القيمة الرمزيَّة للجبال والحدائق في الميثولوجيا وما يوازيها في العهد القديم والقرآن

تملَّكت الطبيعة فكر ومخيِّلة الإنسان منذ طفولته البشرّية إلى عالمه المعاصر من دون أن تفقد قوَّتها يومًا، فهو ينبهر بها أحيانًا ويرهب منها أحيانًا أخرى، كما أنَّه يعيش فيها فهو جزء صغير منها.

وتنشد الجبال مع الحدائق هذا الهدف حين نراها تحوز على مكانةٍ خاصة من هذا الاهتمام، فتتكاثر في الأدبيات والنصوص القديمة، واللوحات الفنّيّة والمنمنمات، ونجد المجتمع يثني عليها ويصفها بالحسن والجمال. وبسبب الأثر الذي أحدثته لم تتمكَّن حتى المعتقدات والأساطير مع الأديان من تجاهلها ونسيانها في نصوصها ومخيّلتها اللاهوتيّة، وتبعًا لذلك فهي الموضوع الذي سنتناوله في مقالنا.

الجبال في الميثولوجيا والمعتقدات:

تُجسِّد الجبال رمزيّات مختلفة تعبّر عن القوة والصلابة إلى جانب صفات عديدة تكتسي بالعظمة والشموخ. وقد اعتبِرت قديمًا أعمدة السماء التي تمسكها عن السقوط على الأرض كما في الميثولوجيا الإغريقيّة المُعبّر عنها بالإله أطلس. (1) وفي الميثولوجيا المصريّة أيضًا التي نجد فيها جبل الشرق باخو والغرب مانو اللذان يمسكان السماء. (2) مع ميثولوجيات متفرِّقة في العالم لدى الكثير من الشعوب.
أما الآلهة فكانت مقرّها الجبل الكونيّ مثل جبال الأولمب في الميثولوجيا الإغريقيّة، (3) أو جبل صفون الذي سكنه الإله بعل في الميثولوجيا الكنعانيّة. (4) وكذلك مسكن إله الهواء الرافدينيّ إنليل المسمى بالإيكور؛ أيّ بيت الجبل. (5) أما عند بعض الشعوب كسكان شمال إفريقيا فقد جعلوها ملجًأ وسكنًا للجنيّات بصورة مكثّفة، (6) كما يروي “هسيود” أنّ ربات الفنون الإغريقيّات كنّ يرقصن فوق قمم الجبال. (7) وما من شكّ في أنَّ كل التصوُّرات السابقة تعود إلى سطوة هذه التضاريس وتأثيرها على نفس الإنسان بمنظرها المهيب الذي تعلو به على الأرض إلى السماء.

وكان الجبل في بلاد الرافدين يُستعمل من عدة نواحي منها الإيجابيّ لإظهار قوة الملك أو الإله فنجد عدة ملوك آشوريّين تسموا به إظهارًا لقوَّتهم وسلطتهم، مثل: “آشور ناصر بالي الثاني” الذي كان من ألقابه: الملك الذي تُفتِّت أوامره الجبال، و“توكولتي نينورتا الثاني” الذي كان لقبه: ملك الجبال والسهول الفسيحة. (8)

إضافة إلى ذلك، فإننا نجد ملاحم وبطولات وأساطير تظهر الملك على أساس القائد القويّ الذي يهزم الجبل أو يتغلَّب على المصاعب من خلال اجتياز طريق الجبل مثل ما نقرأ في ملحمة جلجامش حين ذهب إلى جبال غابة الأرز بلبنان. (9) أوالملك الأكديّ سرجون الأول حين اجتاز جبال بورشخندا، (10) وكذلك الملك الآشوريّ سرجون الثاني الذي يتحدّث فيه عن أحد الجبال وعظمته أين تعيش به إحدى الآلهة. (11)
فكل تلك الأساطير والقصص كُتبت لتقريب الملك الإنسان من الإله الذي كان يقهر الجبال، كما نرى أيضًا في أساطير نينورتا ابن الإله إنليل التي تعود إلى الألفيّة الثانية ق.م ما يلي: “أيها العنز السماوي أنت من تطأ الجبل بحافرك إذ لا أحد قط يمكنه مقاومة نينورتا ابن انليل” وكذلك حين “أطلق الإله -نينورتا- صرخة اهتزت لها أسس السماء والأرض تكبكبت على قدميه حتى أن انليل بذاته تملكه الخوف وهجر الإيكور مضطربًا حتى أنّ الجبل تشقّق والسماء أظلمت وارتجف الإينونا” (12)
أما في أسطورة إنانا بعنوان: إنانا تخضع جبل إيبخ. فهي تُصوِّر إنانا آلهة الحب والجنس والحرب الرافدينيّة تحارب أحد الجبال المسماه إيبخ وتخضعه بعدما كان شامخًا وعظيمًا. (13)

