مشكلة الشر ثيوديسا الإسلام

مصطلحات
مشكلة الشر: مشكلة الشر هي معضلةٌ تمّت صياغتها أوّل مرّة على يد أبيقور (341-270 ق.م)، وأعاد هيوم  (1711-1776م) إحياءها وتطوّرت على يد العديد من الفلاسفة. تَعرِض باختصارٍ التناقضَ الناتج عن رؤيتنا الاستقرائية للشرّ الموجود في العالم وبين استنباطنا لصفات الله. الصيغة الأكثر تبسيطًا للمعضلة – سنعرض صيغًا أكثر تعقيدًا مع التقدّم في المقال – تنصّ على التالي:

هل يريد الله أن يمنع الشرّ لكنه لا يستطيع؟ لو صحّ ذلك فلن يكون كلّي القدرة..
أم أنه يستطيع ولكنّه لا يريد؟ لو صحّ ذلك فلن يكون كلّي الخيرية..
أم أنه قادر ويريد في آن واحد؟ إذًا فمن أين يجيء الشر؟

الإسلام: ديانة إبراهيمية وسماوية، وهو ثاني الديانات في العالم من حيث عدد المعتنقين بعد المسيحية. تتمحور بشكل أساسي حول الإيمان بـ “الله” والتسليم التامّ لكلّ الأوامر الواردة على لسانه في الكتاب المنزل من عنده “القرآن” على رسوله “محمد” بالإضافة إلي الإيمان أنّ كلّ ما نطقه “محمد” هو بالضرورة وحي من “الله”.
*الله هنا اسم علم، وليس تدليلًا عن GOD.

الثيوديسا: هي كلمة أوّل من صاغها الفيلسوف غوتفريد لايبنتز (1646 – 1716)، وهي منحى لاهوتيّ مختصّ بالدّفاع عن العدالة الإلهية ضدّ معضلة الشرّ بشكل حصريّ، فهي باختصار (الدفاع عن عدل الله). وهي لا تكتفي بتوضيح أنّ فرضيات مشكلة الشر ليست قوية على المستوى المنطقي فقط، أي لا تلتزم بموقف دفاعي وحسب، لكنها تبادر وتوضّح أنّ أيّ افتراضات مستقبلية لا يمكنها أن تثبت أنّ وجود الله مهدّد بمعضلة الشرّ.

مشكلة الشر بين اللاهوت المسيحي والإسلامي

رغم ولادة مشكلة الشر في واقع وثنيّ، وهو الواقع اليوناني المؤمن بآلهة الأوليمب، إلا أنها تمتدّ للإيمان العام بكلّ تجلياته: اليهودية والمسيحية والإسلامية… الخ. لكن وعلى الرغم من هذا، فما يحرّك مشكلة الشر بشكل أساسي في العصر الحديث هو اللاهوت المسيحيّ. فلن تجد أيّ ردود تخرج عن إطار اللاهوت المسيحي، ولن تجد أيّ كاتب حديث يقتبس من كتبٍ غير مسيحية إلا نادرًا. فالمتكلّمون المسلمون قديمًا لم يتعرّضوا لـ مشكلة الشر بشكلٍ كافٍ – وسأفسّر هذا مع التقدّم بالمقال- بقدر اهتمامهم بقضية التسيير أم التخيير التي تعالج جزءًا بسيطًا جدًّا من معضلة الشرّ، وهو حرية الإرادة.

ولهذا السبب بالذات أرى أنّ المعالجة الحالية لـ مشكلة الشر من الجانب الإسلامي هي معالجة غير صحيحة تمامًا! حاوَلَ بعض الباحثين معالجتها من منظور إسلامي – مثل سامي العامري – فلم يخرج إلا باجترارٍ مثيرٍ للشفقة والغثيان لردود اللاهوتيين المسيحيين من أمثال ألفين بلانتينجا أو مارلين آدامز وإلى آخره من الثيوديسيين والفلاسفة المسيحيين.. فبعيدًا عن كون هؤلاء الفلاسفة بذلوا مجهودًا خرافيًّا في خلق ثيوديساتهم الخاصة، إلا أنّ شخصًا كسامي العامري -الذي يطلق على نفسه لقب “دارس الأديان المقارنة”- جُلّ ما قدّمه هو اقتباس مجهودهم بطريقة فجّة، وإقحامه بطريقة سمجة على الرؤية الإسلامية. بالتالي لا يمكن اعتباره إلا تدليسًا، لعدة أسباب:
1- إنّ النصوص التي تتعامل مع المشاكل والألم في المسيحية تختلف تمامًا عن تلك الموجودة في الإسلام
2- وصف الإله في المسيحية مختلف تمامًا عن وصف الله في الإسلام
3- العلاقة بين العبد والإله في المسيحية تختلف شكلًا وموضوعًا – على الرغم من بعض التشابه السطحيّ بالتأكيد – بين العلاقة بين العبد والله في الإسلام

