التواضع: الفضيلة المفقودة

هل يعتمد ازدهار العالم على فضيلة التواضع؟

يكشف التواضع صورة حقيقة عن الذات، ويُعبر عن صدق وعمق العلاقات مع الآخرين، ولا يُقصد به الإهانة أو التذلّل أو الخضوع.

وصف عالم النفس نارفايز في آخر بحث له (Narvaez, 2019) عن كيفية تطور أشكال التواضع المتعددة في الحياة داخل مجتمع الأنواع الطبيعية، حيث يشير هذا الوصف  إلى نوع المجتمعات التي قضى فيها أسلافنا من البشر معظم تاريخهم (المجتمعات الصغيرة من صياديّ وجامعي الثمار) (Lee & Daly, 2005)، وفي هذه المجتمعات تطوّرت أنماط تربية الأطفال بالطريقة الأكثر توافقًا مع احتياجاتهم الأساسية (Hewlett & Lamb ، 2005).

وهذه الاجتماعات من صيادي وجامعي الثمار تُعتبر نوع البيئة الاجتماعية التي تطورنا فيها لتوقع ما يحدث، والتي بدونها نعجز عن التطور بصورة ملائمة (Narvaez، 2013، 2014).

وتتجلى أشكال التواضع التي سيتم وصفها في المجتمعات البرّية من خلال البحث عن الطعام النظيف وتطوير مكامن جديدة للأطفال، حيث يعيش الأفراد في مجتمعات مرنة ومتغيرة مع أشخاص آخرين ومع كائنات غير بشرية (Ingold، 2005؛ Narvaez et al.، 2019).

هناك أربعة أنواع من التواضع واضحة في مجتمعات الصّيد وجمع الثمار وهي:

مهارات تواصل الفرد مع نفسه ومهارات تواصله مع الآخرين والمجتمع والبيئة التي يعيش فيها طوال حياته.

إعلان

ولكنَّ الأسس الأكثر أهمية ترسخت في الحياة الأُولى، عندما تطوّر دماغ الطفل وأحاسيسه بسرعة ليشمل كل نوع من التواضع جوانب من الحياء والإيثار والاحترام.

وينمو التواضع الذاتي المرتبط بالنفس من خلال المعاملة التي يتلقاها الفرد خلال فترات نموه الحرجة: السنوات الأولى من حياته، والمراهقة المبكرة، وسنّ الرشد.

إن “قصة” البيولوجيا العصبية التي تدور حول العلاقات المبكرة، على سبيل المثال: “العالم مكان جيد وأستطيع أن أثق به” أو “العالم غير جدير بالثقة وأنا سيء” (Narvaez, 2011)، حيث أن التواضع الذاتي ينطوي على الشعور بالراحة واهتمام المرء بجسده، وقبول القيود التي يفرضها على نفسه “الحياء”، وهذا يعني التخلي عن التحكم المفرط في الأنا وتعلّم التعاون مع روح الفرد الفريدة التي يتمتع بها المرء أو الشعور الداخلي بالذات (الإيثار)، ولكن إذا تجاهلتْ الأسرة عواطف الطفل أو توقعت منه الامتثال والطاعة فقط فسيخرج الفرد عن مساره في هذا التطور.

والتواضع مع الأشخاص يعني أيضًا قبول الذات (الاحترام)، وإذا تعرض الطفل لسوء المعاملة في مرحلة الطفولة فمن المرجّح أن ترفض الذات نفسها، وستحتاج إلى بعض العلاج في مرحلة البلوغ لتعلم قبول الذات.

وبهذه الطريقة يمكن أن تحدد تجربة الحياة الأُولى مسار التواضع الذي يُظهره الشخص تجاه نفسه.

إنَّ البيئة الأسرية والمجتمعية التي تدعم تفرّد الطفل من شأنها أن تيسّر وتسهّل تطور التواضع الذاتي، وهذا من شأنه أن يمكنّه من التواضع مع الأشخاص.

يمكن تقسيم التواضع بين الأشخاص أو العلاقات الاجتماعية من خلال التجسيد والعاطفة والإدراك، ويتم بناء القدرات في البداية من خلال التجارب الاجتماعية التي مرّ بها المرء في حياته المبكرة وخلال فترات حساسة أخرى.

