ثيوديسيا الشر: بين المدارس النقدية والعقلية

كانط مقابل ليبنتز، والغزالي مقابل المعتزلة.

يرجع اللفظ Theodicy إلى الأصل اليوناني “ثيو” بمعنى إله، وديكيا بمعنى عدالة أو تبرير. وكان أول من استخدمه مصطلحًا الفيلسوف الألماني غوتفريد ليبنتز في كتابه “محاولات في الثيوديسيا”، وعرّفه كانط في مقاله “تهافت كل المحاولات الفلسفية في شأن الثيوديسيا” بـ«محاولات الدفاع عن حكمة الإله الصانع ضد التهم الموجهة إليه بمخالفة الغاية في العالم».

يصف كانط تنزيهات ليبنتز الرامية إلى التوفيق بين حكمة الله ووجود الشر في العالم، أو ما يعرف بنظريته في أفضل العوالم الممكنة، بأنها أجمل وهم نحتته الميتافيزيقا، لذا قصد كانط بمقاله إنقاذ معقولية التاريخي من العقول الريبية التي تتهم الإله في عدله بسبب واقعة الشر في العالم، بدافع من جرأة العقل في ادعاء ما ليس في مستطاعه، بعد فشل الدغمائيات العقلية التي تجاوزت حدود إمكاناتها العقلية، ونصبت نفسها للتحدث باسم عدالة الله في خلقه بدافع من الجهل.

يصنف كانط الشرور في العالم إلى ثلاثة أصناف:

الصنف الأول: الشر الأخلاقي، والذي يقدمه العقل دعوى ضد القداسة الإلهية التي سمحت به.
الصنف الثاني: الشر الفيزيائي الذي يتجلى في الألم والمعاناة، والذي يقدمه العقل دعوى ضد الخير الإلهي.
الصنف الثالث: الشر الناجم من عدم التناسب بين الجريمة والقصاص، والذي يقدمه العقل دعوى ضد عدالة الله المفترض قيامها على المجرمين.

يحصي كانط في مقاله “مرافعات الثيوديسيا النظرية أو الدجماطيقية” على هذه الدعاوى الثلاث ثلاثة ردود مع تفنيدها:

ردَّ الدجماطيقيون (١) دعوى اجتماع الخطيئة البشرية مع العدالة الإلهية، بكون الخطيئة ليس بالضرورة أن تكون شرًا محضًا في الناموس الوجودي، أو بكونها متجذرة بالطبع لا تنفك عن الطبيعة البشرية ولا يمكن منعها، وكلا الردين يفندهما كانط ببيان خطورتهما بالنسبة للأخلاق بعامة؛ بمعنى ما الداعي إلى وصم الشر الأخلاقي بالشر إذا كان الأمر كما يدعون؟

إعلان

كما ردوا (٢) دعوى اجتماع الألم والمعاناة مع الخير الإلهي، بدعوى كون الإنسان يفضّل الحياة بالألم والمعاناة على الموت، ويعترض كانط بالطبع على هذا التفاؤل المفرط.

وردوا باستحالة الفصل بين الألم واللذة، ويعترض كانط بأن هذا خُلف ولا يليق بالإله.
كما ردوا بكون تلك الآلام هي مقابل السعادة الأخروية، ويرد كانط بعدم الضرورة المنطقية للمقابلة.
كما ردوا (٣) دعوى اجتماع العدل مع الجريمة، بكون المجرمين إنما يعاقَبون في ضمائرهم، ويرد كانط بسخرية الحديث عن طيبة ضمير الأشرار.

كما ردوا بكون العدالة إنما تتحقق في الآخرة، ويرد كانط بنفس الرد سابقًا بعدم الضرورة المنطقية بين مقابلة نعيم المجرم في الدنيا وعذابه في الآخرة. (١)

نحو ثيوديسيا عملية 

يقترح علينا كانط ثيوديسيا تأويلية من نوع جديد في مقابل الثيوديسيا الدجماطيقية لليبنتز ومن على شاكلته، بنفيه قدرة العقل النظري على تأويل معاني العدل الإلهي كما عند ليبنتز؛ فيدعي أنه ينبغي لمحاولات التأويل هذه أن تقصد العقل العملي لإنجازها، لأنه وحده من يملك فكرة سابقة عن كل تجربة وعن كل تعقل نظري، فالإله من منظوره مسلمة مسبقة عن كل حكم. ومن هنا، ومن كون الإنسان هو سؤال الفلسفة ومدارها، أصبحت غاية تأويلية الثيوديسيا عملية للإنسان نفسه وليست نظرية للوجود. (١)

يدعي كانط أن تاريخ الطبيعة ابتدأ بالخير، لأنه من صنع الله؛ بينما تاريخ الحرية ابتدأ بالشر، لأنها من صنع الإنسان الذي يتجذر فيه الشر كنزوع، خلاف الاستعداد للخير الذي يمليه واجب الضمير. (٢)

