الحوافز ودورها الخفي… قراءة في كتاب SuperFreakonomics

تطبيق للمبادئ الاقتصادية في مجالات متنوعة لا يتناولها عادة الاقتصاديون التقليديون في أبحاثهم

الفهرس

الحوافز ودورها الخفيّ في توجيه سلوك النّاس هي حجر الزّاوية ومفتاح حلّ كلّ المشاكل العسيرة التي نواجهها على أرض الواقع من الإرهاب إلى ارتفاع حرارة الأرض.

ويمثّل الكشف عن هذا الدّور الخفيّ الهدف الأساسيّ لكتاب “الاقتصاد العجيب جدًا Superfreakonomics” الذي سنتصفّحه معًا اليوم.

يأتي هذا الكتاب مكمّلًا أو جزءًا ثانيًا لكتاب Freakonomics (٢٠٠٥) الذي جاوزت شهرته أغاني “المهرجانات” في حفلات العرس” في مصر. وصدرSuperfreaknomics في عام ٢٠٠٩، وهو من تأليف ستيڤين لڤيت -أستاذ الاقتصاد بجامعة شيكاغو، وستيفين دابنر الصّحفي بجريدة النيويورك تايمز.

وعلى نفس درب كتبهما السّابقة، استخدم المؤلّفان الفكر الاقتصادي في الكشف عن الحوافز ودورها الخفيّ  في العديد من الأحداث في الولايات المتحدة والعالم. واستعانا بالإحصاء والبيانات للكشف عن الدّوافع وراء السّلوك البشريّ.

وإذا كان الكتاب قد اعتمد على العديد من القصص الظريفة في عرضه، فإنّه للأسف الشّديد قد لجأ إلى لَيٍّ لبعض الحقائق والتفسيرات لتُلائم وجهة نظر مؤلفيه في أحيان ليست بالقليلة.

تناول هذا الكتاب المُسلّي الصّغير العديد من المواضيع الشيّقة مثل الدعارة والاٍرهاب، والانحباس الحراريّ، لكنّه عانى، في رأيي، من “متلازمة الجزء الثاني” التي تصيب الأفلام السينمائية، وألبومات الأغاني، حيث عادةً ما يفتقد الجزء الثاني إلى الأصالة والابتكار، ويتسلّق فقط على نجاح الجزء الاول.

و تجدون فيما يلي بعض الأفكار الرئيسة التي تناولها الكتاب.

أولًا، قانون النتائج غير المقصودة

لا ينكر أحد أن الحوافز لديها سُلطة  على عقولنا ومن ثمّ توجيه سلوكنا. وتستغلّ الحكومات والشّركات والمدارس وحتى الآباء والأمّهات هذه الطريقة لدفعنا نحو سلوك يرونه مرغوبًا من خلال مداعبة عقولنا بحوافز وكفاءات.

مع هذا، فهناك قوة خفيّة أخرى أو لاعبٌ أساسيُّ آخر موجود في الملعب مع هذه الحوافز، وهي ما نسمّيه قانون النتائج غير المقصودة. ولقد صاغ دابنر ولڤيت هذه العبارة لتصف السّلوك والتّصرّفات غير المخطّط لها، التي تحدث بعد منح الحوافز، و هذه أمثلة لهذا القانون:

١- الفئران في المانيا

حاولت الحكومة الألمانيّة تحفيز النّاس على تخفيض حجم المخلّفات (الزبالة) التي يخرجونها بأساليب عدّة، منها جمع المخلّفات كلّ شهر، أو تصغير حجم صناديق القمامة أو فرض رسوم تصاعديّة تزايُد مقدار القمامة.
وللأسف، فشلت كلّ هذه الحوافز في تحقيق هدفها بل ترتّب على ذلك نتائج عكسيّة مخيفة، حيث لجأ النّاس مثلًا إلى إلقاء مخلّفات الأطعمة في مقاعد الحمّامات لتصريفها من خلال الصرف الصحي. وأدّى هذا إلى تكاثر أعداد الفئران بشكل كبير نتيجة زيادة المعروض من الطعام أمامهم.

٢- الحوافز الأُسرية

يلجأ الآباء إلى تحفيز أو ردع أولادهم عن سلوك معين باستخدام نظام الحوافز، والذي قد يترتّب عليه في بعض الأحيان نتائج جانبيّة غير مرغوب فيها. يمكنك مثلًَا أن تدفع أطفالك إلى غسيل الأطباق مقابل جنيه واحد للطبق، ثم ستكتشف بعد ذلك أنهم يقومون بغسل الأطباق النظيفة أيضًا، أو انتظار نقود مقابل أيّ عمل منزليّ يقومون به.

ثانيًا، انحياز المتغيّر المحذوف omitted variable bias

ماذا يفعل العلماء إذا لم يستطيعوا إيجاد حلّ لأحد المشاكل؟
الإجابة هي جمع مزيد من البيانات؛ فالبيانات تساعد دومًا في إيجاد الحلّ، لكن ليس بالطريقة التي نتوقعها في كلّ الأحوال.

بالنّسبة للمشاكل العويصة فيكمن الحلّ غالبًا في مستوى مختلف عن محيط أو صندوق المشكلة نفسها. معلومة واحدة أو قيمة شاذّة تظنّ أنّك جمعتها، وهذا لم يحدث، قد تكشف لنا عن حلّ وتفسير للمشكلة بشكل أفضل من البيانات المعتادة normal.