إعلان

كما كانت مثل هذه الأساطير تشير إلى رسالة ثانية إلى جانب التعبير عن قوة الإله في شقّها السلبيّ، حيث أنَّ الجبال كانت تُعدُّ من أكثر الأماكن الخطرة على الإنسان بوجود القبائل العنيفة التي تعيش فيها وتُعتبر تهديدًا للمملكة، وبذلك فقد مثَّلت الصراعات التاريخيّة والسياسيّة كما في أسطورة جبل إيبخ التي تجسِّد صراع السومريّين مع الكوتيّين سكان الجبل. وعودةً إلى الجانب الإيجابيّ فإنّها مُعبّرة عن القيمة الإقتصاديّة والتجاريّة للبلاد كما في أسطورة الإله نينورتا التي تجسّد الاستيلاء على موارد الجبل وما فيه من معادن وأحجار.

وقد  تصوّر الإنسان القديم والمؤمن، الجبل مكانًا مقدّسًا هو مركز العالم يربط الأرض بالسماء التي تتواجد بها الآلهة ومقرّها، ما جعله يقيم عليها معابده ومذابحه. (14)
فالإنسان إذن ربط الجبال بفكره الدينيّ الأسطوريّ وأضفى عليه طابع الجلال واستغلّه أيضًا لتمجيد نفسه وبطولاته، كما شخصّه على هيئة مخلوق أو إله ما ونسج قصصًا عنه.

الحدائق في الميثولوجيا والمعتقدات:

إنَّ الشجرة في المعتقدات القديمة كانت رمزًا للخصوبة وروح الكون، فهي مقدّسة عند العديد من الشعوب في العالم منذ العصور الحجريّة ولا يختص بها شعب واحد فقط.
فمن الأشجار التي قدّسها الإغريق كانت شجرة السنديان. (15) أما في مصر القديمة فقد قدّس سكانها عدة أشجار كان قد ولد بجانبها أحد الآلهة أم صارت ملازمة لهم، ومنها شجرة: الأشد، التي يصوَّر الملك رمسيس الثاني أمامها. (16) أما بلاد الرافدين فقد قدّست أشجار النخيل حيث كانت تعبّر عن رمز الحياة لديهم خاصة الآشوريّين، كما قاموا بتصويرها في نقوشهم. (17)
وقد كان الخمر مهمًا في حضارات غرب آسيا حيث كان يُصنع من النخيل، والشعير، والكروم الذي كان هذا الأخير ينمو خاصة في جبال لبنان وسوريا، مع أشجار التين والرمّان وعدّة فواكه أخرى. (18)
وكان الرمّان والكروم من بين الفواكه التي تحدَّث عنها الملك تحتمس الثالث في حملته على بلاد سوريا. (19)
ناهيك عن أهميته في الحياة الأخرى بعد الموت بالمعتقدات المصريّة حيثما توجد بالجنة حقول من القمح والشعير وأشجار الزيتون، وفواكه مثل: التين والنخيل والكروم مع الخمر، وحيث كان يتسنى للشخص فيها أن يتزوج وينعم بالسكينة فيها.(20)

نقرأ في نصوص الجنس المقدّس الموثَّقة في الألواح الطينيّة المسماريّة ولاسيما التي تخص الإلهين إنانا ودوموزي الرافدينيّة -سنراها لاحقًا- عدة إشارات جنسيّة واضحةً، حيث تتحدَّث النصوص عن الأشجار التي تشير إلى الجنس والرغبة، فأشجار التفاح والرمان عدت من رموز الحب والجنس. (يمكن لكلمة التفاح المترجمة أن تعني فاكهة أخرى في ذلك الوقت) وقد كانت الفواكه والنباتات كذلك تستعمل في رقيات وأدوية للحصول على الحمل والخصوبة.