إعلان

لن يتّسع المقام لذكر المنظور المسيحي، وخصوصًا أنه منتشر في العديد والعديد من الكتب، حتى في كتاب “مشكلة الشر ووجود الله” لسامي العامري، لذلك سأباشر بذكر الصّيغ المعاصرة لمشكلة الشرّ وتناولها من منظور إسلاميّ. حرصتُ خلال المقال على ألا أكتفي بدليل من القرآن فقط أو السنة فقط، بل عمدتُ إلى توفير الأدلة من كليهما قدر المستطاع.

حجة ماكي أو المشكلة المنطقية

حجة ماكي هي صياغة “منطقية” لمعضلة الشرّ كانت قد نُشرت في مقالٍ عام 1955، وقد تمّت صياغتها كالآتي:
“نمتلك عدة فرضيات
1) الله موجود
2) الله كلّي القدرة
3) لا توجد حدود لما يمكن أن يفعله كائن كلّي القدرة
4) الله كلّي الخيرية
5) الكائن كلّي الخيرية يقضي على الشرّ بقدر ما يستطيع
فنصل إلى نتيجة وهي
6) الشرّ غير موجود

لكن، بالطّبع، جميعنا ندرك أنّ الفرضية (6) هي فرضية منافية للواقع والاستقراء ولن يختلف على هذا مؤمن أو ملحد! وبما أنّ الفرضية (6) باطلة، فالفرضيات من (1) – (5) باطلة أيضًا، وإذا قبلتَ فقط بأول 5 فرضيات فأنت تبني اعتقادك على تناقض منطقي، وهذا مضرّ بالصحة!

وسيبدأ بعد صياغتها كفاحٌ مريرٌ من كلا الطرفين الملحد (ماكي) والمؤمن (بلانتينجا) عن حرية الإرادة و(محدودية القدرة المطلقة).. إلخ.
وكما قال صلى الله عليه وسلم “لو دخلوا جحر ضبّ خَرِب لدخلتموه”، فاتَّبَعَهم سامي العمري بهذا الدفاع، وإحقاقًا للحقّ فهو ذَكَر في بداية الفصل أنّ الله ليس محبة كما في المسيحية، وواللهِ لو ركّز على تلك الفكرة لكان “كفّى ووفّى”! لكن بما أنه دخل جحر الضبّ خلف “الفن بلانتينجا” فأنا لن أتبعه وسأوضح لما لا ينفع البرهان المنطقي لمشكلة الشرّ مع اللاهوت الإسلامي.

بالنسبة لأوّل افتراض فهو أساسيّ ويقوم كلّ شيء فوقه! وهكذا لا سبيل إلى دحضه.
أما ثاني وثالث افتراض فتوجد عليهما بضعة الرّدود من المؤمنين أنفسهم؛ أهمّها أنّ الله ليس بقادر على صنع المستحيلات العقلية، أو كما يسميها الأزهريّون المستحيلات السبعة، أهمّها التي ذُكرت في كلّ المجادلات (الجمع بين الضدّين)، على الرغم من أنّ هذا ليس إلا بدعًا وتقوّلاً على الله الذي قال: “بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ” (117) (البقرة)

فلم يخبر عن حدود قدرته بمستحيلات عقلية أو غيره، وكيف يستحيل أمر على من أبدع الكون من عدم؟

لكن نأتي لأهمّ فرضين وهما أساس الحجة: (4) و(5)!

في الواقع لم تقابلنا آية قرآنية واحدة، أو حديث واحد يدعم هذا الفرض رقم (4)! بل على العكس، يخبرنا الله بوضوح في آياته وعلي لسان نبيّه أنه يبغض ويكره ويمكر ويذلّ ويتجبّر ويتكبّر!

فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿١٠٦ النحل﴾
وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴿٩ النور﴾
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ﴿١٥ البقرة﴾
وَلَٰكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46 التوبة)
روى البخاري (3209) ومسلم (2637) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : (… وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَيَقُولُ: إِنِّي أُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضْهُ، قَالَ فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضُوهُ، قَالَ فَيُبْغِضُونَهُ، ثُمَّ تُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِي الْأَرْض).
وروى البخاري (4634) ومسلم (2760) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم قال: (لا أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنْ اللَّهِ …)
أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99 الأعراف )
وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26 ال عمران)
وتمتد وتمتدّ الأمثلة لكن لا يتّسع المقام!

أما في الفرضية رقم (5) رغم دحضها بشكل مبدئيّ لأنها نتيجة للفرضية (4)، إلا أنه لا مانع من إيراد الاعتراضات القرآنية عليها، فببساطة يخبرنا الله أنه سيسلّط الشرّ على عباده المخلصين والعاصين على حدّ سواء! فالمخلصين كاختبار لصبرهم وبلاء، والعاصين كعينة من العذاب! وقالها صريحة في الآيات التالية:

وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم (107 يونس)
مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11 التغابن)
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155 البقرة)
وَفِي ذَٰلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ﴿٤٩ البقرة)
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ﴿١٨٦ آل عمران﴾
وَفِي ذَٰلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ﴿١٤١ الأعراف﴾
كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴿١٦٣ الأعراف﴾

وبما أنّ الحجة المنطقية لماكي تعتمد في الأصل على أنّه من المستحيل الإيمان بكل الفرضيات الآتية:
1) الله موجود
2) الله كلي القدرة
3) الله كلي المعرفة
4) الله كلي الخيرية
5) الشرّ موجود

لأنك لو آمنت بالـ5 معًا فسيكون إيمانك متناقضًا لاعقلانيًا! إلا أنه في الإسلام يمكنك الإيمان بالآتي الذي سبق ذكره في القرآن:
1) الله موجود
2) الله كلي القدرة
3) الله كلي المعرفة
4) الشر موجود

دون الوقوع بأيّ شكل من أشكال التناقض؛ لأنّ الله لم يخبر عن نفسه أنّه كلي الخيرية أو كلّي الرحمة، بل إنّ الله قد أوضح في أكثر من موضع وآية بالقرآن أنّ رحمته فقط مختصة بمن يحب من عباده، أما من يبغضه فسيذيقه من العذاب أصناف وأنواع! وحتى فكرة العذاب تتعارض تعارضًا كلّيًّا وقويًّا مع فكرة كلّيّ الرحمة، ولذلك فالله مجرّد رحيم لا كلّي الرحمة!

قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ

فكما ترى هناك تخصيص!

وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴿١٠٥البقرة﴾
﴿إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ ﴿٥٤ الإسراء﴾
وَلَٰكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ ﴿٨الشورى﴾
لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ ﴿٢٥ الفتح﴾
يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴿٣١ الانسان﴾

 جحر الضب وحرية الإرادة

أظنّ أنّ التعديل الذي أدخلته على صياغة ماكي لمعضلة الشرّ والمعتمِد على النصوص القرآنية كافٍ ليدفعها بعيدًا عن المعتقد الإسلامي المؤمن بالأصل أنّ الله ليس كلّي الخيرية!
لكن بدلًا من أن يقولها سامي العامري، بدون مداهنة لمشاعر القارئين، دخل جحر الضبّ خلف بلانتجينا فقال:

“التصور الإسلامي لوجود الشرّ في عالم الناس ليس مجانيًا، وإنّما وهب الله الناس حرية الإرادة لأنه سبحانه يريد أن يختبرهم على هذه الأرض”

مشكلة الشر ووجود الله صـــ113ــ

في الواقع، هنا انزلق دون أن يدري إلى مشكلة عويصة جدًّا، لسببين:

أولهما: أنّه وحتى اللحظة التي يُكتب فيها المقال، لم يخرج رأيٌ مدعّمٌ بأدلة كافية من القرآن والسنة حول ما إذا كان الإنسان مخيّرًا أم مسيّرًا. وطوال تاريخ الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام امتدّت النزاعات بين الفِرق مثل القدرية والجهمية والأشاعرة والمعتزلة، وكلّ الفرق لم تدلّل على موقفها سوى بالتأويل، فيأتي سامي العامري بحلٍّ لتلك المشكلة بكلّ بساطة!

