الأسس الابستمولوجية لمنهج ابن تيمية اللغوي

مقدمة(1-3)

أتقن العرب قبل الإسلام لغتهم أتمّ إتقان وكان لهم من نقاهة الذوق وسلامة النطق ما أغناهم عن التقنين والتوجيه لصناعة البيان أو غيره من علوم البلاغة إلا القدر اليسير كعيوب النظم والقافية ومراعاة الحال وغيرها.

ومع القرن الثاني وبعده، بدأ لحن العجم يشيع وسط المجتمع الإسلامي وزاد اهتمام الطوائف الإسلامية بالكلام وحاجتهم لتعلم فنون المناظرة والخطابة خاصة المعتزلة، وأيضًا أدى ظهور طبقات عمال الديوان وكتاب الخلفاء وأكثرهم من العجم مما زاد من رغبة المجتمع ككل في احتراف فنون البلاغة والبيان فكانت نتيجة كل ذلك ظهور ما عرف فيما بعد بعلوم البلاغة العربية؛ البيان والمعاني والبديع. وما يعنينا منها هنا المجازأكثر.

أول ما ذكر المجاز في كتابات البلاغة العربية كان في كتاب (مجاز القران) لأبي عبيدة معمر بن المثنى (110هـ – 209هـ ) ولم يكن يعنى به أكثر من بيان إعجاز القران ومعانيه وليس المجاز الاصطلاح البلاغي مقابل الحقيقة في كلام البلاغيين فيما بعد ويجدر بالذكر أن هذا القرن الثاني الهجري حوى نحويين وبلاغيين كبار لم يتحدثوا في المجاز أو يذكروه كالشافعي وسيبويه والكسائي والأخفش والفراء.
أما أول من تكلم في المجاز (وكان قد سماه المثل) الذي هو مقابل الحقيقة فهو الجاحظ المعتزلي (159 هـ-255 هـ) فكان بحق مؤسس البيان العربي وجاء من بعده في نفس القرن الثالث ابن قتيبة الدينوري فى كتابه (مشكل القران) والمبرد في كتابه الكامل.
أما القرون اللاحقة فحدث ولا حرج بدءًا بالآمدي والرماني وابن رشيق القيرواني وأبي هلال العسكري وعبدالقاهر الجرجاني والسكاكي وغيرهم. (1)

رأى الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه تكوين العقل العربي تحت عنوان “الأعرابي صانع العالم العربي” أصالة وأولوية اللغة العربية فى دراسة مكونات العقل العربي وأن فيما تم من تدوين اللغة وجمعها وتقعيدها تلك الفترة، ما يمكن أن نسميه بمعجزة العرب اللغوية نظير معجزة اليونان الفلسفية وهل هناك – كما يقول- خرقًا للعادة أبلغ وأعمق من تلك السرعة التي تم بها الانتقال من لغة لا يمكن فهمها ولا تعلمها إلا بالعيش وسط القبائل التي تتحدثها في صحاري العرب إلى لغة وفصاحة قابلة لأن تكتسب وتعلم بمناهج ومقدمات ومنهجية صارمة بل لم يكن ذلك مجرد إنشاء علم جديد وهو علم اللغة العربية من لا علم بقدر ما هو لغة جديدة هي اللغة العربية الفصحى (2).

لكن لعل د. طه حسين من قبله كان له رأي آخر، ففي مقاله “البيان العربي من الجاحظ إلى عبد القاهر” يسخر من الجاحظ (رغم اعترافه بفضله على البيان العربي) في حديثه عن أصالة العلوم البلاغية العربية في زمانه وصفائها من التأثر ببلاغات الأعاجم وآدابهم بل حتى احتقارها إلى حد قوله في كتابه “البيان والتبيين” أن اليونان لم يظهر منهم من يستحق أن يسمى خطيبًا ويصف أرسطو بأنه بكئ اللسان، وذلك كله فى رأي طه حسين إنما ناشئ من نزعته المناهضة للشعوبية.

إعلان

يحاول طه حسين في مقاله المذكور الكشف عن العامل الثقافي المستجد الذي شارك بجدية في تنامى ظاهرة التقعيد للبلاغة العربية لتبلغ ذروتها أواخر القرن الثالث الهجري فيحصر تلك المستجدات إلى أمرين أولهما كون جل كتاب الدواوين والمتكلمين من الأعاجم، وأما السبب الثاني ولعله أقوى من سابقه وهو تأثر البلاغيين بترجمة السريان لكتابي الشعر والخطابة لأرسطو الذي شرحه ابن سينا في الشفا قبل أن يلبسه عبد القاهر الجرجاني لباس البلاغة العربية تمامًا (وما هو إلا فيلسوف يجيد شرح أرسطو والتعليق عليه كما يصفه)، حتى كان تصورهم للبيان من تشبيه ومجاز قريبًا مما نجده عند أرسطو، ثم إنهم تحاشوا أن ينقلوا عنه جميع الأمثلة التي كان يمثل بها – كما يقول – ليس لشيء أكثر من أنهم لم يفهموها، فعندما يقرر أرسطو أن المجاز يقوم على التشبيه، يقول على قولة هوميروس في حديثه عن “أخيل كرّ كالأسد” فهذا تشبيه، وعندما يقول “كر هذا الأسد” فهذا مجاز. خذ أي كتاب من كتب البيان العربي فستجد فيه نفس هذا المثال سوي أنه قد استعمل فيها لفظ زيد المألوف في شواهد البلاغة والنحو بدلًا من أخيل، وإذًا لا يكون أرسطو هو معلم المسلمين الأول في الفلسفة وحدها ولكنه إلى جانب ذلك معلمهم الأول في علم الييان أيضًا – كما يقول –(3)