كما اتصلت الفاكهة بالخطيئة كما نرى في أسطورة أنكي الذي عاش في جنة الآلهة مع زوجته ننخرساج قبل أن يتزوج أحد الإلهات مقدمًا لها “التفاح” و“المشمش”، ليتناول بعدها أحد النباتات المحرّمة عليه فيتعرض للموت. وقد كانت هذه الجنة التي ذُكرت في عدّة نصوص رافدينيّة خاليّة من الأمراض والشيخوخة والأقذار الجسديّة أيضاً. (21)

وإليكم هذا النّص حول إنانا ودوموزي الذي أشرنا إليه قبلًا: “أختاه (حبيبتي) بودّي أن أذهب معك إلى بستاني، أي أختي أريد الذهاب معك لرؤية بستان الفواكه، أي أختي أريد الذهاب لتفقد (بستان) التفاح، لكي أتناول بيدي ثمار تفاحي، أي أختي أؤيد الذهاب معك لتفقد شجر الرمان وأقطف منه الحلو والمعسل” (22) وكذلك نقرأ الآتي: “دوموزي أدخلني إلى حديقته… و على الفور اتخذت وضعيتي تحت شجرة التفاح…” (23)

وتتواجد في الميثولوجيا الإغريقيّة حديقة التفاحات المقدّسة التي كانت تأخذ ثمارها بنات أطلس خفيةً عن الإلهة هيرا مالكة الحديقة التي وضعت بها تنينا يحرسها، حيث سعى الكثيرون إليها ومنهم هرقل، (24) وكان ديونيسيوس إله الخمر والكروم في الميثولوجيا الإغريقيّة (25) كما ويشير إسمه إلى جبل نيس (Nysa).

ولقد لقِّب الحبيب في بعض نصوص الحب المسماريّة بالبستانيّ مثلما سنرى لاحقًا، ففي النّص الذي يذكر شخصية أنكيمدو الفلّاح والبستاني الذي فضلّته إنانا زوجًا لها على الراعي دوموزي. (26) ولعل أسطورة اغتصاب إنانا من طرف شخصية البستانيّ شوكاليتودا حين اقتحمت بستانه. دليلًا على ارتباط هذا المنحى الزراعيّ بذلك أيضا. (27)

ووصلت علماء الآشوريات رقيات لسحر الحب عن طريق فواكه مثل التفاح والرمان باللغة السومرية والأكديّة، وقد عِرِف عن نبات كان يسمى باللغة الأكدية القديمة: بيلو، أنَّه يساعد على الإخصاب ودفع العواطف خارجًا. (28)

وهذه واحدة من الرقيات السابقة التي ذكرناها:
“المرأة الجميلة جلبت الحب، إنانا التي تحب التفاح والرمّان جلبت القدرة على الجماع” (29)

ونقرأ في أخرى كذلك الكلمات الآتية:
“لأجل امرأة تنظر إلى قضيب رجل (الطقس) إما إلى التفاح أو الرمّان، تتلى الرقية ثلاث مرات، أنت تعطي الفاكهة إلى المرأة ثم اعصر عصيرها، تلك المرأة يمكن أن تأتي إليك سوف تمارس الحب معها” (30)

ونعثر على إنانا وهي تصف عضوها الأنثويّ بالحقل الذي يحتاج إلى الحراثة، (31) وهو الشيء الذي نجده في عدة معتقدات، مثل أحد نصوص الأتارفيدا الهندوسيّة التي تُشبَّه المرأة فيها بالأرض الحيّة التي يجب أن يزرع فيها البشر (32) وأيضًا في أحد المسرحيّات الإغريقيّة، وتعاليم الحكيم بتاح حتب المصريّة. (33)

أما الأنهار فهي تقترن بالبساتين والأماكن الخصبة وقد احتَّلت الأنهار مكانًا في الميثولوجيّات عند مختلف الشعوب فقدّس المصريّون نهر النيل المسمى بحابي. (34) كما قدّس الرافدينيّون النهر لاعتباره هو أداه الحكم بالبراءة أو التهمة (35) وكان النهر في فينيقيا مقدَّسا كذلك مثل نهر أدونيس المسمى حاليًا بنهر إبراهيم مع نهر أسكيلبيوس أيضًا. (36) أما نهر ستيكس فقد كان النهر المقدّس في الميثولوجيا الإغريقيّة الذي حظي بشهرة كبيرة. (37)

تعتبر الحدائق إذن والواحات والحقول والبساتين وما فيها من أشجار وفواكه من رموز الحب أيضًا فأينما وجدت البساتين مع محبين أو شخصين يتّم الحصول فيه على المغازلات والإيحاءات الإيروتيكيّة، فالبساتين والأماكن الجميلة الهادئة تمهّد لحصول الشهوة وأفعالها.