في الواقع أنا على المستوى الشخصي لا أؤمن أنّ الله خلق للإنسان حرية إرادة، وإليكم الأسباب…

  • في موطئ مالك، وسنن أبي داوود والنسائي، وغيره عن مسلم بن يَسَار، وفي لفظ عن نعيم بن ربيعة، أنّ عمر بن الخطاب سُئل عن هذه الآية‏:‏ {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِم …}(‏الأعراف‏:‏ 172‏) فقال عمر‏:‏ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي لفظ‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “إنّ الله خلق آدم، ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية، فقال‏:‏ خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثمّ مسح ظهره فاستخرج منه ذرية، فقال‏:‏ خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون‏‏، فقال رجل‏:‏ يا رسول الله، ففيم العمل‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏‏إنّ الله إذا خلق الرجل للجنة، استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة، فيدخله به الجنة، وإذا خلق الرجل للنار، استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار، فيدخله به النار‏”‏‏‏.‏
  •  وفي حديث الحَكَم بن سفيان، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “إنّ الله قبض قبضة فقال‏:‏ إلى الجنة برحمتي، وقبض قبضة فقال‏:‏ إلى النار ولا أبالي‏”‏‏‏.
  • {فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ﴿٤ابراهيم﴾
    {وَلَٰكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} ﴿٩٣النحل﴾
    {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} ﴿١٠٥البقرة﴾
    {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاء} ﴿٢٧٢البقرة﴾
    والمفضلة لديّ: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} (الأسراء 16) والتي بكلا المعنيين المختلف عليهما سواء: [أمر] من يأمر،أو [أمَّرْنا] من تأمير/أمير، أي جعلناهم أمراء، فلن تفرق فعلًا بالمعنى.

ثانيهما: أنّ الردود اللاهوتية المسيحية نفسها لم تستطع الهروب من مشكلة الشرّ المجانيّ عن طريق حرية الإرادة إلا عن طريق القدرية أو “محدودية العلم الإلهي”، فيقول دانيال سبايك في كتابه “مشكلة الشرّ”

“يتّسق وجود بعض الشرور المجانية مع وجود الله، وهذا لأنّ وقوع هذه الشرور قد يكون عائدًا إلى شكل من أشكال عدم المعرفة من جانب الله”

وهذا ما قالته القدرية التي أسسها معبد البصري، فهم مؤمنون أنّ الله منع عن نفسه معرفة تصرّفات العباد ليمنح كلًّا منهم حرية الاختيار، وهذا فيما معناه، أنه أنا فقط، ولا أحد آخر حتى الله يعلم ما ستكون الكلمة التالية التي سأكتبها الآن!
لكن بالطبع سيخرج صديقي السلفي العامري قائلًا: “معرفةُ إحاطة لا تقرير”. لكن دائمًا ما يغفل عقلهم عن إدراك أنّ الكائن المطلق إحاطته تقرير، فهل يمكن أن يكون في علم الله، “ككائن كلّيّ القدرة مطلق القوة “، أنك ستدخل إلى الشارع الأيسر ثم تدخل أنت إلى الشارع الأيمن؟ هل يمكنك مخالفة معرفته؟ طبعًا هذا بعكس التشبيه الوضيع القائل بأنّ الأب الذي يعطي ابنه المبذّر المال ليس بمجرم لأنه لا يد له في إسراف الابن أو ليس الأب سبب التبذير، لكنّ إعطاء المال لمبذر هو جريمة، بيع السلاح لإرهابيّ هو أيضًا جريمة، أضف إلى ذلك أنّ الابن قد لا يسرف في المال، فالأب لا يمارس عليه بمعرفته المحدودة أيّ ضغط، لكنّ الإله لن يسمح لك بأن تخالف علمه.

