الإنسان بداخل رموز الشر في التاريخ
“إذا كنت لا ترى إلّا ما يظهره النور، ولا تسمع إلا ما تعلنه الأصوات فأنت بالحقيقة لا ترى ولا تسمع.”
جبران خليل جبران
سواء اتفقنا مع الجملة السابقة أم اختلفنا معها، فإن هذا المقال يحاول اكتشاف الوجه الآخر لطغاة سطروا أسماءهم بالدم في صفحات التاريخ.
لندخل معًا في رحلة إلى أعماق بعض أشهر الشخصيات التي ارتبط اسمها بالديكتاتورية والعنف، فثم وجه آخر ينعكس في مرآة شديدة الذاتية والخصوصية، حيث لا يراها الآخرون.
(1) نابليون حين يتيّم في الحب يغزو العالم
شخصية نابليون بونابرت القائد الفرنسي الشهير لم تشغل بال المؤرخين فحسب، بل شغلت كذلك علماء النفس والاجتماع؛ حيث يراه الجميع شخصية غريبة ومحيّرة ومليئة بالغموض المثير للجدل!
صعد نابليون إلى السلطة في المرحلة الأخيرة من الثورة الفرنسية؛ ليصبح إمبراطورًا لفرنسا عام 1804م، وقام بتنفيذ العديد من الإصلاحات الليبرالية في أوروبا مثل إلغاء الإقطاع والقضاء على سطوة رجال الدين، وعلى جانب آخر، تمكن القائد العسكري الفذّ من اجتياح معظم أنحاء القارة الأوروبية، ليحكم ما يزيد عن 70 مليون نسمة، ومساحة تقدر بحوالي 1,1 مليون كيلومتر مربع، ويصبح لفرنسا اليد الطولى في الشؤون الخاصة بجميع الدول الأوروبية تقريباً، ليعيد لفرنسا المجد والقوة.
لكن من منا يعرف الوجه الآخر من شخصية بونابرت، ذلك الجانب العاطفي والوجداني الذي ملأ حياتهُ، بعيدًا عن ميادين القتال؟
من يقرأ القصص والحروب الشرسة التي قادها، وصراعاته العسكرية/السياسية، لا يخطر بباله أنه كان واحدًا من أعظم عشّاق الدنيا، وأنبل فرسان الحب الذين سطروا أجمل رسائل الحب إلى حبيبته “جوزفين”،
نعم، كان الإمبراطور عاشقًا محبًا! الإمبراطور الذي كان من السهل عليه تحطيم أعظم حصون أوروبا، فشل في تحطيم حصون قلب “جوزفين”.
تزوج نابليون من جوزفين لمدة 14 عامًا كان فيها كثير السفر، اندفاعًا خلف طموحه في غزو العالم، فكان يعبّر لزوجته عن مشاعره في خطابات، عندما نقرؤها نعلم كم أحب الإمبرواطور العظيم بصدق حقيقي.
يقول نابليون في إحدى رسائله:
لا يمرّ يوم دون أن أحبك، ولا تمضي ليلة دون أن أضمك بين ذراعي، لا أتناول كأس شاي دون أن ألعن المجد والطموح اللذين يبعدانني عن روح حياتي، في وسط أعمالي، وعلى رأس جيشي، وبينما أتجول بين خيام العسكر، تسكن معبودتي جوزفين وحدها قلبي وتشغل أفكاري وعقلي، إذا ابتعدت عنك بسرعة نهر الرون؛ فلأنني أرغب أن أعود إليك في أسرع وقت، وإذا استيقظت في وسط الليل وانكببت على العمل، فلكي أرقب موعد لقياك.
ومن نابليون العاشق إلى نابليون المثقف، يتضح جانب آخر من شخصية القائد الذي انتصر في كل معاركه وغزواته، والذي لم يهزم إلا في معركة دخوله إلى الامبراطورية الروسية، والذي قضى في عصره الملايين، كان له وجه آخر حالم، وجه المثقف الذي يعشق الكتب والثقافة واللوحات، فكان راغبًا في ترسيخ مجد فرنسا وعظمتها عن طريق الفن، كان يأمل أن يجعله الفنانون حيًا في ذاكرة البشر.
كان نابليون يدفع بسخاء؛ لأنّه كان يتطلع إلى الخلود عَبْر الزمن، ويطمح في لفت الأنظار لإنجازاته بالتقرب إلى أهل الأدب والفن، ومن ثم كان له دور بارز في إعلاء شأن فنون المسرح، فقام ببناء الكثير من المسارح، وعمل على تشجيع الفنانين المسرحيين بتقديم مسرحيتاهم على نفقة الدولة، كان فنانًا مرهف الحس يحب الألوان والرسم، ويؤمن أن للفن واللوحات دورًا كبيرًا في تشكيل الوعي.
(2) غزو العالم بريشة الفنان (هتلر)
كان هتلر -بلا شك- أكثر من ذلك المجنون الذي تصوره كتب التاريخ وصفحات الدعاية، كان هتلر حتى الخامسة والعشرين من عمرة خاملًا، لا يتمتع بأي إحساس بالنجاح أو الطموح، راضيًا بالعيش وسط القاذورات والأوحال، ولم يكن يعمل إلا عندما يكون مضطرًا إلى ذلك، وإن عمل فيكون ذلك بشكل عفوي متقطع، حيث كان يقضي معظم وقته في أحلامه الرومانسية في أن يصير فنانًا عظيمًا، وبرغم كل ذلك فإن هذا الشخص عديم الأهمية والكفاءة في الظاهر، استطاع، وفي غضون بضع سنوات، أن يشق طريقه إلى أعلى المناصب السياسية، ويزيح عن طريقه زعماء القوى السياسية الكبرى المخضرمين. (من كتاب الوجه الآخر لأدولف هتلر لفريد الفالوجي)
ويطرح السؤال الإشكالي نفسه، من هو هتلر؟ هل هو ذلك الديكتاتور المستبد الحالم بغزو العالم والسيطرة؟ أم ذلك الرسام العاشق للفنون؟
كان حلمه أن يصبح رسامًا، ولكن تم رفض قبوله مرتين في أكاديمية الفنون الجميلة في فيينا، حيث أخبروه في المرتين أنه غير مناسب لهذا المجال، لكن ذلك لم يبدد عشقه للرسم واللوحات الفنية، بل وفوق ذلك أخذ دروسًا في الغناء، وغنى في كورال الكنيسة.