إن بيولوجيا الأعصاب المتواضعة تعني أن المرء لا يتسم بالإفراط بالتهديد برد الفعل في المواقف الاجتماعية (تجسيد الحياء)، وهو ما من شأنه أن يجعل المرء يركز على نفسه ويحميها، ويمكن للمرء أن يتعامل مع الآخرين بطرق متعددة غير لفظية من خلال الإيماءات وحركات الجسد (تجسيد الذات)، وفيما يتعلق بالعواطف الشخصية يتقبل المرء عواطفه وعواطف الآخرين (الحياء)؛ منهم من يكون متعاطف فقط بإظهار شعوره بالقلق تجاه شخص ما عندما يحدث له شيء سيء دون قيامه بأي فعل (أنانية)، والآخر يكون متعاطفًا واضعًا نفسه بشكل كامل مكان الشخص الآخر (الاحترام). وفيما يتعلق بالإدراك فإن المرء يطّلع على طرق جديدة لفهم العالم ومراقبة ذاته لإعادة الذات إلى اللحظة الراهنة عندما يحدث تضخم الأنا أو انفصال عاطفي (الحياء)، فالمرء يحافظ على التوجّه المجتمعي في الفكر والعمل (الإيثار)، أحدهما يعبر عن حسن الضيافة تجاه الآخر، ويرحّب بالاختلاف ويتوقع أن تختلف وجهات النظر في كل لقاء (الاحترام).

إن التواضع بين الجماعات أو المجتمع يعني تصرف الفرد كباقي الأفراد دون توقع امتيازات خاصة لنفسه أو لجماعة ما (الحياء).

إن الأجيال الأكبر سنًا ترضخ للاحتياجات الأساسية للأجيال الأصغر سنًا (الإيثار)، فتزّود الأطفال بما يحتاجون إليه لتطوير الإنسانية بالكامل، ومن المتوقع أن يكون التنوع من حيث الشخصية ومن حيث التطور والأشكال الثقافية، ومن حيث الاحترام.

ويكرّم التواضع البيئي حياة الأشخاص الآخرين من غير البشر من خلال عدم الإسراف في تلبية الاحتياجات البشرية (مثل النباتات أو الحيوانات للحصول على الغذاء)، وتقاسم الموارد مع الآخرين، بما في ذلك مع غير البشر (الاحتشام)، حيث إن المجتمع يحد من الرغبات لأن رفاهية المجتمع الحيوي تشكل جزءًا من دائرة الاهتمام (الإيثار)، فغير البشر يحظون بالاحترام باعتبارهم كائنات حية (احترام)، وهذه ممارسات شائعة بين المجتمعات الأمريكية، الهنود-الأمريكيين الأصليين والأمة الأولى (Cajete, 2000; Kimmerer, 2013)، وفي هذه المجتمعات يزرع الشخص فضيلة التواضع الإيكولوجي وغيرها من أنواع التواضع طوال الحياة، وجميع أشكال التواضع هذه ديناميكية وليست ثابتة أو صارمة أو مكتوبة، بل إنها تتحول لحظة بلحظة اعتمادًا على احتياجات الذات وغيرها من الاحتياجات في ذلك الوقت، وهم يحتاجون أيضًا إلى الدعم من الآخرين الذين يشعرون بالقدرة والوقت الكافي لتوفير هذا الدعم.

والأمر المثير للاهتمام في التواضع هو أنه لا يتناسب مع روح “الترويج لنفسك أو التجاهل” التي يتسم بها المجتمع القائم على الإعلام والمال والسلطة اليوم، إن قيم الكفاءة التي تبتعد عن الوجود العاطفي واحتواء الآخرين لا تترك سوى القليل من الوقت لممارسة التواضع، والواقع أن الانقسامات والتفكك أصبحت من الأمور المعتادة بين الناس بعد أن ابتعدوا عن هذه المواضع العلائقية التي تميز تراثنا الإنساني (Narvaez, 2014).

كيف يعود المرء إلى التواضع؟

إن الاستمرار في ممارسة تمارين الاستشفاء الذاتي، بالإضافة إلى قضاء بعض الوقت مع الآخرين بإمكانه دفع المرء خطوة للأمام نحو طريق التواضع: “أحب الشخص الذي أنت معه”، فالمتواضعون متماسكون ويحظونَ بأنا صغيرة، وهم على استعداد للاستجابة عاطفيًا بانفتاح ومرونة.

إن التواضع مؤشر على الصحة النفسية، وهو فضيلة باستطاعتنا اكتسابها وممارستها.

نرشح لك: التواضع والضعف.. وجهان آخران للنرجسية

المصدر

إعلان

فريق الإعداد

تدقيق لغوي: سلمى الحبشي

تدقيق علمي: ريهام عطية

ترجمة: فرح سلمان

تحرير/تنسيق: نهال أسامة

اترك تعليقا