مجانية الشرّ من منظور إسلامي

الشرّ المجاني هو افتراضٌ ابتكره رو يقول أنّ كمية الشرّ الموجودة في الأرض أكثر من اللازمة – لو افترضنا وجود حرية الإرادة – فحرية الإرادة لن تسبب المعاناة الناتجة عن الكوارث الطبيعية مثلًا!
ويوجد تعريف أكثر شمولًا: “الشرّ المجاني هو الشرّ الذي كان بإمكان الله منعه دون تكلفة أخلاقية (منع خير أكبر) أو التسبب بشرّ أعظم”.
ورغم الاختلاف الطفيف بين التعريفين إلا أنّ هذا الاختلاف الطفيف يسمح باختلاف شاسع في الردود على المعضلة! فبعض اللاهوتيين المسيحيين بالخصوص، كما أسلفت سابقًا، لجأوا إلى القدرية أو بتعريفهم “الإيمان المفتوح”، بينما لجأ الآخر -وهذا سيكون محور حديثنا- إلى عدة ردود تقوم بشكل حصري على تتفيه المصائب والشرور التي تحدث للبشرية، فمثلًا يخبروننا بأنّ السائد للأرض هو الثبات بينما الزلازل هي حادث عرضي، والسائد هو الصحة السليمة بينما الحادث هو المرض، السائد هو الخير بينما الحادث هو الشر! ثم يبدأون منهجًا تجريديًا لإزالة وجود الشر من أساسه فيتابعون “هل يمكنك أن تتخيل عالمًا كاملًا مكوّنًا من الشرّ حصريًا؟ بالطبع لا، لأنّ الشرّ ليس سوى غياب الخير كالظلّ ليس له وجود حصري لكنه مجرد غياب للضوء! الخير هو قانون الكون المستقرّ في كلّ النُّسُق، والشرّ دائمًا هو النشوز والاضطراب فالمرض هو الخروج عن العافية التي هي الأصل”

في الواقع النقد الأول الموجّه لهذا الدفاع هو ردّ عاطفيّ بعيد عن التجريدات الفلسفية والمنطق، يتكلّم عن مصطلحات مجردة مهتزّة التعريف مثل قيمة الإنسان وقيمة الروح المفردة.. إلخ. مثلًا:  أتحداك أن تذهب إلى شخص يحتضر بسبب الجوع – هناك 21 ألف شخص يموت من الجوع يوميًا- وتخبره أنّ موته ومعاناته وعذاباته مجرّد نقطة سوداء في ورقة بيضاء. أخبر شخصًا يتلوى ابنه الوليد أمامه من الألم والمرض أنّ الأصل هو الحياة لكنّ موت ابنه حادث عرضي في الكون. أخبر شخصًا فقد أحد أحبائه بالسرطان وكنتيجة تدمّرت حياته تمامًا – كم عدد الأمثلة التي يعرفها كلّ شخص منا تطابق هذا النموذج ؛أنّ معاناته مجرد خطّ أسود لتوضيح الأبيض لباقي البشر، هيا اذهب وأخبر كل شخص تعرّض لزلزال وفقد أحباءه وممتلكاته بسبب أنّ الأصل هو ثبات الأرض وليس الزلزال. أخبر كلّ شخص تمزّق أشلاءً في إعصار أو أكلت جثته الأسماك في فيضان أنّ الأصل هو الجوّ العليل وأنه فقط مثال توضيحي للشر! أخبر كلّ هؤلاء أنّ “الشرّ وكأنه اللبنة المحورية لقيام البناء، والتي مهما بدا فيها من العطب، فستظلّ شاهدة على أنّ هذا النقص يفسح للكمال من جهة مناظرة”.

بينما النقد الثاني الموجه هو محاولة شرح أنه يوجد بالفعل شرّ مجسّد وليس غيابًا للخير.

أما من وجهة نظر إسلامية بحتة! فمعضلة الشرّ المجانية لا تمثّل مشكلة لنا من الأساس! فلا أظنّ أنّ هناك شرًّا مجانيًّا وأكثر وفرة وتجسيدًا من الجحيم أو النار! فطبقًا لكلّ التعريفات الموضوعة لشرح الشرّ المجاني تنطبق عليها!
فمثلًا، أن يحاسب الله إنسانًا، قُوّته لا تُذكر، على معصيته المحدودةِ زمانيًا -التي قد تكون أنّه لم يدرك وجوده لا غير- بأبشع الطرق والأدوات إلى الأبد! ماذا سيكون شعور شخص في الجحيم لأول ألف عام؟ ثم الألف الثاني؟ والمليار الأول؟ والمليار الثاني؟ والثالث والرابع؟ ماذا سيكون شعوره وهو يُعذَّب بلا نهاية وبلا أمل لمجرّد أنه وُلد للأبوين الخاطئين؟
{خُذُوهُ فَغُلُّوهُ . ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ . ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ . إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ . وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ . فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ . وَلا طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ . لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِؤُونَ} [الحاقة:30-37]
{لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ . لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِن جُوعٍ} [الغاشية:6-7].
{ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ . لآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ . فَمَالِؤُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ . فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ . فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ . هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} [الواقعة:51-56].
{إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا . وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} [المزمل:12-13].
قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:71-72].
{فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} [الحج:19].
إِنا أَعْتَدْنَا لِلظالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:29].
{إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا . لِلطَّاغِينَ مَآبًا . لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا . لّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا . إِلاَّ حَمِيمًا وَغَسَّاقًا . جَزَاء وِفَاقًا} [النبأ:21-26].
يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48 القمر)

