عانَتْه، ما قاسته فاطمة، الفنانةُ الغزيرةُ المتخصِّصةُ في رسم الثديَيْن. فاطمة التي تشْتمُ جميع الأديان بوقاحةٍ نادرة. فاطمة التي تطلقُ نارَ بندقيَّتِها على لوحاتِها. فاطمة التي تنحت الأجهزة التناسلية باستمرارٍ وهَوَس. فاطمة التي تجربر النساء الفاتنات. فاطمة ابنة تيزنيت، المدينة أو القرية المغتصَبة من قِبَل أهلها!