حكايات من السرداب.. مراجعة رواية يحدث أمس
لعل إصراري على مزاولة التجريب هو الذي جعلني غير معروف لدى عامة القرّاء العرب. الكاتب الذي لا يستقرّ على أسلوب لا يستقر له قراؤه، يبقى الاعتماد على متلقين نوعيين. -إسماعيل فهد إسماعيل
كانت تلك جزءًا من إجابة الكاتب الكويتي العراقي “إسماعيل فهد إسماعيل” الراحل عن عالمنا منذ ما يقارب الشهر، حيث رحل في الخامس والعشرين من سبتمبر الماضي. في حواره مع الجزيرة نت على سؤال وُجّه له عن الجديد الذي أضافه للرواية العربية.
قد تكون تلك الإجابة أحد المبررات لعدم انتشار اسمه بين القراء كغيره من الكتاب، والذين قد لا يملكون نفس قدرته على الإبداع.
فروايته “يحدث أمس” لا تمتلك شهرة واسعة بين القراء كالكثير من الروايات الأخرى له، عند وفاته لم يتم ذكرها بالمقالات التي ترثيه إلا نادرًا.
في السرداب الأمر يختلف. الرغبات، الطلبات، الأمنيات، الأحلام، الاحتياجات… كل هذه البشريات مجتمعة تتأطر ضمن صيغة هدف واحد… المغادرة.
كانت تلك إحدى الأفكار التي تراود سليمان طوال فترة بقائه داخل السرداب بدون علمه عن التهمة التي جاءت به إلى هنا!
سليمان بطل الرواية الرئيسي، هو ابن أحد الأتباع والمقربين لباشا من باشوات العهد الملكي العراقي، والذي أمر بتوزيع قطعة أرض على كلّ أتباعه لا يستهان بها، وتمليكهم للأراضي، ولكن على مر الزمن فرط بها واضطر للعمل فلاح أجير يوسف، والد سليمان، بعدما عاش حياة مترفة بسبب قربه من الباشا هو وعائلته، وكان لذلك التفريط آثار كبيرة على حياة سليمان فيما بعد.
عندما استقر والده بعمل حارس مخزن تمور، رأى سليمان عدم إكمال دراسته والعمل، ولكن لا تتم الأمور كما نخطط دومًا، ويحدث ما يعتبر النقطة الفاصلة بحياته. أرسله الباشا لإكمال دراسته الجامعية بالبصرة، رفض ذلك بالبداية، كان يريد التحرر من تبعية الباشا والإقطاعية ولكن لم يتم له ما يريد، ورأى أنَّ هذا دَين واجب السداد. تمر الأيام وتتقاذفه أمواج الباشا ويرى أنه مازال تابعًا ولم يتحرر، ليجد نفسه بالنهاية مدير إحدى الشركات التي ينشئها الباشا بالكويت ويعيش هناك لمدة سبع سنوات لم يعد بها إلى بلدته وبلده العراق.
تحدث حركة تموز 1958 ويسعد بها. يرى أنَّه سيتحرر من تبعية الباشا والدين الذي برقبته، ويقرر العودة من الكويت، ويعود ولكن يتم القبض عليه مشتبهًا به بدون أي تهمة من قبل قوات “أمن الثورة”.
يودع بالسجن ويلتقي بحاكم وهادي، ويتم نقلهم إلى السرداب، الذي سيقضون به عامًا كاملًا سويًا ليتم الحكم عليهم بعدها.
كل شخص جاء بقضية مختلفة، لا يعرفون بعضهم البعض ولكن تمتد أواصر الصداقة طوال الفترة التي يقضونها سويًا.. إذ يقضون يومهم في الكلام وكلّ منهم يحكي سبب مجيئه إلى هنا.
لم يكن سليمان على علم بالتهمة التي جاءت به إلى السرداب، كانت تدور الأفكار برأسه أنَّه دومًا على الهامش قبل السجن وحتى داخله. إكمال دراسته لم يكن له دخل به، عمله وحتى سجنه أيضًا.
حاكم تم القبض عليه بسبب قيامه بسرقة الأسلحة التي كانت عهدته بأحد مقرات “أمن الثورة” التي يعمل بها.
هادي تم القبض عليه بتهمة تهريب متسللين إيرانيين إلى الكويت، والذي يكتشف فيما بعد أنهم كانوا جنودًا ولم يكن على علم بذلك.
