من تفكُّك النظام إلى تنظيم التفكّك.. العالم الفيروسيّ والوحدة المفقودة
شذراتٌ من تأملات
“إزاء اختبار الوباء، على ماذا بات يحرص العالم، أكثر من تنظيم تفكُّكِه بكيفياتٍ أفضل؟!”
“إن أيَّ مُحاولةٍ بشريةٍ لاستعادة الوحدة في العالم الفيروسي، هي بالضرورةِ تُفكك وتفصل في الوقت الذي تهدف فيه لأن تجمع وتصِل.”
“المجهول هو ما صِرنا نعيشه آنيًا، لا ما ننتظر حُدوثه مُستقبلًا.”
“يُعرف عن الفيروسات أنها قوى من التحوّل. وسفرها من خلقٍ لآخر، يشهد بأننا جميعًا نمضي قُدمًا بنَفَسِ حياةٍ واحد.”
“بين ما هو مُتقطِّع ومُتقاطِع، مُنفصِل ومُتّصِل، مُفكَّك ومُركب، يميل وُجودنا إلى التّأقلم مع نظام يتفكّك لكي ينتظم ضمن التّفكُك.”
أولًا: تجلّي العالم الكوروني كمفارقات:
أمست سياسات وباء كوفيد تُشكِّل قواعد نظاميّة لهندسةٍ بشرية -طُوبوغرافية وطُوبولوجية- تحرص على ضبط تواجد وباء غير نِظامي في حركته، ولا هو بقابلٍ للانحصار والثبات على نمط قارّ، يُحدّد جوهره وماهيته. فنرى التراث الأيقوني الغربي يُسأل ولا يُجيب، ونرى أيضًا المشهدَ العالمي يعُجُّ بحساباتٍ، رسومٍ تخطيطية وبيانية، مُنحنيات… إلخ، يُبتغى من عَونِها إعادة ترتيب تفكّك الفضاء (جغرافي/ علائقي) وتراكب العوالم (واقعي/ افتراضي) على النحو الذي تُبقي فيه على هذا التّفكك وعلى الأمكنة الشاغرة. إذ أن هناك فجوة مُعيّنة تعمل، تَحُول دون إمكانيةِ إيجاد حُلول تماسك الأشياء والكيانات والموضوعات، إلّا ضمن ثابت التّفكك. وحيث تكون أيُّ مُحاولةٍ لاستعادة “الوحدة المفقودة” هي بالضرورة “تُفكك وتفصل” في الوقت الذي تهدف فيه أن “تجمع وتصل”.
باختصار، إن أيَّ إمكانيةٍ لتنظيم الوجود البشري خلال هذا الوقت، هي لا تعدو أن تكون سوى “تنظيمًا للتّفكك”. إنها الضرورة القاطعة التي نشأتْ عن هذا الوضع. ويرجع ذلك بالأساس إلى الخواص التي يتمتع بها الوباء من مُرونة plasticité وقابليته المستمرة للتّشكل والتّطور والانتشار والتحوّر. قُدرة الإطار هاته، يتم تقديمها تحت سِتار ضغطٍ خارجيٍّ لوسائل الإعلام والتأثيرات السياسية، بما في ذلك الوقت والوجود في كل مكان: أينما كنت، فهو دائمًا “مكان وزمان” كوفيد 19.
إن الوضع الوبائي يُجلي معه في حقيقة الأمر تلك العُقدة الفلسفية لجوهر الفيروس، المُعبّر عنها في التميّز الذي حظي به على المُستوى الكوني. فهو يُعدّ -وبحكم تعريفه- عالميًّا دائمًا، لأنه يُمثل على مدار الساعة خطر انتشار لا يُمكن السيطرة عليه وخارج أي حدود. إنه يُراهن في هذه المرحلة المُعاشة، على أن يُصبح الحدث الوحيد المُتجوّل على هذا الكوكب Planếtês بلا منازع. الشيء الذي تسبّب في إحداث مُتغيراتٍ هائلة في الحياة على مستوى الكون.