ومن ثم يسترشد بسفر أيوب في الكتاب المقدس بحثًا عن مجاز حي لتأويلية العقل العملي؛ حيث أيوب الرجل الصالح الذي رزقه الرب رزقًا واسعًا في ماله وبنيه، إلا أن الرب شاءت حكمته أن يفقده كل هذا في ملحمة تراجيدية، يجد كانط مغزاها في مطلب البراءة الذي ينشده أيوب من محنته، في مقابل دجماطيقية أصحابه الذين ادعوا أن في بلائه تأديبه على خطاياه التي ادعوها واتهموه بها؛ “هكذا سبيل كل الناسين الله.. إذا أخطأ إليه بنوك دفعهم إلى يد معصيتهم”، فيرد عليهم: “كيف تعزونني باطلًا؟.. فأما التوبيخ منكم فعلى أي شيء يبرهن.. هل الخير من الله نقبل والشر لا نقبل؟!”؛ وبعد أن وصل بلاؤه إلى ما انتهى إليه وما زال بارًا في عيني نفسه، كشف الرب عنه بلاءه وزاد في كل ما كان له قبلُ ضعفًا. (٣)

وعلى الجانب الآخر، وفي سياق علم الكلام الإسلامي، نرى المعتزلة أقرب ما يكون إلى ثيوديسيا ليبنتز (٤)، وقد ساقهم مفهوم العدل الإلهي إلى القول بأن الله لا يستطيع فعل الشر لأن ذلك ما تأباه طيبته وحكمته، فإن الخير الذي يفعله لا بد وأن يكون أصلح الممكن، وإلا لما كان الله خيّرًا كامل الخير ولا حكيمًا كامل الحكمة؛ والقول بأن هناك خيرًا ممكنًا لم يرد الله فعله هو انتقاص من كمال الله، مما استتبع بالضرورة قولهم بوجوب الصلاح والأصلح على الله. ولاقى ذلك انتقادَ أهل السنة، لكون الله لا يجب عليه شيء في حكمته وشرعه؛ كما استشكل على الإمام أبي الحسن الأشعري حتى ناظر أستاذه أبا علي الجبائي المعتزلي عن الإخوة الثلاثة: المؤمن البالغ والصبي والكافر البالغ. (٥)

ودافع المعتزلة عن آرائهم على نحو مماثل لليبنتز، فأجابوا بقولهم: إن الشر لم يرده الله ولكن لم يكن منه مناص، لأن ما نعرفه أنه منزه عن أن يخلق إلا أصلح العوالم الممكنة.

قد يعجبك أيضًا

وما كان للغزالي أن يقول برؤيته للسببية ونقده لمكانة العقل الوجودي والمعرفي عند الفلاسفة من غير نفيٍ للغائية أو الحكمة الإلهية كمبدأ معرفي وجودي؛ ذلك أنه رأى أن نقائص العالم من الهول بحيث إذا أُعطِي العقل حق القضاء في شأنها أصبح عنده العالم لا عقليًا وغير كامل؛ لذا فعوضًا عن أن يضع مبدأ الغائية ثم ينفي نقائص العالم المدركة بالضرورة، يفضّل الغزالي أن يحرر الوجود من الغائية والمعيارية العقلية وينزه الله من الإلزام (٦).

المصادر
١-كتاب "كانط راهنًا أو الإنسان في حدود مجرد العقل"، الفصل الثالث: في تأويلية الشر الجذري، أو كانط في محراب أيوب، ص 100، تأليف د. أم الزين بن شيخة المسكيني.
٢-كتاب "فلسفة الدين- مقولة المقدس بين الأيديولوجيا واليوتوبيا وسؤال التعددية"، مجموعة من الباحثين فصل: كانط من العقل الخالص إلى الإيمان الخالص ص67 بقلم د. محمد المصباحي.
٣-سفر أيوب من الكتاب المقدس.
٤-مقال بين المعتزلة وليبنتز، ترجمة وتقديم د. عبدالرشيد محمودي، جريدة الأهرام؛ جاء في التقارير المنشورة عن دورة مؤتمر المستشرقين التي انعقدت في أكسفورد سنة 1928م، أن طه حسين شارك فيها بورقتين بحثيتين إحدهما عن المعتزلة وليبنتز، كما أن باحثًا إيرانيًا معاصرًا يدعى عمرو الله معين نشر مؤخرًا بحثًا عنوانه "مقارنة بين آراء المعتزلة وليبنتز فى العدل الإلهي"؛ كلاهما لم أستطع الحصول عليه.
٥-ما تقول يا إمام فى ثلاثة إخوة: أحدهم كان مؤمنًا برًا تقيًا، والثانى كان كافرًا فاسقًا شقيًا، والثالث كان صغيرًا، فماتوا فكيف حالهم؟ فأجاب الأستاذ قائلًا: أما الزاهد ففى الدرجات، أما الكافر ففى الدركات، وأما الصغير فمن أهل السلامة". فقال الأشعرى: إن أراد الصغير أن يذهب إلى درجات الزاهد هل يؤذن له؟، فقال الجبائى: لا، لأنه يقال له: أخوك إنما وصل إلى هذه الدرجات بعطائه الكثير، وليس لك تلك الطاعات. فقال الأشعرى: فإن قال: ذلك التقصير ليس مني، فإنك ما أبقيتني [ولا أقدرتني على الطاعة]؟ فقال الجبائي: "يقول الباري -جل وعلا-: كنت أعلم لو بقيت لعصيت وصرت مستحقًا للعذاب الأليم، فراعيت مصلحتك. لكن ماذا عساه يكون رد الله على الكافر الذي في الدركات؟ لماذا لم يقبضه الله صغيرًا؟]
٦-كتاب مفهوم السببية عند الغزالي، تأليف د. أبويعرب المرزوقي ص١٢.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: حسن أسعد حمدان

تدقيق لغوي: محمد ثروت

اترك تعليقا