تظهر الرواية أحد المشكلات التي واجهت حركة تموز، أمّن الثورة مجموعة مسلحة تشبه المقاومة الشعبية، تكونت ظنًا منهم أنَّ حركة تموز بخطر وهناك حاجة إلى حمايتها، وعدم ثقتهم بمؤسسات الدولة السابقة ظنًا منهم استمرار ولائهم للملكية. ومع الوقت يكتسبون قوة وسلطة فوق سلطة الشرطة، حتى في عدم وجود صفةٍ رسمية لهم.
يقومون بالقبض على المشتبه بهم من وجهة نظرهم بدون التحقق من ذلك ولا مجال للنقاش معهم -مثلما حدث مع سليمان-، وقع سليمان ضحية سوء فهمٍ قضى بسببه عامًا من حياته داخل سرداب.. لا يعلم ماذا فعل، وما الذي جاء به إلى هنا!
كانوا يعتقدون أنه أحد رجال العهد البائد ويسعى لزعزعة استقرار الجمهورية الوليدة؛ وكلها افتراضات وهمية اعتمادًا على بعض الأوراق التي لسوء حظه وجدوها معه.
“إقامة دائمة في الكويت، ورحلات مرتبة.. البحرين، إيران، المغرب، بريطانيا. أهي مصادفة أن تكون كل هذه الارتباطات بدول ذات أنظمة ملكية؟”
كل الأحداث يتم حكيها من داخل السرادب، على لسان الشخصيات الثلاث؛ سليمان وحاكم وهادي.
هادي يحكي لهم عن سبب القبض عليه، عن حياته، عن زوجتيه، العراقية والإيرانية، عن ولديه منهما: أحدهما بالجيش العراقي والآخر بالإيراني، عن دوره بالتهريب بين البصرة والمحمرة بدءًا ببعض الأمور البسيطة، ثمّ -مع صعوبة المعيشة- اضطراره للموافقة على تهريب البشر رغم تكثيف الحراسة من الجانبين العراقي والإيراني.
حاكم تنقلب حياته رأسًا على عقب بعد أحد الليالي، فيقول:
“حياتي اللاحقة برمتها أخذت تتشكل بدءًا من تلك الليلة.
صوته يتلون حنينًا:
“أحمد بالذات كان بالنسبة لي المثال المحتذى. المرة الأولى في حياتي أصادف رجلًا يتطوع يرعاني، وينفق علي بكرم، يخجلني دون انتظار لرد جميل.”
تتغير حياته للأفضل حينها، ويتحول لبطل شعبي داخل العراق وحتى خارجها خلال الفترة الملكية، حيث تكتب عنه الصحافة المصرية حينها بعد قيامه بالاشتباك مع صديقة أحمد بأحد جنود الإنجليز بفندق شط العرب، الذي يصاب أحمد بسببه بشلل ويتم محاكمة حاكم.
فيقول حاكم:
“غير هذا، عرفت أن الصحف المصرية كتبت عن الحادث، وأذيع من صوت العرب. يعود إلى الصياغة الإخبارية:
-نظام نوري سعيد العميل يعتقل شابًا عراقيًا غيورًا على عروبته وقوميته.. كان قد تصدى لزمرة من العملاء والجواسيس الإنجليز، فأوقع فيهم إصابات خطيرة.
سليمان معربًا عن دهشته:
-صرت بطلًا فعلًا!”
أيام الجامعة كانت بعض الزميلات يشكّلن عالمًا قائمًا بهن، وكنتَ من خلال تماسك العابر تشعر بمدى خصوصية هذا العالم وانغلاقه. نهج حياتك برمتها ارتبط بهاجس العمل. وما دار في بالك وأنت تعطي وقتك كله للعمل أن شيئًا اسمه الحب له وقته الخاصّ به أيضًا.
لم يكن يعرف عن الحب شيئًا حتى جاءت نجوى وكانت” هي التعويض الأروع” كما يقول.
بداية تعارفهما كانت تصادمية إلى حد كبير، سوء فهم متبادل بينهم، ولكن لا يستمر سوء الفهم هذه المرة وتأتي للعمل داخل الشركة التي كان مديرًا بها، ويتم تدريبها كي تكون المسؤولة مكانه حتى يعود إلى بلده من جديد، يتم التقارب ويولد الحب.
“-هو نوع من التفرد. نوع من التميز. أن أكون أنا وأن تكون هي.
وسط انغماسنا بالعمل لتتوقف لتخصني بشيء ما يعتمل في داخلها..
يحاول يجد تعبيرًا أكثر مناسبة.
-هذا الاقتراب العفوي الدافئ..”
تتوالى الأيام بالكويت ويطرأ تغير مفاجئ على أيامه وعلى حياته بالكويت، تزينها له نجوى.. يشاركها شغفه الأكبر، القراءة.
