عندما ينسى السياسيون في تونس أن الديمقراطية والحرية ولدتا يوم ولد القانون

لقد ولدت الحرية والديمقراطية يوم ولد القانون

تحوّلت بلاتوهات القنوات الإذاعية والتلفزية العمومية والخاصة خلال المظاهرات والاحتجاجات التي تشهدها البلاد ضد قانون المالية إلى فضاءات مفتوحة على مختلف أنواع المزايدات الشعبوية الملوثة بدنس الزيف والبهتان، تأتيها وجوه مكفهرة ينهشها الحقد الأعمى وتسلخها الانتهازية المفضوحة، وجوه تعاقدت مع الكذب والمغالطة والمخادعة، والشتم الرخيص، والمغالاة في الترهيب الفكري وإثارة القضايا المغلوطة تحت غطاء الدفاع الوهمي عن الحرية والديمقراطية و حقوق الإنسان.

ما معنى أن يتجند أدعياء الدفاع عن “حقوق الإنسان” وبعضهم نواب وقادة في عدة أحزاب لمؤازرة المخربين والسراق وإيجاد الأعذار الواهية لجرائمهم؟! وما هي الغاية من تحويل هامش الحرية إلى انفلات، وقيم الديمقراطية إلى سروج يمتطيها الانتهازيون والباحثون عن الشهرة الرخيصة؟ من المؤسف جدًا أن يجنح أغلب المنتمين، حقيقة أو بهتانًا، للطبقة السياسية إلى انتهاج المسالك الوضيعة والمشحونة بكل أنواع الخداع والمغالطة، غير عابئين بالتداعيات الكارثية لهذه الممارسات على المسار الديمقراطي برمته.

إن الظروف الحرجة التي تمر بها البلاد والتحديات المصيرية والوجودية التي تواجهها تفرض معالجة أكثر عمقًا وواقعية وشمولية لمسألة الحريات الأساسية وحقوق الإنسان، خاصة وأن الأوضاع العالمية السائدة فرضت مقاربات جديدة في هذا المجال، إذ تخلت الديمقراطيات الكبرى التي دأبت على التبشير بالحريات منذ عقود عديدة كالولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا وغيرها، عن أسلوب الدفاع الآلي عن الحقوق الفردية والجماعية بدعوى “الواقعية” الذي تحتمها صيانة أمنها القومي، و”البرغماتية” التي تمكنها من معالجة الأزمات العالمية المستفحلة والتحولات والتغييرات المتسارعة.

فبهدف صيانة مصالحها الإستراتيجية تجاوزت هذه البلدان تشريعاتها ودساتيرها والمواثيق الدولية لتقترف اعتداءات صارخة على أبسط الحريات و حقوق الإنسان كما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية بإقرار إدارة الرئيس ترامب منع مواطني سبعة دول إسلامية من دخول ترابها وإلغاء قرعة عبور أراضيها والاستقرار فيها ووضع الأجانب تحت المراقبة الأمنية وإطلاق النار دون تردد على المشبوهين، والموقف المتصلب للحكومة الفرنسية تجاه الهجرة، والذي ينسجم تمام الانسجام مع مواقف اليمين المتطرف الذي اكتسح مواقع كبيرة في البلدان الأوروبية وأعاد ظاهرة العنصرية إلى ما كانت عليه قبل وخلال الحرب العالمية الثانية، وقانون الإرهاب الفرنسي الجديد الذي يبيح مداهمة مقار المشكوك فيهم دون إذن قضائي.

علينا أن نفكر في مصالح بلادنا بعيدًا عن الشعارات الرنانة التي تخلى عنها مبتكروها في الغرب الأطلسي، والانكباب بجدية وواقعية على معالجة الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي استفحلت في البلاد بشكل ينذر بأشد المخاطر، بعيدًا عن الأجندات الداخلية والخارجية والحسابات الخاطئة والمصالح الحزبية والشخصية الآنية الزائلة، لأن المطلوب الآن هو حماية الأمن القومي للبلد وتثبيت مقومات الاستقرار فيها، وبالتالي زرع الأمل في قلوب المواطنين التي حطمها الإحباط ودمرتها خيبات الأمل المتراكمة.

إعلان

لا بد، والحال تلك، من إعادة التنافس السياسي إلى مرجعيته الأساسية المرتكزة على القيم الحامية لأمن البلاد وسيادتها ومناعتها، لأنه خرج، وبشكل منفلت عن منظومة هذه القيم وأصبح يهدد ما تبقى من مظاهر استقرار في البلاد. لا يشك أحد في أن تجاوز هذه الوضعية المتردية يمر أولًا من اجتثاث مدلول العنف والتحريض والتهديد من الخطاب السياسي والإعلامي السائد لأن تراكم العنف اللغوي في المضامين السياسية والإعلامية يؤدي إلى تفشيه في الشارع، لذلك فإن القوى السياسية والاجتماعية والإعلامية الفاعلة والمؤثرة في البلاد مدعوة إلى تليين خطابها وجعله محملًا بالقيم والمبادئ التي نحتاجها في هذا الظرف الدقيق والعسير من مسيرة البلاد.

من هذا المنظور يصبح من واجبنا إعادة تقييم أوضاعنا وتقدير حجم التحديات الداخلية والخارجية المنتصبة أمامنا، وطول الطريق التي علينا أن نسلكها قبل الوصول إلى تلك المرتفعات التي تضيئها الشمس، كما وصف الزعيم البريطاني الراحل “تشرشل” فضاءات الحرية والديمقراطية و حقوق الإنسان. فلا تحقيق لهذه القيم دون اعتراف بنسبيتها وبأنها ولدت يوم ولد القانون ولا تتعارض مع متطلبات حماية الأمن القومي للبلاد، وشروط والتزامات السلوك المدني والوطني للأفراد والجماعات. من المؤسف أن ما يحدث في بلادنا مخالف لكل هذه الالتزامات، فالأغلبية في الساحة السياسية تهزأ بها وتلوح بشعارات مغذية للفوضى والانفلات والتطاول على القوانين والتشريعات وعلى الدولة ومؤسساتها، ليس من باب الإيمان بتلك الشعارات ومضامينها، وإنما إيغالًا في الانتهازية وسعيًا لخدمة أجندات ومصالح داخلية وخارجية متعددة، وقد شاهد الشعب كيف أن أكثر السياسيين في بلادنا دفاعًا عن حقوق الإنسان تحولوا إلى أول منتهكيها عندما فرضت مصالحهم ذلك، وكيف أن أكبر دعاة تطبيق الديمقراطية وغلاة المتعصبين لها تحولوا إلى مشككين في آلياتها ونتائجها عندما انهزموا في الانتخابات.

مقالات الرأي تعبر عن آراء أصحابها.

إعلان

اترك تعليقا