ولعل أقدم من تحدث عن تأثير لغة اليونان على فلسفتهم ما يحول دون القول بموضوعيتها وحيادية منطقهم هو أبو سعيد السيرافي المعتزلي، ولعله لم يخطر بباله يومها أن المنطق الذي يقارعه بحجج اللغة سيأتي اليوم الذي ينزل فيه على أحكامه مثلما نراه أيامنا هذه – كما أراد – وقد نقل لنا حديثه أبو حيان التوحيدي في كتابه “الإمتاع والمؤانسة” في مناظرته الشهيرة مع أبي بشر متى بن يونس المنطقي، يقول فيها أبو سعيد: صحيح الكلام من سقيمه يعرف بالنظم المألوف والإعراب المعروف إذا كنا نتكلم بالعربية، وفاسد المعنى من صالحه يعرف بالعقل إذا كنا نبحث بالعقل.. إذا كان المنطق وضعه رجل من يونان على لغة أهلها واصطلاحهم عليها وما يتعارفونه بها من رسومها وصفاتها فمن أين يلزم الترك والهند والفرس والعرب أن ينظروا فيه ويتخذونه قاضيًا وحكمًا لهم وعليهم وما شهد لهم به قبلوه وما أنكره رفضوه؟
أنت إذًا لست تدعونا إلى علم المنطق إنما تدعو إلى تعلم اللغة اليونانية، فكيف صرت تدعونا إلى لغة لا تفي بها؟ وقد عفت منذ زمان طويل وباد أهلها.. وأنت تنقل من السريانية، فما تقول في معان متحولة بالنقل من لغة يونان إلى لغة أخرى سريانية، ثم من هذه إلى أخرى عربية؟ (4).

اهتم الدكتور طه عبد الرحمن بهذه المناظرة في أطروحته الصادرة بالفرنسية “الفلسفة واللغة” كأول تطبيق للمنعطف اللغوي أو اللساني الحديث على الفلسفة العربية (5) وبين فيها أن فعل “الكينونة Being” غير الموجود في اللغات السامية كالعربية والتي استنتج منها أرسطوطاليس مقولاته وحاول الفلاسفة العرب حمل اللغة العربية عليه حملًا أحدث إشكالات مغلوطة لا تحترم أصول العربية ولا تداولياتها فضلًا عن سوء ترجمتها بما يحول دون فهم ربطها بمنطق لغتها الأصل (6).

في الجزء الثاني سنتحدث عن آراء بن تيمية البلاغية

المراجع :
(1)كتاب علم البيان, د.عبدالعزيز عتيق,صـ7 , دار النهضة العربية .
(2) كتاب تكوين العقل العربي, د.محمد عابد الجابري , صـ75 , مركز دراسات الوحدة العربية .
(3)مقدمة كتاب نقد النثرلأبي الفرج قدامة بن جعفر , تمهيد فى البيان العربي من الجاحظ الى عبدالقاهر بقلم د. طه حسين , دارالكتب العلمية , لبنان, بيروت....انظر أيضا "مناهج تجديد فى النحو والبلاغة والتفسير والأدب " لأمين الخولى ص146,147
(4)كتاب الامتاع والمؤانسة أبوحيان التوحيدي , ص88 , راجعه هيثم الطعيمى ,المكتبة العصرية صيدا, لبنان وانظر أيضا كتاب التركيب اللغوي للأدب ( بحث فى فلسفة اللغة والاستطيقا) د.لطفي عبدالبديع ص 22.
(5) يطلق المنعطف اللغوي الحديث على تلك التطورات التى اعترت العلاقة ما بين اللغة والفلسفة فى القرن العشرين والانتقال من التفكير باللغة الى التفكير فى اللغة ذاتها والنظر اليها كحل للمشكلات الفلسفية خاصة نظرية المعرفة ومن أبرز ممثليها اللسانى الفرنسي بنيفست والمنطقي النمساوي فتجنشتاين .
(6) طه عبدالرحمن قراءة فى مشروعه الفكري , د.ابراهيم مشروح ,الفصل الثانى :المنعطف اللغوي المنطقي وسؤال الفكر,صـ59 ,مركز الحضارة لتنمية الفكر الاسلامي.

 

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: حسن أسعد حمدان

اترك تعليقا