جدلية العلاقة بين ألوهية الحاكم وعبودية المحكوم

ما من مستبد سياسي إلا ويتخذ صفة قدسية يشارك بها الله، أو تعطيه مقامًا ذا علاقة بالله ” عبدالرحمن الكواكبي

منذ فجر الحضارة الإنسانية، وبعد أن تعلم الإنسان كيف يشبع حاجاته الأساسية لاستمرار الحياة، بدأ في رحلة البحث عما هو أكثر عمقًا، ويمنح حياته معنى، فمضى يصنع آلهته، ويُكون أفكارًا يتبناها ويؤمن بها، ويضع نظامًا لتقييم السلوك البشري، يقوم على ثنائية الثواب/ العقاب. ومع الوقت، ظهرت نظرية ” التفويض الإلهي” كواحدة من أقدم النظريات التي فسرت نشأة “الدولة” والحُكم.

وتنقسم هذه النظرية إلى عدة صور:

(1) تأليه الحاكم

سادت هذه النظرية في العصور الأولى، عندما كان الإنسان الأول يعتمد على القوى الخفية؛ طلبًا للعون وسعيًا للأمن والطمأنينة، في مجتمع يعتمد على الأساطير والماورائيات، فاختلطت السلطة السياسية بالدين والعقائد، مما أضفى عليها قداسة، فأصبح الحاكم والزعيم إلها يجب أن يُطاع، وعلى الرعية الخضوع له، وتقديم القرابين له، وهذا ما كان سائدًا عند الرومان وموجودًا كذلك في اليونان واليابان والهند ومصر.

في مصر الفرعونية، كان الحاكم إلهًا لا يجب طاعته فحسب، بل أيضا تقدم القرابين له، حيث ظهرت عبادة الفرعون، وهو ما جعل فكرة الملكية الإلهية متأصلة في الوجدان المصري، حيث وظفتها الأسر الأولى لدعم حكمها.

كان الملك في مصر القديمة إلهًا منذ بداية النظام الملكي فيها، ولم تكن الألوهية رمزية أو مجازية، تشير فقط إلى سلطته المطلقة ومكانته السامية، بل كانت تعبّر

إعلان

حرفيًا عن عقيدة دينية، وهي عقيدة تطوّرت على مرّ السنين، لكنها لم تفقد شيئًا من قدرتها وتأثيرها.

ولمّا كان أحد الفراعنة يعتلي العرش، كان على الناس أن يبتهجوا؛ لأن أحد الأرباب نصب فرعونًا على كل البلاد، إذ سوف ترتفع المياه في النيل، ولا يهبط منسوبها، ويرافق اسم الملك شارات ترمز إلى “الحياة والصحة والقوة”، وحتى بعد الوفاة يبقى الفرعون يحنو على مصر ويعطف عليها، وبالتالي يُخلّد ذكره ويبقى حيًّا إلى الأبد.

كان الملك المستبد في مصر يتصف ببعض السمات:

– شخصية إلهية مقدسة وبالتالي، فهو أقدس من أن يخاطبه أحد مباشرة، فقط من الممكن أن يتكلم أحدهم في حضرته.

– هذه الشخصية الإلهية، تتمتع بعلم إلهي، ولا تخفى عليه خافية: “إن جلالته عليم بكل شيء بما حدث وبما يقع، وليس هناك في هذه الدنيا شيء لا يعلمه، إنه “توت” إله الحكمة في كل شيء، وما من معرفة إلا وقد أحاط بها”.

– كل ما يتفوه به صاحب الجلالة “الملك” يجب أن يُنفذ، بل لابدّ أن يتحقق فورًا، لأن مشيئة الملك وإرادته هي القانون.

– هذه القداسة المطلقة لشخص الملك، أفنت الحاجة إلى وجود قانون مكتوب، أي نصوص قانونية مكتوبة ومفصلة، إذ لم تكن هناك حاجة إليها ما دامت كلها متمثلة في شخص الإله الملك.

– القضاة يحكمون حسب العادات والتقاليد المحلية التي يرون أنها توافق الإرادة الملكية.

– الملك هو همزة الوصل الوحيدة بين الناس والآلهة، فهو الكاهن الأكبر، وهو الذي يعيّن  الكهنة لمساعدته، وهو وحده القادر على تفسير ما تريده (ماعت) إلهة العدالة.

(2) الميلاد المقدس

هنا يطرح السؤال نفسه، هل تفرد يسوع المسيح بالميلاد المقدس وحده، أم سبقه في ذلك آخرون؟

عندما ننظر إلى الإسكندر الأكبر، نكون انتقلنا من نطاق الأسطورة إلى حيث شخصية تاريخية حقيقية، ومع ذلك، وبحسب الأسطورة، حملت أوليمبياس فيه عندما جاءها زيوس، في شكل رعد من السماء، وصدمها، وذلك قبل أن تتزوج مباشرة من فيليب المقدوني.