العهد القديم:

الجبال: تحتل الجبال في أسفار العهد القديم بالكتاب المقدّس عند اليهود والمسيحيّين مكانة كبيرة وقد ذكرت عشرات المرات، ففي جبل سيناء تجلى الرّب إلى موسى. (38) وقد كان المكان الذي أنزِلَت فيه الوصايا العشر أو لوح الشريعة. (39) كما كانت خيمة الاجتماع على الجبل كذلك. (40) وقد وصف الرّب الجبل بأنّه سكنه. (41) ويتكرَّر ذكر جبل صهيون بأورشليم وهو المكان الذي دُفن به الملك داوود في عدة أسفار، كما يبني الأنبياء مذابحًا على عدة مرتفعات وجبال. (42)

ونرى في سفر التكوين قوَّة الرب وطوفانه الذي وصف فيه أنَّ الجبال تغطَّت من المياه. (43) كذلك قوَّته التي منها “تزلزلت الْجبال من وجه الرَّب، وسيناء هذا من وجه الرّب إِله إِسرائيل.” (44) كما أنَّ الأرض “ارتجت وَارتعشت، أسس الْجبال ارتعدت وارتجّت لأَنَّه غضب” (45) وتوصف الجبال بسفر المزامير أنّها ذابت أمام الرّب كالشمع. (46)
ويمكننا أن نبني كذلك ارتباط الجبل بالبساتين والجنس في قصة يفتاح بسفر القضاة الذي نذر نذرًا إلى الرّب أن يذبح ابنته التي طلبت منه أن يتركها شهرين تبكي عذريتها في الجبال قبل التضحية بها. (47)

وأيضاً في نشيد الإنشاد القائل: “صوت حبيبي، هوذا آتٍ طافرا عَلَى الْجِبَالِ، قافزا على التّلال” (48)

إنّ الجبال في العهد القديم هي من أهم الأماكن، حيث الوصايا تنزل عليه، ويرى فيه النبي رّبه ويحدّثه، وتحدث به حكايا العشق أو الرغبات، وتتجلّى فيه رمزيّات الجسد الطاهر العذراويّ وما يرتبط به من الخلوة مع النفس والبكاء.

الحدائق: نرى الشجرة في العهد القديم في سفر التكوين التي تناول منها آدم وحواء وتلك كانت خطيئتهما التي جعلتهما يُطردان من الجنّة حتى يواريا عورتهما بأوراق التين وظهور العورة هنا دلالة واضحة على مدى الرمزيّة الجنسيّة للشجرة والأوراق، من دون أن نذكر التفسيرات المسيحيّة أو الأكاديميّة التي تجعل من تناول ثمار الشجرة سببًا للوقوع في الفعل الجنسيّ بجانبها لدى آدم وحواء.

كما لا يغيب عنا تلميحات لخلود آدم وحواء في جنّة عدن المليئة بالأشجار حين قال الإله: “وأما شجرة معرفة الخير والشرّ فلا تأكل منها لأنّك يوم تأكل منها موتاً تموت” (49) (هناك عدة تفاسير لاهوتيّة مختلفة للآية) وكان ذلك قبل معصيتهما وتناولها للشجرة المحرّمة التي جعلت يهوا يسلّط عليهما الموت والتعب والمرض في الأصحاح الثالث من سفر التكوين.

لقد تم الحديث عن عدة أشجار كذلك في الكتاب المقدّس ومدحها مثل شجرة السرو والسنديان، (50) ونكتشف عدّة نصوص تشير إلى شجرة التين وفاكهتها كالذي نجده في نشيد الإنشاد حين يتحدَّث فيه عن هذه الفاكهة وينادي الحبيب الحبيبة. (51) ونقرأ في نفس السفر هذين النصين: “لنبكّرنّ إِلى الكروم، لننظر: هل أزهر الكرم؟ هل تفتح القعَال؟ هل نوّر الرمّانُ؟ هنالك أعطيك حبّي” كذلك: “نزلت إِلى جنّة الْجوز لأنظر إِلى خضر الوادي، ولأنظر: هل أقعل الكرم؟ هل نوَّر الرمّان؟” (52)