يرتبط هذا بظاهرة إحصائية تسمّى “انحياز المتغير المحذوف OVB”. ويحدث هذا الانحياز عند إنشاء نموذج قياسيّ بشكل غير صحيح مستبعدين أو مهملين لواحد أو أكثر من العوامل الهامّة. ويقوم النّموذج في هذه الظّروف بتعويض هذا العنصر الغائب عن طريق تقليل مقدار أثر أحد العوامل الأخرى أو المبالغة في قيمته. ودعوني أشرح ذلك بالمثالين التاليين:

١- الشيكولاتة ونوبل

ويعني هذا بكلمات أبسط أنّ إهمالك لعنصر ما في التحليل قد يؤدّي إلى استنتاجات خاطئة. على سبيل المثال، هناك ارتباط قويّ جدًّا بين استهلاك الشيكولاتة وعدد الفائزين بجائزة نوبل، ولكن هذا يجب ألا يدفعك للقفز سريعًا في استنتاجك أنّ هناك علاقة بين استهلاك الشيكولاتة وذكاء النّاس، ومن ثمّ يزداد احتمال الفوز بجائزة نوبل مع تناول المزيد من قطع الشيكولاتة. ونلجأ يعدّ ذلك لعلم الأعصاب والبيولوجيا لتفسير أثر الشيكولاتة.

الحقيقة الأبسط، والتي تجاهلتها في تفسيرك السّابق، والتي تؤكّدها آلاف الإحصاءات، تشير إلى أنّ جوائز العلوم عادة تكون في الدّول الغنيّة لارتفاع قيمة الإنفاق على البحث العلمي، وشعوب الدّول الغنيّة تميل إلى الإنفاق بصورة كبيرة على الأطعمة والترفية. وهذا طبيعي، فهناك شعوب لا تجد ما تنفقه على الخبز، ناهيك عن الشيكولاتة.

٢- غسل اليد وانخفاض معدّلات وفيات الأمّهات

لاحظ الدكتور Ignaz Semmelweis ارتفاع عدد وفيات الأمّهات بعد الولادة في مستشفاه، في العديد من المستشفيات في بريطانيا. وتمّ بحث ألاف الأفكار والاحتمالات محاولًا لإيجاد تفسير ذلك، ومن ثمّ إيجاد حلّ لهذه المأساة. هذا إلى أن اهتدى إلى أنّ العامل النّاقص الذي لم يبحثه لم يفسّر الظاهرة فقط ولكنّه حلّها.
لاحظ دكتور ايجناز أنّه عند المقارنة بين مستشفاه ومستشفى قريب معدّلات وفئات الأمّهات فيها طبيعيّة، إنّ الفارق الأساس هو أنّه لديه قسمًا لتشريح الموتى (طبّ شرعيّ) بينما لا يوجد بالمستشفى الآخر.
وعلى هذا، وقبل ظهور نظريّة الجراثيم استنتج الطبيب أنّه لا بدّ من أنّ هناك شيئًا ما يحدث أثناء التشريح يؤدّي إلى عدوى الأمّهات. ونصح الأطّباء بغسل الأيدي جيّدًا بعد خروجهم من غرف التشريح، والغريب أنّهم لم يكونوا يفعلون ذلك من قبل. و كان لهذا مفعول السّحر.

ثالثًا، هندسة المناخ وحلّ أزمة ارتفاع درجة حرارة الأرض

طرح لڤيت ودابنر حلًا، يمثّل نموذجًا للتفكير من خارج الصندوق، لأزمة ارتفاع درجة حرارة الأرض كبديل لسياسات تخفيض انبعاثات الكربون. قياسًا على الأثر التبريديّ لدرجة حرارة الأرض التي تنجم عن انبعاثات ثاني أكسيد الكبريت والغازات الكبريتية الأخرى من البراكين واستقرارها في طبقة الغلاف الجوّيّ stratosphere، اقترح المؤلّفان ضخّ هذه الغازات بكثافة في طبقة الاستراتوسفير لتبريد الأرض، وذلك في إطار ما يُعرف بهندسة البيئة أو الهندسة الجيولوجية geoengineering. يعني هذا باختصار استخدام التلوّث والملوّثات بدلًا من تخفيضها.

و لقد تعرّض هذا الرأي لانتقادات شديدة من علماء الاقتصاد والمناخ الذين وصفوه بالخطأ البيّن شكلًا ومضمونًا.

 

مع هذا، فإنني شخصيًّا استمتعتُ بهذا الكتاب المسلّي، وتعلّمت منه أنّ الحيل غير التقليدية لا تأتي إلا بالمزيد من جمع البيانات. إذا واجهتك أيّة مشكلة فاجمع المزيد من البيانات بأقصى طاقة تستطيعها، فهناك دائمًا بيانات هامة نتجاهلها في الغالب. والحقيقة أنّ علم الإحصاء علم مهمّ جدًا، فتحويل القضايا إلى أرقام يساعدنا في التفكير بشكل عقلانيّ دون الانزلاق في هاوية العاطفة، وتجنّب التخمين والفتوى. وعلينا أن ندرك أهمّيّته ونقبل على دراسته دون أيّ تردّد.
ولهذا أوصيكم بقراءة الكتاب.

إعلان

اترك تعليقا