وعندما دخل الإسكندر مصر، وحمل لقب ابن الإله آمون في قدس الأقداس، تم إضفاء تعديل على الأسطورة، ليصبح الأب هو الإله آمون، فنصبه الكهنة فرعونًا وابنًا لرب الأرباب، وألبسوه تاجه على شكل رأس كبش ذو قرنين، كعلامة على الخلود.

ويرى ديورانت أن الإسكندر لو كان تخلى عن فكرة أنه “ابن الإله آمون” لكان من المحتمل أن يغضب المصريون لخروجه هذا الخروج العنيف عن السوابق المقررة عندهم، واعتقد المصريون أنه من نسل الآلهة .

وشيئًا فشيئًا بدأ الإسكندر يعتقد أنه إله حقًا وبأكثر من المعنى المجازي لهذا اللفظ، ومنذ ربيع عام 327 ق.م بدأت سياسته الخاصة بالمزج وإدماج العناصر المقدونية بالفارسية تأخذ منحى جديدًا، عندما أزمع على اقتباس عادة فارسية هي السجود التي كان يتعين بمقتضاها على جميع من يقتربون من الملك أن يؤدوها، غير أن هذا الأمر كان يعني في نظر اليونانيين والمقدونيين عبادة حقة للإمبراطور، وهو أمر لم يألفوه من قبل، وذلك لا يعني سوى شيء واحد هو أنه أراد تأليه نفسه، وهو أمر لم يفكر فيه إلا في الشرق، موطن تأليه الحكام، ولهذا كانت آسيا هي الأصل والمنبع للاستبداد في كل الفلسفة السياسية في أوربا، وكان الطغيان الشرقي هو النموذج الذي تحدث عنه المفكرون في عصر التنوير .

(3) الطاعة البابلية

كانت السلطة السياسية في بلاد النهرين تستند باستمرار إلى مصدر إلهي، حيث هبط النظام الملكي من السماء، والملك هو “حاكم المدينة”، وهو “الكاهن الأعظم”، وهو نائب الآلهة ومندوبها الأسمى.

ويفاخر الملوك بالأصل الملكي الذي ينتسبون إليه، لكنهم مع ذلك لا يفتؤون في الوقت ذاته يذكرون الناس باختيار الآلهة لهم، وإذا ما اختار ابنا ليتولى الحكم بعده، حرص على أن يعرض هذا الاختيار على الآلهة لتقره.

وبعد المصادقة على الاختيار يقسم الابن يمين الولاء والخضوع والاحترام لأبيه، ويدخل “المختار” إلى بيت الوراثة، حيث يدرب على مهام منصبه المقبل، وفي يوم ارتقائه للعرش تجرى الاحتفالات الدينية، ويمنح أثناءها الابن المختار اسمًا ملكيًا، ويقلد الشعارات التي ترمز إلى السلطة الإلهية، ولم يكن ملك بابل من الوجهة القانونية إلا وكيلا لإله المدينة، ومن أجل هذا كانت الضرائب تفرض باسم الإله .

وكان الملك أثناء تتويجه يقام له حفل كبير تخلع عليه الكهنة سلطته الملكية، ويأخذ بيد “بعل” ويخترق شوارع المدينة في موكب مهيب، ممسكًا بصورة “مردوخ”، وكان الملك في هذه الاحتفالات يرتدي زي الكاهن، رمزًا لاتحاد الدين والدولة، ولعله كان أيضًا يرمز إلى الأصل الكهنوتي للسلطة الملكية، وكانت الفضيلة الكبرى لبلاد النهرين عمومًا، وبابل بصفة خاصة، هي الطاعة التامة، فالدولة تقوم أساسًا على الطاعة والخضوع للسلطة.

وعلى كل، كان دور الملك الرسمي هو صفته كممثل الآلهة على الأرض، حيث منحته السلطة لكي يتصرف نيابة عنها، وهي تتوقع منه أن يعامل الناس بالعدل، حيث يدافع عن الضعيف، ويكون نصيرًا لليتامى والأرامل، وقد كان يوجه الاعتبارات الأخلاقية لما تجلبه من رضا الآلهة وبركاتها وما يمنع لعناتها.

(4) اليونان والطغيان الشرقي

وقعت المدن اليونانية -لما يقرب من قرن ونصف القرن- تحت سيطرة الطغاة، فيما يسمى عادةً بعصر طغاة الإغريق، بدايةً من طاغية كورنثه، وانتهاءً بطاغية أثينا وأبنائه، لكن لم يحدث أن طلب أحد الطغاة من الشعب أن يسجد له عندما يمثل بين يديه.

وعلى الرغم من أن المدن اليونانية تقلبت عليها الأنظمة، وعرفت بالنظام الملكي، لكنه لم يكن بقسوة النظام الشرقي، وتبعًا لذلك فمن الصواب أن نقول إن المدينة اليونانية كانت جمهورية الطابع في مقابل النظام الملكي في الشرق، ولهذا فإنه يقال عادة إنه بعد غزو الإسكندر للشرق انهزمت المدينة اليونانية الجمهورية وانتصر النظام الملكي، فقد قامت دولة مترامية الأطراف كثيرة السكان على أنقاض مقاطعات صغيرة، وانتقل مركز الثقل في العالم اليوناني نحو الشرق، وأصبح تطور النظام اليوناني أمرًا محتومًا، لكن في أي اتجاه سار هذا التطور؟

ظل الرجل اليوناني يخضع للقانون الذي صنعه البشر، ولم يخطر بباله أن يكون الحاكم إلهًا، أو أنه يمثل الإله على الارض، ففكرة “تأليه الملك أو الإمبراطور” صناعة شرقية محلية بامتياز، ولهذا شهد الشرق أسوأ أنواع الطغيان.