وهذا ليس سوى غيض من فيض! فما تزال هناك الأحاديث والعذابات الموصوفة بدقة لكلّ معصية!
هذا أبسط إثبات لفكرة أنّ الشرّ قائم بذاته، وليس مجرّد غياب للخير وليس كما قالوا أنه من المستحيل تخيل عالم مصنوع من الشرّ والعذاب فقط! فالله قد صنعه فعلًا!
والآن هل تظنّ فعلًا أنّ مجّانية الشرّ قد تمثّل معضلة على وجود خالق الجحيم؟ فقد قال بنفسه في قرآنه على لسان نبيه أنه هو خالق الشرّ، وخالق أفظع صوره وهو الجحيم! فكيف يمكنك أن تحتجّ على وجوده بشيء هو خلقه! فكأنّك تحاول أن تسحب اعترافًا من شخص هو اعترف بالفعل عدة مرات! ولله المثل الأعلى.

مشكلة الشر وثيوديسا الإسلام

كما شرحت سابقًا، إنّ الثيوديسا هي الهجوم المضادّ لمعضلة الشرّ، هي توضيح أنّ مشكلة الشر لا تمثل تهديدًا للإيمان، ولا تسبب تناقضًا في الإيمان بوجود الشرّ ووجود الإله في آن، ورغم وجود الآلاف المؤلفة من شيوخ الإسلام والسلفية وأهل السنة والجماعة إلخ، لم يحاول أحد منهم قط أن يصوغ ثيوديسا صحيحة تمثل الإسلام قائمة على القرآن والأحاديث، وكما في العديد من القضايا، مثل التطوّر، لم يفعلوا إلا الولوج خلف اللاهوتيين المسيحيين بداخل جحر الضب، بينما يوفر القرآن والإسلام مادة دسمة للدفاع عن نفسه بجرأة.

فكما أوضحت أنّ المعضلة تقوم بشكل خاصّ جدًّا على افتراض أنّ المؤمنين يعتقدون أنّ الإله كلّيّ الرحمة، وهنا بالذات تكمن المعضلة! فوجود الشرّ لا يتعارض مع وجود الله كلّيّ القدرة، لكن يتعارض مع وجود الله كلّيّ الرحمة. وكما شرحت، الله في الإسلام لا يخبر عن نفسه أنه كلّيّ الرحمة! بل هو رحمته حصرية لعباده المخلصين! لكن حتى في الدنيا سيبتليهم بالمصائب والشدائد وعليهم أن يشكروه كأيوب، أو يجبرهم على فعل الشرّ ويكون واجبهم السمع والطاعة كإبراهيم، أو رؤية الشرّ دون السؤال عن السبب كموسى مع الخضر (سيكون لنا معًا مقال آخر). وهنا تنهار معضلة الشرّ على نفسها. لكن استكمالًا لمشروع الثيوديسا تطرّقت لحرية الإرادة والشرّ المجاني رغم أنهم مبنيين على الصورة الأولية لمعضلة الشر، فأوضحت أنّ الإسلام في الواقع لا يعتمد على حرية الإرادة! وأوضحت التناقض الصارخ في إيمان أهل السنة والجماعة بالمعرفة الإلهية وكيف أنها معرفة إحاطة لا تقرير! ووضّحت أيضًا أنّ الشرّ المجاني لا يمثل معضلة في الإسلام لأنّ الله خلق أقوى صوره وأكثرها تجسيدًا.

وهكذا تدور الثيوديسا الإسلامية حول التالي:

1- الله ليس كلّيّ الرحمة ولا الخيرية
2- الله هو الذي خلق الشرّ وسلّطه على مخلوقاته.
3- لا يوجد في الإسلام ما يسمّى بالشرّ المجاني، لأنّ الله الذي خلقه ولست مطالبًا بالبحث خلف الأسباب.. مجرّد التأمين والحمد.

 

إعلان

اترك تعليقا