أما في سفر ارميا، فهو يشبِّه المرأة التي تطلَّقت من زوجها وتزوجت آخر بالأرض النجسة إذا أراد الزوج الأوّل أن يعود إليها. (53)
ونقرأ في سفر دانيال قصة سوسنة حين يحاول رجلان اغتصابها بعد أن كانت في حديقتها تغتسل إلَّا أنّ خطَّتهما لم تنجح وبسبب ما وقع فقد لفّقا لها تهمةً مفادها أنَّ سوسنة كانت تزني مع أحدهم، غير أنّ النبي دانيال اكتشف الخدعة حين سألهما سؤالًا واحدًا كانت إجابتهما مختلفة وهو عن المكان الذي كانت تزني فيه. ليجيب الأول أنَّ المكان كان تحت شجرة السنديان أما الآخر فقال: تحت شجرة الضروة. (54) ولا شكّ أنّ دلالة الحديقة هنا التي وقع فيها محاولة الاعتداء بعد ذهابها للغسل، مع شجرة الزنى واضحة في هذه القصة لكل قارئ.

كما نرى رب إسرائيل يقدِّم أرض الموعد للعبرانيّين وكأنّها جنّة حيث يقول وفي عدة نصوص تتكرّر: “ترثون أنتم أرضهم وأنا أعطيكم إياها لترثوها أرضا تفيض لبناً وعسلاً” (55) ويَعِد الرّب أيضا شعب إسرائيل بالأنهار والينابيع التي تتفجّر في هذه الأرض الموعودة. (56)
أما في سفر العدد فيُقال لموسى في عتاب: “كذلك لم تأت بنا إلى أرض تفيض لبنًا وعسلًا ولا أعطيتنا نصيب حقول وكروم، هل تقلع أعين هؤلاء القوم؟ لا نصعد” (57)
وهكذا فنحن نلمس في العهد القديم تقديسًا أو ثناءً لبعض الأشجار، أو بساتينًا وأراضٍٍ تصل بينها وبين الجنس أكان ذلك جنسًا مشروعًا أم غير كذلك، مع تقديم فلسطين كأرض مثل الجنّة الإلهيّة النقيّة والخالية من كل مأساة ونقص.

القرآن:

الجبال: يتواجد بالقرآن الكتاب المقدّس لدى المسلمين عدة آيات تظهر عظمة الله من خلال أحداث القيامة التي تتهدّم فيها الجبال والتي يفسّرها المفسّرون في القرآن على أنَّها عماد الأرض التي تمسكها عن الاهتزاز. مثلما كانت الجبال في المعتقدات القديمة التي رأيناها تمسك السماء. (58)

فالجبال الشامخة التي يصفها الله أنّها كالأوتاد والرواسي يمكنه بسهولة جعلها غبارًا بقدرته، فسورة طه تقول: “ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفًا فيذرها قاعًا صفصفًا لا ترى فيها عِوجًا ولا أمتًا”. (59)

وفي سورة الواقعة “إذا رجت الأرض رجًا وبُسَّت الجبال بسَّا فكانت هباءً مُنبثَّا” وفي سورة الطور: “يوم تمور السماء مَورًا وتسير الجبال سيرًا فويل يومئذ للمكذبين” أما سورة المزمل فنقرأ: “يوم ترتجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبًا مهيلًا” وفي سورة المرسلات: “فإذا النجوم طمست وإذا السماء فرجت وإذا الجبال نسفت”. (60)
كما أنّ الجبال الشاهقة تخضع لله فتسجد له أيضًا كما تقول بذلك أحد آيات القرآن وكذلك تسبح له في آية أخرى، فالجبال رمز القوة والصلابة تعجز أمام قدرة الله، فتطيعه وتذّل نفسها له. (61)

والأمر لا يعتمد على الجبال فقط كما رأينا؛ بل حتى السماوات والنجوم والشمس والقمر لإظهار عظمة الله وتبعية مخلوقاته التي كانت يومًا ما آلهةً مستقلة عن سلطته ومكلَّفة بمهمات مقررّة حسب ماهيتها كما ظنّ بذلك الإنسان الذي آمن بتعدّد الآلهة.

الحدائق: ومثلما ما ذُكر بالعهد القديم نحن نرى قصة آدم وحواء الزوجين اللذين عاشا في الجنة سواء كانت حديقة وبستان خصب على الأرض أم في السماء حسب الكتابين المقدّسين مع اختلافات وفروقات بسيطة.