لقد ظهر العالم سُدى كنصٍّ مُتقطّع الفواصل ومُفكك النسيج، لا مراكز ثابتة فيه للمعاني والروابط والعلاقات. تلكم هي مُفارقة الوضع الإنساني الذي فقد توازنه ومقولاته النظامية -النّسقية، فلم يعد يُحقِّق تماسكه بمعزلٍ عن أبعاد تُقاطع نفسها مع عدم استقرار البنيات وتخلّع الأشكال وتقلّب التّموضعات، وكل ما يكون عاملًا في تفويض عملية البناء لطريقة أو استراتيجية تقويضية مُقحمة، تتخذ من التشتيت والتفكيك معاول لعملية التهيئة والتنظيم من جديد. على هذا النحو من اللاطمأنينة، يقوم التهديد الفيروسي بتحديث الأسئلة الصعبة التي تهم أو يجب أن تهم المجتمع البشري بأكمله: العلاقات بين الأنواع، احترامنا أو عدم احترامنا للطبيعة، مصير البيئة وإمكانياتنا البيولوجية للمناعة، الروابط البشرية، تحركاتنا على هذا الكوكب، أنماط حياتنا، آثار العولمة، التبصر السياسي… إلخ. إنه يضع الحياة العالمية موضع تساؤل. فإذا لم نفهم أنّه من الواجب وعينا بوحدة مصير البشرية، وإذا لم نبلغ مستوى متقدمًا من تضامننا، وإذا لم نغير فكرنا السياسيّ، لا سيما بعد رسالة الفيروس الواضحة، التي تتمثل في المصير البائس، الذي ينتظر البشرية، إذا ما تمادت في غيّها وعبثها، فإن أزمة البشرية ستتفاقم حتمًا، إن رسالة الفيروس واضحة، وبِئس المصير إذا كنا نأبى الإصغاء إليها (إدغار موران).
يُشار إلى كون إنسان كوفيد Covid-19 هو توصيف لا يصدُق فقط على هذا الفرد أو ذاك، من أخطأه الوباء أو احتسبه عدّاد الحالات المُحصاة يوميًّا، ناجيًا أو ميّتًا إثره. وإنما هو الإنسان المَمسُوس بتأثيرات الوباء الطّافحة على مُختلف أصعدة حياته المُتداخلةِ الأوجه (اجتماعية، اقتصادية، سياسية، نفسية، بيئية إلخ…) ويكفي ذلك الإحساس المُتكرر عند الأشخاص اليوم، بأن شيئًا ما سيختفي عن قريب، بمعنى أن شيئًا ما سيظهر وينقشع، ليحّل محلّ ما انسحب وغاب. فيغدو المجهول هو ما نعيشه، لا ما ننتظره. فهو من جهةٍ مُنفصل عن الماضي نظرًا لغياب “بنك صُور مشترك” عند الأفراد حول الوباء وتمثيلاته، ومن جهةٍ أخرى هو أبعد من يأتي به مستقبل غير مَدِين لخيارات الأفراد أو نِتاج أفعالهم على اختلاف مساقاتها. زيادةً على ذلك، فالناس ليسوا كُليًّا قلقين مِما سيختفي ويزول، وإنما مما سيأتي ويطرأ في راهنٍ مُتغيّر ومُتعذِّر عن أيِّ قراءة، لا يفتأ “المجهول الآني” عن توليد شكل جديد لمواردها العقلية. إن التجربة كُلها غنية بالمفاجآت والمفارقات. وحتى بالنسبة للمعرفة العلمية التي تتصدى إلى الفيروس، هي ليس شكلًا من اجتهاد البشر لحل المشكلة، وإنما هي معرفة نفسها ترتدي ثوب المجهول. إنها المعرفة التي لا تعرف الحقيقة الوبائية التامة لما تُفكر فيه.
لقد صار البُعد الفاني لدينا واضحًا، ينتشر فينا بصمت. لعلّ من أبرز علاماته، إدراكنا لهشاشتنا البيولوجية، بالرغم من كلّ الاستراتيجيات التحصينية والوقائية التي اهتدى إليها الناس فُرادى وجماعات، لمُحاربة هذه الجائحة والحدّ من ذيوعها Stop Covid. فإلى حدود الوقت الراهن لا يزال الخطاب الطبي العلمي غير قادر على تجاوز الواقع الذي يُحيط بنا، ومُعظم الأفراد من سكان الأرض لا يمتلكون المهارات اللازمة لفك شفرته. وما لهم من خيارات تقريبًا لتدبير الصدمة على مستوى التمثلات، سوى أن تؤسس أنفسَها على الصور النمطية الجاهزة للمسلسلات التلفزيونية الطبية أو الأفلام السينمائية التي مشهدتْ خراب العالم، أو الروايات التي أضحت قراءتها بمثابة هجرة قسرية للناس إلى المتخيل وتقليص المسافة مع الواقع المؤلم والمحبط. الفكر من جانبه أصبح هشًّا، عالقًا بين اليقينيّات الحالية والعلمية التي تنحي عن نفسها في اليوم الموالي، عندما يجلب تيارٌ ما قناعات أخرى تُتلِف سابقتها.
