ماري وولستونكرافت: إطاحة النظام الأبوي (مترجم)
“يمكن للمرأةِ المتعلّمة التي تتمتّع بالسلطة على نفسها إسقاط النظام الأبوي من أجل تحسين البشرية جمعاء” ايلين هانت بوتينغ.
لم تكن الثورةُ الفرنسيّة كافيةً، بل أرادت ماري وولستونكرافت شيئًا أكثرَ من ذلك؛ فأعلنت الحربَ على النظامِ الأبوي، ودَعَت إلى ما لا يقلّ عن “ثورة في سلوكيات المرأة”. لم تكن هذه الثورة تتعلّق بكيفية الجلوس أو بطريقة الجلوس على مائدة العشاء، فبدلًا من ذلك، سعَت إلى الإطاحة بنظام التنشئة الاجتماعيّة الذي جعل الرجال والنساء أسرى لطغيان بعضهم البعض بدلاً من أن يكونوا رفاقًا فاضلين.
شنَّت وولستونكرافت حربًا مطبوعةً، استهدفت فيها عمالقةَ الأدب والفكر “جون ميلتون وجان جاك روسو وإدموند بيرك”؛ وذلك لنشرهم أفكارًا منافية للعقل وخبيثة حول دونيّة المرأة الفطرية وتبعيتها الطبيعية للرجل، وبذكائها المدبّب، سلبت أحشاءَ مجموعةٍ من كُتّابِ الدرجة الثانية، الذين استمدّوا وجهاتِ نظرهم حول تعليم الإناث من هذه الثلاثية، حيث قالت ساخرةً: “في الواقع، إن كلمةَ المذكّر ليست سوى مصدر قلق” ثم منحتهم بكلِّ سرورٍ فرضيتَهم.
من الواضح أن الرجال والنساء يختلفون في أجسادهم، وبشكلٍ عام، بدت النساء أضعف جسديًا، لكن لم يتبع ذلك وجود اختلافاتٍ أعمق في الفكر أو الفضيلة بين الجنسين، وبعباراتٍ محايدة بين الجنسين، أكّدت:
“مهما كان تأثير الظروف على القدرات، قد يصبح كل كائن فاضلًا من خلال ممارسة عقله الخاص”.
عرّفت وولستونكرافت التعليمَ باعتباره الجاني وراء عدم المساواة بين الرجال والنساء؛ حيث أثّرَ التعليمُ على كلِّ جانبٍ من جوانب الحياة، لأنّه بدأ منذ الطفولة، قبل وقتٍ طويل من تعلُّم اللغة أو الذهاب إلى المدرسة، فأعطى الآباءُ الدمى والمرايا للفتيات الصغيرات، بينما تركوا الأولادَ الصِغارَ يتسكّعون بحريةٍ في الخارج. رأت وولستونكرافت أن هذه الاختلافاتِ الجسيمة في التنشئة الاجتماعية للأطفال الصغار تحمِل عواقبَ بالكاد يمكن المبالغة فيها، وأشارت بعقلانيةٍ إلى أن: “المحنة الكبرى هي أن كلاهما يكتسبا الأعراف قبل الأخلاق، ومعرفة الحياة قبل أن يكون لديهما -من خلال التفكير- أيّ معرفةٍ بالخطوط العريضة المثالية للطبيعة البشرية”، مع ذلك، أشادَ الناسُ بالاختلاف في السلوك الذي أحدثه التعليم بين الجنسين؛ فأصبحت المرأة ترى وتقدِّم نفسها على أنها ضعيفة ووديعة، وبذلك فإنّها أكثرَ جاذبيةً للرجال.