يحذِّر الله آدم في القرآن من تناول أحد أشجار الجنة قبل أن يفعل ذلك مع زوجته لتنكشف عورتيهما فيسارعان إلى تغطيتها بورق الجنة، كما في هذه الآية: “ويا آدم اسكن أنت وزوجك الْجنّة فكلا من حيث شئتما وَلا تقرَبا هذه الشّجرة فتكونا من الظّالمين فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما وُورِي عنهما من سوءاتهِما وَقال مَا نهاكما ربّكما عن هـذه الشّجرة إِلا أَن تكونا ملكين أَو تكونا من الْخالدين وَقاسمهم إِنّي لكما لمن النّاصحين فدلاهما بِغرورٍ فلمّا ذاقا الشّجرة بدت لهما سوءَاتهما وَطفقا يخصِفان عليهما من ورق الْجنّة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة..” (62)

لقد عاش آدم مع حواء في الجنة يأكلان من أشجارهما في عصرهما الذهبي ذاك قبل خطيئتهما تلك، وإنّ رمزية الرغد والنعيم لا تنفك عن الظهور مجددًا في وعد الله المؤمنين بالجنّة التي تمثِّل نسخة منقحة ومثاليّة عن الأرض، حيث نجد أنهارًا من العسل واللبن، وعيون تجري فيها، وفواكه شتى أمثال الرمّان والعنب وأخرى لم نرها من قبل.

كما يأتي الجنس هنا ملازمًا لهذا الخصب من الأرض الغنيّة والفاكهة الكثيرة عبر فوز المؤمن بالحور العين التي من مهامهن الأساسيّة توفير بيئة جنسيّة مكثّفة للمؤمن. حيث يذكر في إحدى السور: “إِنّ الْمتّقين في مَقامٍ أَمين في جنّات وعيون يلبسون من سندسٍ وإِستبرق مّتقابلين كذلك وزوّجناهم بحور عِين يدعون فيها بكلِّ فاكهة آمنين” (63)

وتُذكر النساء والأزواج بشكل عامٍ في هذا النص القرآنيّ الآتي: “وبشِّر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أَنَّ لهم جناتٍ تجري مِن تحتها الْأَنهَار كلّما رزقوا منها من ثمرة رِّزقًا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابهًا ولهم فيها أزواج مُطهَرة وهم فيها خالدون” (64)

وعلاوة على ما سبق، يرتبط الحقل بالعضو الجنسيّ للمرأة في القرآن كذلك في قوله: “نساءكم حرثٌ لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم…” (65)
ورغم أنّ الجنّة الأرضيّة في العهد القديم التي تخص أرض فلسطين تتشابه مع الجنة الإلهيّة في القرآن فلا ذكر للخلود فيها، كما لا ذكر لحياة آخرة بعد الموت حيث تخلد النفس بشكل صريح باستثناء الهاوية، إلا أنّ هناك آيات غامضة ترد فيها كلمات مثل الحياة الأبديّة والتلميح إلى وجودها، ناهيك عن جنة عدن التي تناولناها سابقاً، (66) عكس ما هو مذكور في العهد الجديد بصفة صريحة قاطعة حول وجود الخلود، و منه وبعده القرآن الذي أكّد ذلك أيضا حين جعل المؤمن يعيش خالداً في الجنّة يستلذّ منها وينعم بنعيمها وخيراتها مع مناظرها من دون كلل وملل ومن دون موتٍ أيضا مثلما ورد في سورة الزمر والفرقان. (67)

فالجنّة القرآنية إذن لا تختلف كثيرًا عن الحدائق التي كانت تتواجد في مخيّلة الإنسان القديم، وما احتوته من رموز الخصب والحب والجنس وشرب الخمور حيث كل شيء مباحًا وحيث يُستَمتع به للأبد في حالة من الكمال الإنسانيّ والصحة، لاسيما حين نعلم أنّ القرآن جاء يخاطب وعي الإنسان في فترته التاريخيّة تلك.

خاتمة:

دائما ما تحفر الجبال صورةً وأثرًا عظيمًا في نفوس الأفراد والشعوب سواء كانت إيجابيّة تثير فيهم مشاعر الجمال أم سلبية تبث فيهم الرعب، بعلوّها الشاهق وكبرها، مع أدغالها وطرقها الوعرة فلا عجب من أنّ الإنسان كان يبني فيها مذابحه ومعابده، ويعيش فيها أيضًا ويعتقد بوجود آلهة تعيش بها كما كان يعدّها مكانًا يربط بين السماء والأرض.