نقل الإسكندر فكرة “التاج” من فارس حتى أصبحت مرادفة للملك، وكذلك لفظة العرش، واستخدمه خلفاؤه من بعده، والمقصود بالتاج : “عصبة بيضاء، وأحيانًا يضاف اللون الأرجواني، تحيط بالرأس وتجمع الشعر، وتعقد إلى الوراء.

أصبح الملك في المرحلة الهلينستية، غير مقيد، فهو المشرع الوحيد للبلاد، وهو القائد الأعلى للجيش، يعلم كل شيء ويصدر أوامره في شتى الموضوعات، ويوجه الكتب الدورية إلى الموظفين، ويجيب عن أسئلتهم، وهو أعلى سلطة قضائية.

بعد غزو الإسكندر لفارس أطلق على نفسه لقب “سيد آسيا”، وكانت تعني “الإمبراطورية الفارسية”، وكان قبل ذلك قد أطلق على نفسه “ليث فارس الهصور”، ثم تسمى باسم الملك، وهو لقب لم يستعمله إطلاقًا على العملة التي سكها في مقدونيا، وقد أخذت هذه الألقاب في الظهور على بعض العملات الآسيوية التي كان يصدرها.

وبدأ الإسكندر يأخذ بعادات الشرق وثيابهم، ويتزوج منهم، إلى أن وصل إلى أعلى عادة، وهي “تأليه الحاكم”، فأراد أن يعترف به الشعب الآسيوي – بل واليوناني أيضًا- ابنا ” لزيوس – آمون” .

(5) الإمبراطورية الرومانية والملكية المطلقة

في روما كان النظام ملكيًا بشكل مطلق، حيث كان الملك هو رئيس الديانات ويضع القوانين ويطبقها، وإن اختفى هذا الأمر في العصر الجمهوري، لكنه سرعان ما عاد في العصر الإمبراطوري، وكانت ديانة الإمبراطور هي الديانة الرسمية للدولة، حيث تقام للملك الشعائر الدينية، وعند موته يصبح إلها مُطوَّبًا وتغدو عبادته ديانة الدولة الجديدة.

(6) الأديان الإبراهيمية والتفويض الإلهي

عندما ننطلق إلى الديانات الإبراهيمية، وندخل إلى صورة أخرى من أشكال نظرية التفويض الإلهي الخارج عن إرادة البشر، نلاحظ في الديانة اليهودية أن الله هو مصدر السلطة، وهو وحده القادر على نزعها، وفي المسيحية كان ما يقوم به الحاكم من إكراه وعقاب بسبب الخطيئة الأولى، ويجب دائمًا طاعته إلاّ عند مخالفه تعاليم الكنيسة، يقول بولس الرسول: إن جميع الناس يجب خضوعهم للسلطات العليا؛ لأن الله وضعها في يد الملوك وأن للسلطة الإلهية سيفين:

سيف السلطة الدينية الذي وضعه الله في يد البابا.

سيف السلطة الزمنية الذي وضعه الله في يد الإمبراطور، وهذا ما دعا إليه كثير من رجال الكنيسة

وكما الحال في الإسلام، اعتبر النبي “محمد” يد الله في الأرض، وهو من ينزل عليه الوحي، ويقوم بنقله للرعية، في صورة واضحة من التفويض الإلهي بين الله ونبيه، وهو الحاكم والنبي المرسل في الآن نفسه.

إن سبيلنا الوحيد نحو التحرر من ظاهرة تأليه الحاكم هو وضع قوانين تنزع عنها صفة الإطلاق، وتخضع للتجريب الأخلاقي في الراهن المعيش، حينها فقط يمكننا الحصول على حرية حقيقية قائمة على معطيات قيام النظامين القانوني والسياسي في مرحلة مأسسة (الدولة الحديثة)، وهو ما يتناقض تمامًا بشكل مركزي مع كل التصورات المؤسسة لأنماط دينية للحكم، وبشكل أخلاقي صرف، فالأخلاق تتأسس على قوانين وضعية يكتشفها العقل ويختبرها، لا على نصوص دينية مطلقة، جاءت في سياق عملية تمهيد وانطلاق لقوانين وضعية ذات طابع إنساني على حد وصف هوبز.

*المصادر:
 الطاغية للدكتور "إمام عبد الفتاح إمام
الحاكم الاله والشعب العابد-صلاح هاشم 
مصر القديمة (الجزء السادس) -سليم حسن

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: ولاء عبد الهادي

تدقيق لغوي: مريم زهرا

تحرير/تنسيق: خالد عبود

اترك تعليقا