تحافظ نجوى على حبها له، حتى بعد سجنه ولا أحد يعلم مكانه ولا يعلم عنه شئ ولم هو مختفي كل هذا؟ وتبحث عنه، حتى وصلت لأهله وأخبرتهم بأنها خطيبته.
يخبره صديقة مصطفى الذي ذهب معه كضامن لخروجه من السجن (بعدما لم تجد المحاكمة سبب في احتجازه تم الإفراج عنه ولكنها تظل براءة مشروطة) أنّ:
“-المرأة الجميلة نجوى عرّفت أهلك بنفسها على أنها خطيبتك.
لا مكان للإحساس بالتعب، لا مكان للإحساس بالمكان… الفرح هو المكان.”
الصداقة تقوى بينه وبين حاكم وهادي، بالوقت وبالحكايا التي تشاركوها، السجائر التي دخنوها سوية، الطعام الذي تناولوه.. كل التفاصيل. إيمانًا منهم بمصيرهم المشترك، يخافون المحاكمة وبخاصة هادي وحاكم، لعلمهم بالمصير الذي ينتظرهم، يتمنى هادي أن يتم نسيانهم داخل السرداب، ويتمنى حاكم لو محاولات الانقلاب تنجح، حتى يخرجوا كما خرج أول مرة من السجن.
الفراغ المترتب على رحيل هادي كان كما موت الأحبة. شعور حادّ بالفجيعة. لعله يقين الفقدان الناشئ عن ارتباط بدأ عابرًا ليضرب جذوره بعيدًا في العمق من الذات. كل التفاصيل اليومية لتواجد السرداب تذكر به.
تحقق ما كان يخافه هادي، وبعدها يتحقق أيضًا ما كان يتوقعه حاكم لسليمان ويفرح لذلك. رغم الحكم بالإعدام عليه، ولكن الصداقة التي نشأت بينهم جعلته رغم ذلك يفرح لخروج سليمان.
بعد خروج سليمان والتقائه بصديقه مصطفى، يكتشف أنه لم يتنصل بعد من التبعية للباشا، وأنه من تدخّل من أجل الإفراج عنه.
يقضي الليل مع أصدقائه يحكي لهم ويحكي،”مُغفِلًا عن عمد الإشارةَ من قريب أو بعيد لأي من هادي أو حاكم. شعور حاد تملكه وقتها بأن هذين الاثنين يخصانه وحده.”
يترك إسماعيل فهد إسماعيل روايته بنهاية مفتوحة أمام القارئ؛ ليسلط الضوء على إحدى مشكلات حركة تموز 58 التي لم تتخلص منها بعد، ويشرك القارئ معه في صياغة نهاية الرواية ويضعه أمام الكثير من الاحتمالات، حيث كان يرى ضرورة إشراك القارئ بالعمل كما صرح بحواره للجزيرة نت:
لمّا يضع الواحد نصب وعيه أنه يخاطب قارئًا نبيلًا نبيهًا في الوقت ذاته، يلزمه احترام ذكاء شريكه، ولأنه شريكه يتوجب تحقيق فسحة مشاركة في كتابة العمل، وبعكسه لا توجد فراغات وسط المعاني تقتضي إشغال الذهن بمعالجتها، القارئ حسب رأيي يعيد كتابة النص خلال تلقيه له.
“يحدث أمس” واحدة من الروايات المتميزة بأدبنا العربي، والتي تستحق القراءة وتسليط الضوء عليها وعلى كاتبها الرائع إسماعيل فهد إسماعيل.
حيث برع من خلال الحوار، في رسم الجوانب الإنسانية والانفعالات لدى كل شخص بها، كأنه يرسم لك المشهد بتفاصيله، لتشاهدهم وتشاهد انفعالاتهم وتعابيرهم بشكل بارع للغاية. يأخذك الحوار والسرد العبقريان بين صفحات الرواية، حيث تجد نفسك تلتهمها بدون أي ملل. يبرع أيضا في إظهار ما يدور بخلد الشخصيات، كي يجعلك تتفاعل معهم بشكل أكبر وكأنك داخل عقولهم.
صدرت طبعتها الأولى عن “دار المدى” عام 1997، وقامت الهيئة العامة لقصور الثقافة بمصر بإعادة طباعتها مرة أخرى عام 2013 ضمن أحد سلاسلها المهتمة بالأدب العربي “سلسلة آفاق عربية”. تحاول الهيئة من خلالها تقديم بعض الأعمال الأدبية المميزة للقراء بأسعار زهيدة، حيث سعر النسخة ثلاث جنيهات فقط لا غير.