التاريخ الجَهَنَّميّ للشيطان: إبليس في القرون الوسطى (مترجم)
هاجس الشيطان التاريخي:
يُعَد تصوُّر الشَّاعر الإنجليزيّ “جون ميلتون” للشيطان الأشهر على الإطلاق، في ملحمته الشعريَّة بعنوان “الفردوس المفقود” لعام 1667. وتحكي هذه الملحمة عن قصتين: أولهما عن سقوط الإنسان من أعالي الجنة، وثانيهما عن سقوط ما كان “ملاكاً”، وأيما ملاك، بل كان أجمل وأحسن الملائكة أبدًا، ذاك هو “إبليس” الذي ثار ضِدّ الإلَه وعاداه، وأصبح مُتمثِّلًا في كائن الشيطان، العدو والخصيم، والذي قال فيه ميلتون الآتي:
“فبإياه قذفت القوَّة الجبَّارة، بسرعة من السماء الأثيريَّة،
فسقط مُلتهبًا وقد أصابه خرابٌ شنيع وهبط بعنفٍ إلى الجحيم،
الذي لا غور له، وهناك سكن في سلاسل لا فكاك منها وعُوقِبَ في النار.”*
اعتمد جون ميلتون هنا في تصوير الشخصية الرئيسية في ملحمته على الصورة المُتخيَّلة آنذاك للشيطان في العُصُور الوسطى. بداية من عصر الرينسانس، والتي تتأتى في الذهن مباشرة، فهو خصيم الله والإنسان، سيد السحرة والمشعوذات، والوسواس الذي يغوي الآثمين.
وكانت هذه الشَّخصيَّة راسخة وبقوَّة في الوعي الجمعيّ لعامة المسيحين، ولكن ماهية صورة الشيطان وأصوله مُعقَّدة للغاية؛ بسبب أنها تكوَّنت من خلال عِدَّة مصادر مختلفة، وليس فقط اعتمادًا على الكتاب المُقدَّس (الإنجيل).
فلم يُخصِّص الكتاب المُقدَّس إلا بضعة فقرات تتناول الشيطان، ولا يأتي على وصف المظهر الخارجيّ له. ففي سفر التكوين، ترتبط الحيَّة التي قامت بإغواء حواء ارتباطاً وطيداً بالشيطان. إلا أن الكثير من اللاهُوتيين يعتقد أن سفر التكوين يسبق مفهوم الشيطان.
ونجد النصوص التي تُشير إلى سقوط إبليس في أسفار آشعيا وحزقيال، بل أن شيطان العهد القديم لا يتِمّ تصويره بأنه عدوًا للرَّب، ولكنه أقرب إلى خصمٌ له، كما ذكر في سفر أيوب.
أما بالنسبة للعهد الجديد (الكتاب المقدَّس/الإنجبل)، فيتحوّل الشيطان هنا إلى قوَّة تحرِّك الشَرّ. فهو في هذا النص يُغري المسيح ليتخلَّف عن مهمته السماويَّة، فقال له : “أعطيك هذه جميعها، إن خررت وسجدت لي”.(إنجيل متى/ 9:4). أي أنه يوصف بأنه صائد للأرواح: ويحذر أوَّل مكتوب لإنجيل بطرس قائلاً:
“اصحوا واسهروا لأن إبليس خصمكم كأسدٍ زائر يجول ملتهمًا من يبتلعه هو” (بطرس 1، 8:5). ومع ظهور كتاب الرؤيا، يتحول إبليس إلى كائنً أبوكليبتيًّ، يصاحبه الشؤم أيما كان، وهدفه تدمير الإلَه والجنة.
لوحظ ربط صورة شيطاني العهد القديم بالجديد بداية، فيما يسمى بكتاب (الفولجيت) أي النسخة اللاتينية من الكتاب المقدس، وهي ترجمة تمت في القرن الرابع ميلادياً -عن العهد القديم من الكتاب المقدس- ومنه إلى اللاتينية.
ففي سفر حزقيال (14) يشار إلى ملك يضرب الأرض كأنه إبليساً، والذي أتى معناه موضحاً كالآتي: “شعاع نور”،ذلك الذي سقط من السماء.
وتأكيداً على ما أتى في حزقيال، يقول المسيح في لوقا (10:18) الآتي: “رَأَيْتُ الشَّيْطَانَ سَاقِطًا مِثْلَ الْبَرْقِ مِنَ السَّمَاءِ“.