كما شدّدت على أنه يجب مراعاة “حقوق المرأة وسلوكياتها” جنبًا إلى جنب، فإذا نشأت النساءُ على رؤيةِ أنفسهنّ على أنهنّ مجرد دُمى وألعاب للرجال، فلن يكون بإمكانهن الاستفادة من الفرصة التاريخيّة للمشاركة المدنيّة التي أتاحتها لهن الثورةُ الفرنسية. ولجلب “حقوق المرأة وسلوكياتها” إلى الانسجام، كان على الناس إعادة تصور “الحقوق والواجبات” على أنها متلازمة، ففي الحديثِ الحقوقيّ الضيّق في ذلك الوقت -حقوق الإنسان وحقوق الرجال- غرست وولستونكرافت مفرداتٍ خصبة من “الحقوق والواجبات” كونها منشقّة مسيحيّة عقلانيّة، واستمدت جميعَ الحقوق من الواجبات الأساسية التي منحها الله لها، لكنها -مثل إيمانويل كانط لم تزعمْ أبدًا أن جميعَ الواجباتِ تولَد حقًا مناظرًا؛ ففي نظامها الأخلاقيّ يتمتّع الواجب بالأولوية الأخلاقية.
أدى تركيز وولستونكرافت الأخلاقي على الواجب إلى تنشيط سياساتها الثورية، فمن أجل احترام حقوق المرأة يتعيّن على الرجال أداء واجباتهم في احترام زوجاتهم وبناتهم وأمهاتهم ونساء أخريات في حياتهم، كما أنّه على المرأة أن تتعلمَ احترام الذات، وأن تنتهز فرصًا أكثرَ من تلك الفرص الضئيلة القليلة التي أفادها بها المجتمع الأبوي، وبمجرد أن يمارس الرجال والنساء معًا واجباتهم فيما يتعلق باحترام الذات والآخرين، سيكونون قادرين نفسيًا واجتماعيًا على احترام حقوق بعضهم البعض، والاعتراف بها في القانون والثقافة.
تتطلّب نظرية وولستونكرافت عن المساواة في الحقوق وإدراكها السياسي تحولًا في كيفية إدراك الرجال والنساء لبعضهم البعض والارتباط بهم، فلم يعد بإمكان الرجال النظر إلى النساء على أنهن مخلوقاتٍ ضعيفة ومعتمِدة، أو حتّى مجرد ألعاب ودمى من أجل المتعة الجنسية، كما لم يعد بإمكان النساء أن ينظرن إلى الرجال على أنهم أسيادهنّ وسادتهن وحكّام أسلوب حياتهن بالكامل. بدأ الأمرُ بتغييرٍ في فهم الذات لكلٍّ من الرجال والنساء، إن أي تغيير نفسي بهذا العمق يتطلب إصلاح التعليم على المستوى الأعمق أيضًا، وفقط التعليم الشامل والدين يمكنهما تحقيق هذا النوع من التغيير.
كانت وولستونكرافت مربيةً ومعلمةً في مدرسةٍ ابتدائية، وتلميذةً للوزير المسيحي المنشق والمدافع عن إلغاء عقوبة الإعدام ريتشارد برايس، ومن هذه التجارب -العادية وغير العادية- تعلّمت كيفية الجمع بين التعليم والدين لدفع ثورة ثقافية من شأنها أن تجعل إيدموند بورك يرتجف، كما أنّها سوف تدفع النساءَ إلى الوقوف والتحدُّث إلى جانب الرجال على أساس المساواة الأخلاقية، بأنّها تستحق نفس الحقوق المدنية والسياسية، وأنّها تلتزمُ بنفس الواجبات التي كلّفها اللهُ بها.
ستة أسابيع من الكتابة أحادية التفكير أنتجت “دفاعًا عن حقوق المرأة”، نُشر في أوائل عام ١٧٩٢م، وحقّق نجاحًا دوليًا فوريًا، على الرغم من أن العنوان يشير إلى قدرته الانتقامية تجاه إساءة معاملة الرجل للمرأة، إلا أن حججَه خالية من الانتقاداتِ الشخصية اللاذعة أو التحيز تجاه زميلاتها من النساء، وكانت أطروحتها الأساسية محسوبة وعادلة: “لا أتمنى أن يكون لهن -النساء- سلطةً على الرجال؛ بل على أنفسهنّ”.
بينما نتصارع مع الآبويين في الحروب الإعلامية على الإنترنت، لا يزال الوقت قد حان للاستماع إلى رسالتها الثورية. وضع تفاني وعرض كتاب وولستونكرافت الخطوات الأولى نحو إسقاط النظام الأبوي من أجل تحسين البشرية جمعاء.