وإنّ بيئة مثل الأرض الخصبة المليئة بالأشجار المثمرةِ لفواكة عديدة ناضجةً في أوانها، مع صوت المياه الذي يُسمع من الأنهار أو الينابيع يحفّز المخيال الإنسانيّ ويربطه مع الجسد والإيروتيكيّة أكثر.
فالأرض الهادئة والجميلة مكان مناسب لمثل هذه الممارسات الحميميّة وإنّ مثل هذه المناطق يمكن أن تتواجد في الجبال أيضا فهما متّصلان معًا، فلا عجب إذن من تقديسهما.

المراجع:
1 - د.عبد المعطي شعراوي، المعتقدات الإغريقية، الجزء الأول أساطير البشر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص:74.
  - هيرودوت، أحاديث هيرودوت عن الليبيين الأمازيغ، ترجمة وتعليق الدكتور مصطفى أعشي، منشورات المعهد الملكية للثقافة الأمازيغية، ص:66.
2 - روبير جاك تيبو، موسوعة الأساطير المصرية، المشروع القومي للترجمة، ترجمة: فاطمة عبد الله محمود، ص:9.
3 - هسيود، أنساب الآلهة، ترجمة: صالح الأسمر، منشورات الجمل، ص:40.
4 - د. أدزارد، م.ه مع بوب، ف. رولينغ، قاموس الآلهة والأساطير في بلاد الرافدين في الحضارة السورية، دار الشرق العربي، ترجمة: محمد وحيد خياطة، ص:241، 
  - ج، كونتنو، الحضارة الفينيقية، مركز كتب الشرق الأوسط، ترجمة: الدكتور محمد عبد الهادي شعيرة، ص:131.
5 - قاسم الشواف مع أدونيس، ديوان الأساطير الجزء الأول، دار الساقي، ص:50.
  - نفس المصدر السابق، الجزء الثالث، ص:36 
6 - راني باصي، أبحاث في دين الأمازيغ، دفاتر وجهة نظر، ترجمة: حمو بوشخار، ص:29، 30، 31.
7 - أنساب الآلهة، منشورات الجمل، هسيود، ترجمة: صالح الأسمر، ص: ص28.
8 - أ.م.د عامر عبد الله الجميلي، الجبال في الكتابات العراقية القديمة، كلية الآثار جامعة الموصل، ص: 5
9 - طه باقر، ملحمة جلجامش، الوراق للنشر، ص:121- 124.
10 - أ.م.د عامر عبد الله الجميل الجبال في الكتابات العراقيّة القديمة، مرجع سابق، ص: 4
11 - أيفا كانجيك كيرشباوم، تاريخ الآشوريين القديم، دار الزمان، ترجمة: د. فاروق اسماعيل، 71, 72
12 - قاسم الشواف مع أدونيس، ديوان الأساطير الجزء الثالث، مرجع سابق، أدونيس، ص: 59، 60.
13 - نفس المرجع السابق، 244، 247.
14 - مرسيا الياد، المقدّس والمدنس، دار دمشق للطباعة والنشر و التوزيع، ترجمة: عبد الهادي عباس، ص: 36.
15 - هيرودوت، أحاديث هيرودوت عن الليبيين الأمازيغ، مرجع سابق، ص:32.
16 - روبير جاك تيبو، موسوعة الأساطير المصرية، مرجع سابق، ص:32، 201، 202، 350.
17 - جورج كونتينو، الحياة اليومية في بلاد آشور وبابل، دار الشؤون الثقافية العامة، ترجمة: سليم طه التكريتي، ص:140.
   - هاري ساغز، عظمة بابل، دار رسلان، ترجمة:خالد أسعد عيسى، أحمد غسان سبانو، صفحة تمثل جدارية آشورية (غير مرقمة ما بين ص: 253 و ص:257)
18 - جورج كونتينو، الحياة اليومية في بلاد آشور وبابل، مرجع سابق ص:134، 135، 146.
   - ج، كونتينو، الحضارة الفينيقية، مرجع سابق،ص:30
19 - انظر: موسوعة مصر القديمة الجزء الرابع عهد الهكسوس وتأسيس الإمبراطورية، سليم حسن، "تحتمس الثالث - انفراده بالحكم" 
https://shorturl.at/fAIKZ
20 - والاس بدج، آلهة المصريين، مكتبة مدبولي، ترجمة:محمد حسين يونس، ص: 192، 193.
   - انظر أيضا لمزيد من المعلومات مقالتي: https://elmahatta.com/يوم-الحساب-واﻟﺠﻨﺔ-ﻓﻲ-ﻣﺼﺮ-ﻣﺎ-ﺑ/#
21 - قاسم الشواف مع أدونيس، ديوان الأساطير الجزء الأول، مرجع سابق، ص: 27، 28، 33، 34، 35، 36.