وحين بدأت شمس القرون الوسطى في الغروب، تحديداً في القرن الخامس عشر، شرع المؤلفون في أن يطبقوا صورة ما كان يحويه حزقيال عن إبليس
على الملاك الثائر في “سفرالرؤيا”، ساخطين عليه هو وبقية وحوشه الصغيرة.
آلِهَة قديمة وأخرى حديثة:
تغيَّرت مظاهر الشيطان بشدةٍ في أثناء العُصُور الوسطى، ففي لوحةٍ للقرن السادس الميلاديّ في كاتدرائيَّة سانت أبوليناري الجديدة في رافنا بإيطاليا، نتبيَّن صورة المسيح يوم الحساب، يظهر فيها الشيطان أو الشكل التصوُّريّ له كملاكٍ أثيريٍّ أزرق اللَّون، إلا أن هذه الهيئة الملائكية سيتم التخلي عنها لصالح تصوير أكثر شيطانيَّة من ذي قبل.
وترجع العديد من الصفات الحيوانيَّة التي عُرِفَ بها الشيطان لدياناتٍ سابقة للمسيحيَّة. فمن أوائل تلك النصوص، نص وُجِدَ في بابل القديمة، يروي عن جان خبيث، باسم “ليليث”، وكانت هذه الجنيَّات معروفاتٍ بأنهن ذوات أجنحة تطرْن بهن في الليل لتفتن الرجال، وتهاجمْن الحبلانة من النساء، والرضَّع من الأطفال. وتتحور هذه الجنية في التراث يهوديَّ لتصبح ليليث، زوجة آدم الأولى، فليليث كانت تجسيدًا للشهوة والتمرُّد والإشراك، وغيرها من الصفاتٍ التي أمست لاحقًا متأصلة بذات الشيطان في المسيحيَّة.
ومن الآلهة القديمة الأخرى التي ارتبطت بابليس، بعل زبيب/ عزازيل، وترجمتها “سيد الذباب”، وكان أيضًا يُسمَّى بسيد الجان. وكان عزازيل إلَهًا كنعانيًّا في العهد القديم، وهو من الأصنام التي كان على اليهود تجنبها.
قد لعبت الثقافات القديمة أيضاً دورًا مهمًا في تطور صورة الشيطان في المسيحيَّة. وما أن بدأت المسيحيَّة في أن تضرب بجذورها في الحضارة الرومانيَّة، رفض الموالون الأوَّلون للمسيحيَّة العبادات الوثنيَّة القديمة، التي أخذت مكانها في الحضارة الرومانيَّة آنذاك، وذلك لاعتقادهم بأنها مجرَّد أرواح شريرة.
فعلى سبيل المثال، هناك إلَه يُعرَف باسم “بان”، المعروف بشكله النصف كبش والنصف بشريّ، هو إلَه الطبيعة ذو الميول الشَّبقيَّة المترفة، وبذلك لازمت سمعته كل ما هو مُحرَّم، وبصورته المُتعَارَف عليها ذات القرنين والحوافر المظلفة، أصبح مرجعًا دائمًا للخَطيَّئة، ليتبنا الفنَّانون اللاحقون صورته في تصويرهم الصاعق للشيطان.
ومع اعادة استخدام هذه الرسومات والصور، من عظماء الفنَّانين لحِرَفي القرى المتواضعة، نصل إلى كائن من الزواحف، مُجنَّح ملعون، ليصبح الهيئة الأبرز لتصوير الشيطان آنذاك. فكثيراً ما اعتمد فنَّانون أمثال “جيوتوا” و”فرا أنجليكوا” هذه الهيئة في رسوماتهم وتصويرهم لليوم الآخر، يظهر فيها الشيطان في هيئة حيوان ضار مفترس يتوسَّط قاع الجحيم وهو يلتهم أرواح الآثمين.
وظهرت صورة الشيطان في واحدٍ من أهم الأعمال الأدبية إلهاماً في القرن الرابع عَشَرَ ميلاديًّا، ألا وهو جحيم دانتي في الكوميديا الإلَهيَّة “لدانتي أليجري”، الشَّاعر الإيطاليّ، ففي هذا النَّص يصف دانتي الحضيض الأسفل للجحيم حيث يسود إبليس. و في هذه الصورة للشيطان ثلاثة وجوهٍ، يلتهم كل منها الآثمين بأسنانها، هذا حتى يتغذَّى كل واحدٍ من الأوجه على الأرواح، فإبليس هنا يُصوَّر على أنه كائنٌ ذو أجنحةٍ عملاقة بلا ريش يغطيها، مثله مثل الخُفَّاش.