كان لدى هتلر ذلك الوجه الآخر الذي لم يره إلا بعض المقربين، وجه طفولي يحب الحلوى حبًا كبيرًا، وهو ما تسبب في إصابته باضطراب في الجهاز الهضمي، ولحبه الشديد للحيوانات أصبح شخصًا نباتيًا، فكان يأمر الطباخين بعدم إدخال لحوم أو زيوت إلى طعامه. وفي لحظات يأسه الأخيرة بعدما أطبقت عليه جيوش الحلفاء من كل جانب، اختار حبيبته وكلبه ليرحلا معه.
الطاغية الأعظم على مر التاريخ كان مصابًا بالأرق، ينجز كل أعماله في الليل، وينام فقط من الفجر حتى الحادية عشر صباحًا، ولم يكن يستطيع النوم سوى بعزف فرقته الخاصة له.
كما روي عن الزعيم النازي المتطرف أنه كان يعطي الحق لجنوده المسلمين في إقامة صلواتهم في أي وقت وأي مكان.
وفي يناير 1938م اختارت مجلة التايمز “أشر المخلوقات على الأرض” واحدًا من أكثر الشخصيات المؤثرة في العالم بعد ضمه تشيكوسلوفاكيا دون دماء.
كان هتلر صاحب الشخصية الساحقة، التي أرهبت العالم وأرهقته، والذي كانت خطبه في الميادين العامة ببرلين تشعل حماسة الجماهير، يشعر بالخوف الدائم من الموت ومن المجهول، كان يصرخ دائمًا عند الحلاقة، ويقوم بحلق ذقنه بمفرده، لخوفه من إمساك الحلاق بشفرة حادة بالقرب من رقبته.
(3) شلالات الدماء على أنغام الموسيقى وأبيات شعر (ستالين)
لا يختلف الكثيرون على توصيف “جوزيف ستالين”، والذي أكمل مسيرة هتلر في القتل والتعذيب، فمن ينكر ما فعله ستالين من مجازر دموية أودت بحياة الملايين من الشعب السوفييتي والشعوب الأخرى؟
لكن وجهًا آخر شديد التباين مع شخصية السفاح الدموي لم يلحظه المؤرخون، فستالين كان يمتلك موهبة لم يفارقها حتى مع صعوده إلى سدة الحكم في الإمبراطورية الروسية العظمى، ألا وهي كتابة “الشعر”.
كان ستالين شاعرًا مرهف الحس، كتب مئات القصائد بأسلوب مرهف، وهي قصائد جمعت في كتاب وترجمت لعدة لغات بعده موته، ومن فرط حبه للشعر كان يكتب كلمات بعض الأغاني، سيناريوهات الأفلام التي كان يصرّ أن تعرض عليه قبل عرضها في السينمات، والتي تبين من خلالها وجهًا آخر للديكتاتور “الملحد”، حيث كان يرفض مشاهد التعرّي، حتى إنه عندما شاهد قبلة ساخنة في فيلم فرنسي غضب بشدة، وأمر رجاله بحذف المشهد قبل عرض الفيلم.
ومن ستالين الشاعر المحب للسينما إلى ستالين العاشق لموسيقى موتسارت، والتي أكّدها مشهد موته، حيث وُجد على قرص الجرامافون المجاور لسريره أسطوانة لموسيقى موتسارت من عزف الفنانة السوفييتية المتدينة “ماريا يودينا”، والتي كان لها قصة غريبة معه؛ فيروى أن ستالين عندما سمع عزف يودينا لكونشرتو موتسارت، من الراديو، طلب أسطوانة المقطوعة، وبالطبع لم يجرؤ أحد على إخباره بأن ذلك كان أداءً مباشرًا لم يسجل، فكان الحل أن طُلب من يودينا الحضور على الفور إلى الاستوديو، حيث أمضت ليلة من العمل المكثف مع الأوركسترا لتسجيل عزفها الذي نقل إلى ستالين على أسطوانة.
وعندما تسلم ستالين الأسطوانة كافأها بمبلغ كبير من المال، فشكرته برسالة قالت فيها إنها تبرعت بالنقود لكنيستها، وأضافت أنها ستدعو الله أن يغفر لستالين خطاياه الكبرى، ولا شك في أن رسالة كهذه كانت كفيلة بأن تكتب نهاية “ماريا”، بيد أن المفاجاة كانت عدم تعرضها للأذى، ويبدو أن عزفها كان شفيعًا لها عند الديكتاتور.
كل هذه الصور من نماذج لأوجه أخرى لطغاة حفروا أسماءهم في وجدان الشعوب بأنماط مختلفة من صنوف القهر والاستبداد، لكنهم كانوا كسائر البشر، ولكنهم أيضًا مثلهم يمتلكون أوجهًا أخرى لم يرها أحد، أو فقط رآها المقربون جدًا.
المصادر: قاموس عاشق لنابليون_تأليف: جان تولار الوجه الآخر لأدولف هتلر_فريد الفالوجي _حسن حمدي