هاجس النجاح: لماذا لا يجب أن تكون استثنائيًا
في حيواتنا اليوميّة، قد ننشغل في سعينا وراء السعادة عن التوقف للحظات لنسأل أنفسنا: هل نحن سعداء حقًا؟ هل ما نفعله يدفعنا نحو سعادتنا المنشودة؟ إلا أن السؤال الأكثر ندرة هو هل سعادتنا المنشودة سعادة حقا؟
منذ الطفولة يدفعنا الجميع إلى تحقيق الذات، ولكن ليس من منظورنا الذاتي الذي يختلف من فرد لآخر، وإنما من منظورهم هم، الوالدان هما أول من نحتكّ بهما من المجتمع، قد يدفعنا الوالدان إلى تحقيق ذواتنا من خلال منظورهما دون سؤالنا عمّا نحب ونكره، فإذا كانا أكاديميين فالدراسة هي تحقيق الذات، وإن كانا تاجرين فالتجارة هي الصواب، ويسعى كلاهما إلى تحقيق ذاته فينا أو ما فشل في تحقيقه في حياته، يسعيان إلى تحقيق ذلك فينا، دون قصد وعن غفلة.
هاجس النجاح طريق مليء بالضغوطات!
من هنا نجد أنفسنا في مجتمع كامل مدفوع بالحاجة إلى الإنجاز. إن لم تكن الأول على مدرستك، فماذا تفعل؟ إن لم تلتحق بكليات “القمة” فقد فشلت. وإن لم تعش حياتك على هذه الصورة –حتى وإن لم تكن تريد- فأنت حتمًا بلا فائدة، تحوّل التشجيع على الإنجاز وبذل الجهد إلى وسواس قهريّ يضع الضغوط الهائلة على الجميع، ويضع الكل في سلة واحدة ليقيّمهم.
ولكننا بنظرة فاحصة لمن حققوا الإنجازات بعيدًا عن عناوين الأخبار وقصاصات الصحف، بنظرة لهؤلاء الذين يقامرون بحياتهم كلها في سبيل تحقيق الإنجازات، يمكننا أن نرى هل جميعهم سعداء؟ هل حققوا ما نصْبو أن نكون مثلهم لنمتلكه؟ الإجابة تقدمها لنا أخبار الانهيارات العصبية والاكتئاب للعديد ممن يحققون كل شيء ويسعون طول الوقت لتحقيقه من جديد.
يرى المجتمع الحياة الهادئة غير المصحوبة بالكثير من الأخبار المدويّة من خلال عدسة واحدة، وهي أنّها حياة سيّئة أو في أفضل الأحوال “ليست جيدة كفاية”. أن تكون ناجحًا هو أن تكون واقفًا على المسرح تقدم العرض يتابعك كل الحضور، بينما قد تكون حياة أحد الحضور في الصفوف الخلفية، حيث لا تطاله بقعة الضوء المسلطة عليك، أكثر هدوءً والأهم قد يكون أكثر سعادة.
هذه بالتأكيد ليست دعوة للكسل أو الدعة أو عدم تقدير الإنجازات الفرديّة، وإنّما هي دعوة لعدم حصر النجاح في ذلك طالما كان باختيارك أنت، الإنجازات الأكاديمية والكؤوس الرياضية والمنجزات الفردية كلها أشياء رائعة تستحق الاحتفاء، لكن الغرض منها جميعها هو الشعور بتحقيق الذات، وبالسعادة أولا. لكن ماذا إذا اخترت الحياة الهادئة بعلاقاتك مع أصدقائك وعائلتك، وبقدر كافٍ من الحب لك ومنك، وبالهدوء الذي يكتنف حياتك وحقق ذلك لك السعادة؟ الحقيقة أنك أنت وأكبر القادة العسكريين قد بلغتما نفس الهدف، لكن أحدكما وصل إليه دون ضغط مهول من المجتمع وبهدوء وراحة.
حاول الفنانون كثيرا إيصال هذه الفكرة من خلال أعمالهم، ففي القرن السابع عشر قام يوهانس فيرمير أحد أكبر الرسامين الهولنديين برسم لوحة “الشارع الصغير“. يحاول أن يخبرنا فيها أن النجاح في النهاية ليس سوى يوم هادئ مع الأطفال في المنزل في شارع بسيط متواضع.
من بعده يحاول توماس جونز أحد أهم الفنانين الويلزيين إيصال ذلك المعنى
عند زيارته إلى مدينة نابولي الساحرة. لم يعمد جونز إلى رسم بحر نابولي السّاحر، أو مدينة بومباي التاريخية، أو كنائسَ وكاتدرائيات المدينة المذهلة، وإنما رسم لوحة “جدار في نابولي” والتي كما نرى مشهد اعتيادي قد لا يلفت انتباهنا، لكن توماس رأى في جدار وملابس معلقة وحياة هادئة غير صاخبة نجاحا كما نرى نحن في السيارات الفارهة واليخوت الضخمة نجاحا.
غير أن معظم الأفلام والإعلانات والأغاني تدفعنا إلى اتجاه مغاير، وهو أن النجاح يكمن في السّيارات الرياضيّة والعطلات في الجزر الاستوائيّة والسفر على الدرجة الأولى المميّزة، وعادة ما تكون هذه الأشياء حقيقة وتجلب السعادة حقا، الاعتراض هنا على التأثير المتراكم الذي يغرس فينا فكرة أن حياتنا –ما لم تكن كذلك- فهي بلا قيمة حتما.
إلا أنه لا يمكن إغفال المهارة والجهد المتطلبين لتربية طفل سويّ معتمد على نفسه، أو الحفاظ على علاقة صحيّة سليمة مع شريكك أو شريكتك على الرغم ممّا في الأمر من صعوبات، أو الاستمتاع بوظيفة قد لا يراها معظم الناس ناجحة إلا أنك تستمتع بها، أو في الحفاظ على علاقة سويّة مع أصدقائك ومن حولك، كما لا يمكن –رغم الجهد- إغفال السعادة الناتجة عن ذلك أيضا.
ميشيل دي مونتين هو أحد أهم الكتّاب الفرنسييّن في عصر النهضة وأكثرهم تأثيرا، وقد عبّر عن ذلك في المجلد الثالث من رسائله الشهيرة قائلا:
اقتحام الثغرات، ورئاسة السفارات، وحكم أمة، كلها أعمال برّاقة، التأنيب والضحك، البيع والشراء، الحب والبغض، والعيش سويا بلطف وجدارة مع أسرتك ومع نفسك دون تراخٍ أو كذب، هو شيء أكثر استثناء وأكثر ندرة وأشد صعوبة، فمهما قال الناس، فإن هذه الحياة النائية تحقق بهذا الشكل واجبات بقدر صعوبة وجدية الحيوات الأولى.