شَرٌّ أبديّ:
تغيرت صورة الشيطان ومهامه أيضاً لاهُوتيًّا في هذه الحقبة من الزمان. فدوره في العُصُور الوسطى كان فاعلًا كما في العهد القديم (التوراة). فلقد كان ندًا، ولم يمكن عدو الرب بعد، فتطوَّرت شخصيَّة الشيطان خلال العصور الوسطى إلى أن أصبح كيانًا مهلكًا، يعمل على تعذيب أكبر كم ممكن من الأرواح.
لكن بالنسبة لما يُسمَّى بالشيطان اليونانيّ، فذاك كان يُعرَف على أنه كيانٌ مؤله إلى حَدٍّ ما، متواصلًا مع الشَرّ، وأصبح مكونًا جديدًا من عناصر صورة الشيطان في هذا العصر.
فمنذ القرن الثالث الميلاديّ، ظهرت فَلْسَفة صوفيَّة تُسمَّى بالأفلاطونيَّة المُحدَثة، تضمَّنت فِكْرة التواصل مع الأرواح بالسحر، ولذلك كان يتِمّ تقديم التضحيَّات أو الخدمات للشيطان. ولم تكن الأفلاطونيَّة المُحدَثة في تعارضٍ مع المسيحيَّة في شيءٍ، أما التواصل مع الأرواح فكان متعارضاً تماماً.
ومن هنا، لم تعد الطقوس الدِّينيَّة ضماناً لتلبية أيًّا من أمنيات البشر عن طريق الرَّب، فالصلوات لم تكن إلا دليلًا على الاستقامة والصلاح. فإن كان للشياطين أن يُحقِّقوا مطالب وأمنيات بشريَّة، فلزامًا عليهم أن يتضامنوا مع إبليس، والذي كان بدوره سببًا في هبوط الفانون من الجنة.
فمع ظهور المزيد من الأعمال التي تُرجِمَت من اللاتينيَّة خلال القرون الوسطى، بزغت مدرسة جديدة تُسمَّى بالفَلْسَفة المدرسيَّة الحديثة (النصرانيَّة المحدثة)، في محاولة لدمج المفاهيم المسيحيَّة القديمة، مع مجالات العِلْم والفَلْسَفة وحتى مفاهيم السحر الأسود الخاص بالعرَّافين/ات، وهو فن استحضار الجن والأرواح من العوَالِم الأخرى. فكان بدورهم العرَّافون/ات معرضون للعنة الرب من خلال التواصُل مع الشيطان. وفي عام 1326م، أصدر البابا جون الثاني والعشرون مرسومًا بابويًّا (سوبر إليوس سبيكيولا)، ينص على أن كل من يثبت اتهامه بممارسة السحر، يُتهَم بالهرطقة ويُعْدَم حرقاً.
خاتمة:
واجهت أوروبا في القرن الرابع عَشَرَ الميلاديّ فتراتٍ عصيبةٍ، بدايةً من الطاعون والمجاعات والحروب في مختلف أنحائها، وبهذا تزايد الخوف من وجود الشيطان وأثره، ويُلاحَظ هذا من خلال تصاعد مُلاحقة الساحرات وقتلهن. فعلى عكس العرَّافات، كانت الاعتقاد السائد في الكنيسة أن الشيطان ينتقى السَّاحِرات شريكات له، حيث تتعاقدْ الساحرات معه كي تقمْن بمهامه الجَهنَّميَّة بدلًا منه.
ومن هنا تغيرت رؤية الناس من مجرد خداع الشيطان لهم، إلى تورطهم الفعلي مع الشيطان في صراعٍ دائمٍ مع الله. وبحلول تلك الفترة من التاريخ، لم يعد الشيطان كياناً سلبياً، بل أصبح فاعلًا وحاضراً في العَالَم وبقوَّةٍ، باعتباره مُهْلِك للأرواح ومُكلِّف للبشر كي ينُفِّذوا وصاياه وأوامره.
*ترجمة: المترجم السوري “حنا عبود” لكتاب “الفردوس المفقود”.
*ترجمة لمقال “مارينا مونتيسانو”، ناشيونال جيوكرافيك”.
تدقيق: أمل فاخر