22 - نفس المرجع السابق، ص: 170.
23 - نفس المرجع السابق، ص: 135.
24 د. عبد المعطى شعراوي، المعتقدات الإغريقية، الجزء الأول أساطير البشر، مرجع سابق، ص:76، 78.
25 - أحمد عثمان، الشعر الاغريقي، عالم المعرفة، ص:173.
26 - قاسم الشواف مع أدونيس، ديوان الأساطير ديوان الأساطير الجزء الأول، مرجع سابق، ص:107، 110
27 - نفس المرجع السابق، ص:85.
28 - حكمت بشير الأسود، أدب الغزل ومشاهد الإثارة في الحضارة العراقيّة القديمة، المدى، ص: 126، 127.
29 - نفس المرجع السابق، ص:152.
30 - نفس المرجع السابق: ص: 152.
31 - قاسم الشواف مع أدونيس، ديوان الأساطير الجزء الأول، مرجع سابق، ص:123، 124.
32 - مرسيا الياد، المقدّس والمدنس، مرجع سابق، ص: 123.
33 - سوفوكليس، تراجيديات سوفوكليس، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ترجمها عن اليونانية الدكتور عبد الرحمن بدوي، ص:138.
   - ويل ديورانت، قصة حضارة، الجزء الثاني، المجلد الأول، دار الجيل للطبع والنشر، المنظمة العربية للتربية والثقافة و العلوم، ص:97.
  Will Durant, The stroy of civilisation 1 , our oriental heritage , Chapitre VIII , Simon And Schuster   , p165
34 -الدكتور محمد بيومي مهران، الحضارة المصرية القديمة الحياة الدينية، دار المعرفة الجامعية، ص:388. 
35 - قاسم الشواف مع أدونيس، ديوان الأساطير الجزء الأول، مرجع سابق، ص:77.
36 - ج، كونتنو، الحضارة الفينيقية، مرجع سابق، ص:132، 133.
37 - https://greekmythology.wikia.org/wiki/Styx_(Titaness)
38 - سفر الخروج [19: 14-19]
39 - نفس المصدر السابق  [24: 12-18]
40 - نفس المصدر السابق الإصحاح 25، 26.
41 - سفر المزامير [68: 16]
42 - انظر فيما يخص جبل صهيون: سفر المكابيّين الأول [4:37]، سفر اشعيا [10: 13]
   - انظر فيما يخص قبر الملك داوود:
httpss://en.m.wikipedia.org/wiki/David%27s_Tomb
   - سفر الملوك الأول [2: 10]
   - انظر فيما يخص بناء المذبح: سفر يشوع [8: 30]، سفر التكوين 
     [22: 13،  14] 
43 - سفر التكوين [7 : 20]
44 - سفر القضاة [5 :5]
45 - سفر المزامير [18: 7]
46 - نفس المصدر السابق [97: 5]
47 - سفر القضاة [11: 35-38]  
48 - نشيد الانشاد [2: 8]
49 - سفر التكوين [2: 17]
50 - سفر اشعيا [60: 13]
51 - نشيد الانشاد [2: 13]
52 - نشيد الإنشاد [ 7: 12] [ 6: 11]
53 - سفر ارميا [3: 1]
54 - سفر دانيال [13: 1- 61]
55 - سفر اللاويّين [20 : 24]
56 - سفر التثنية: [8: 7]
57 - سفر العدد [16: 14]
58 - http://quran.ksu.edu.sa/tafseer/tabary/sura21-aya31.html
59 - سورة طه [105-107]
60 - سورة الواقعة [4-6]، سورة الطور [9-11]، سورة المزمل [14]، سورة المرسلات [8-10]
61 - سورة الحج [18]، سورة الأنبياء [79]
62 - سورة الأعراف [19_22]
63 - سورة الدخان [51-55]
64 - سورة البقرة [25]
65 - نفس المصدر السابق [223]
66 - سفر أيوب [14:14]
   - سفر دانيال [12: 2]
   - سفر المكابين الثاني [7: 9]
67 - إنجيل لوقا [10: 25]
   - إنجيل يوحنا [6: 40]
   - الرسالة الثانية إلى تيموثاوس [1: 10]
   - سورة الزمر [73، 74]
   - سورة الفرقان [15، 16]

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: سارة عمري

تدقيق لغوي: رنا داود

اترك تعليقا