مؤشرات عن تغييرات جذرية في الخارطة السياسية
أكّد لي أحد كبار المحلّلين الاستراتيجيين الفرنسيين، خلال زيارة له إلى تونس التقى فيها العديد من المسؤولين السياسيين والفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين أنّ قراءة معمقة وموضوعية لما يحدث في تونس تفيد بأن : “الثّابت إلى حدّ الآن هو أنّ كلّ شيء قابل للتغيير”! وعندما سألته عن كيف ينظر المسؤولون السياسيون في أوروبا لِما يحدث في تونس، أجاب بسرعة ودقّة: “بترقّب”. لا شكّ أنّ هذه الإجابة تحمل بين طيّاتها الكثير من المعاني وتفسّر التردّد والارتباك المسيطرين على المواقف الأوروبية تجاه تونس، خاصّة في ما يتعلّق بالمساعدات الاقتصاديّة التي وعدوا بها خلال السنوات السبع المنقضية.
لا يتعارض الموقف الأوروبي مع مواقف العديد من المسؤولين التونسيين الذين تحدّثوا أكثر من مرّة عن إمكانية حدوث تغيير هامّ في المشهد السياسي الوطني في قادم الأيام لتراكم الأحداث والوقائع وتواتر المستجدّات وظهور بوادر غضب شعبي ورفض للمبادرات التقشّفية، وقد أخذت بعض التحركات في الشارع السياسي منحى مقوّضًا للسّائد كسعي بعض الأحزاب إلى تكوين جبهة برلمانية جديدة ذات أغلبية قادرة على الإطاحة بحكومة الوحدة الوطنية وتعويضها بأخرى دون مشاركة حركة النهضة، وتتحرّك هذه الأخيرة بقوّة لمواجهة هذا المسعى المُهدِّد لتأثيرها في صناعة القرارات وانبعاث جبهات تفكير وتقييم ذات أهداف سياسية مستقبليّة. كلّ هذه المعطيات التي تزداد تراكمًا من يوم إلى آخر لم تغب عن المحللين الأوروبيين العاملين في دوائر القرار والمحيطين بالمسؤولين ولوبيّات الضغط فجاءت نصائحهم لتصبّ في خنادق تأمين مصالحهم.
لا شك أنّ علاقات تونس ببلدان أوروبا الغربية وخاصة الموجودة على الضفة الشمالية للمتوسط ذات تأثير كبير على الأوضاع في جميع المجالات الحيوية التونسية، فهي الشّريك الاقتصاديّ والثقافيّ الأول، وتجمعها به مصالح حيوية عديدة بالرغم من جروحِ وندوبِ حقب الهيمنة والاستعمار والاستغلال، وككلّ التجمعات والاتّحادات الإقليمية ذات الأهداف الحمائية يتعامل الاتّحاد الأوروبيّ مع تونس طبقًا لمَصالِحِه الآنية والمستقبلية، بمعنى أنّه وإن بدا حريصًا على دعم المسار الديمقراطي ومساندة جهود السلطة الحاليّة في النهوض بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية المتردية فإنه يربط تواصل هذا الدعم وتوسيعه بتوفير الضمانات الكفيلة بتثبيت مصالحه المتعددة والهامة في تونس، فلا يخطو خطوة من جانبه لتلبية طلب من الطلبات التونسية إلا ووضع له شروطًا مجحفة في أغلب الأحيان.
هذه هي القاعدة في تعامل الدول والاتحادات والتجمعات الإقليمية، لكنّ بعض المسؤولين التونسيين الحالمين ذهبَ في اعتقادهم أنّ الاتحاد الأوروبيّ سيتصرّف خارج هذه القاعدة لحماية الديمقراطية الناشئة والوحيدة القابلة للاستمرار في المنطقة العربية، كما تتصرّف الولايات المتحدة الأمريكية مع حليفتها إسرائيل! ولكن، لا الاتحاد الأوروبي هو الولايات المتحدة ولا تونس هي إسرائيل لأنّ الرابط الوحيد بين الاتحاد الأوروبي وتونس هو المصالح المشتركة والتي تميل جميعها للطرف الأول.
ومن هذا المنظور دأبت مجموعات الضغط السياسي والاقتصادي والإعلامي في أوروبا على التعامل مع الوضع في تونس طبقًا للمستجدّات الطارئة، فتارَةً تحرّك مياهَها الآسنة لتزكم الأنوف بروائحها الكريهة، وطورًا تحيطها ببريق وهالة مبهرتين.
صحيحٌ أنّ تونس بحاجة أكيدة وماسة لدعم أوروبي مكثّف على المستويين الأمني والاقتصادي، وصحيحٌ أيضًا أنّها تمثّل بوّابة الاستقرار في الضفّة الشمالية للمتوسط، لكنّ الثابت هو أنّ الجانب الكبير من مصيرها مازال بأيدي أبنائها وهي قادرة، بالرّغم من الظروف الصعبة التي تمرّ بها، على التّفاوض بنِدّيّة نسبيّة مع الاتحاد الأوروبي فيما يتعلّق بصيانة المصالح المشتركة والدّور الذي يمكن أن تلعبه تونس في العديد من القضايا في المنطقة كالأزمة الليبية وتدفُّق المهاجرين غير الشرعيّين على أوروبا، ونشر الديمقراطية في العالم العربي، وهي أوراق ذات جدوى وتأثير كبيرين.