فعلًا قد أدى الوضع الوبائي إلى فقدان الإحساس بالقدرة المطلقة عند الإنسان. والذي تم اختزاله إلى ندرة رمزية لماهية الوباء، يتم التعبير عنها في مدِّ وجزر الشكل الجاف للبيانات الوبائية(1). إن القلق الذي نُثبته اليوم ناتجٌ إلى حد كبير عن إدراك أنّ أصغر كائنٍ حيٍّ قادرٌ على شلّ الحضارة البشرية الأحسنها تجهيزا من وجهة نظر تقنية. تنتج هذه القوة التحويلية لكائن غير مرئي تشكيكًا في نرجسية طاغية علينا في مجتمعاتنا. أي أننا نستمر في اعتبار أنفسنا كفضائيين، مختلفين، مميّزين. بما في ذلك التأمل في الخسائر التي نصيب بها ونلحقها بالأحياء الآخرين. ومع ذلك، أيّة بكتيريا، أيًّا كان من الفيروسات، أيًّا كان من الحشرات، يُمكنه أن ينتج تأثيرات واسعة على العالم. وكل حياة حسب إيمانويل كوسيا Emanuele Coccia هي مقدرة على التأسيس، الاختراع، الارتقاء. بمعنى، أن كلَّ حياةٍ قادرة على فرض نظامٍ جديد، منظورية جديدة، طريقة جديدة للوجود. ولكن هذا الانفتاح الذي يقع، يُقحم دومًا جانبًا مظلمًا ومُهدَّمًا(2).
يعني كل هذا، أن البشرية جمعاء مُحاصرة في تفكك للواقع وفي الآثار الخيالية والمفاجآت التي يمكن أن يطفح بها تنوع سلالات الوباء المُتحورة(3). بحيث أنّ الاضطراب الوبائي الذي أقدم على خلخلة “البُعد الزمكاني” للأشياء والأشخاص، قد جعل الحياة على كوكب الأرض في مجموعة من صُورها تترهّن بدياليكتيك النفي والإثبات. فتكون حركة الوباء هي نفسها وليست نفسها. بحيث أننا حين نقول بأنها هي نفسها وليس نفسها، فلا نقول بذلك من الزاوية ذاتها. يُفهم هذا التميّيز في “منطق الحركة” مُنذ مُحاورة السُفسطائي لأفلاطون: “إذ حين نقول بأن الحركة هي نفسها، فذلك لأنها هي في ذاتها تُساهم بذاتها. وحين نقول بأنها ليست نفسها فعلى العكس، بسبب الرابطة بالآخر. تلك الرابطة التي فيما هي تفصلها عن ذاتها تغدو غير ذاتها. بحيث أن من الصحيح القول أيضا بأنها ليست ذاتها”(4).
إنّنا نمضي على الحبل الذي يُشعرنا بقانون العالم الجدلي وحقيقته الكامنة في نضال دائم بين الأضداد، لتنطبق على سكان كوكب الأرض تلك السمات الجدلية الطاغية على الوجود حتى قبل مجيء الوباء، أفضلها حكمة: “أننا موجودون وغير موجودين” (هيراقليط). بحكم أننا مُعرّضين للفناء في أية لحظة. لقد صار المُفكك والمُتحجّب والمُتناقض، من له الحقّ وصلاحية تصميم عالمنا المُضطرب والآيل إلى السقوط، ومن يمنحُه أشكالًا مُستخلفة أو منشأة من الهوامش، الفراغات، التفككات التي لا شكل مُحدد لها. فتبدو لنا هذه الهوية اللزجة المُقترحة للوباء في طور التحول الدائم بواسطة حركة التّحور التي تدفعه به وباستمرار نحو تعريف أو تحديد آخر. تحجّب الوباء حتى يظهر في الأخير كأعراض أو في انكشافه حتى يتوارى من جديد في لا أشكال أخرى صائرة الإمكان و التحقّق، تلك التي ما زال يفترضها تطور السُلالات.
يبدو إنسان كوفيد مُنقاد إلى تجربة تحوُّل لا نعرف طبيعته، ومعيشٍ خارج عن تمثلاته. وإزاء التّغييرات الساري مفعولها في كلّ حين وغرّة، صِرنا على يقين أنه لن يكون هُناك حال شبيه بسابقه. ولا عودة العالم إلى سابق عهده. وأن هذا المصير الذي نختبره بشكل مختلف كمًّا وكيفًا، لا أحد يستطيع التنبؤ به. فبالرغم من أنّ “وباء كوفيد” ليس بأزمةٍ عابرة وسيكون لها آثار مستدامة، لكن ومع ذلك لا يُمكِّنُنا من التنبؤ به. مِثلما هو الحال بالنسبة لشكل الزهرة، فهو غير مُتمركز في البذرة، ولذلك فعملية الإنبات تكون بطيئة وفوضوية دُون شك. إن كل ما يُمكن الاعتقاد فيه بشكل صحيح هو التّمسك باللحظة الحالية، أو ما تُسمِّيه “حنا أرندت” Hannah Arendt في لحظات الأزمات التاريخية بخرق الوقتbrèche du temps (5). فذكريات الماضي تثقل كاهل الذوات من جهة، وتصوراتهم الطوباوية أو البائسة عن المستقبل تُضلِّلُهم من جهة أخرى. فقط الحدث الحالي يجعلهم أحرارًا(6).
لقد أعطتنا كل هذه المساحات المهجورة والأمكنة الشاغرة والروابط البشرية الملغيّة رؤية لعالم مُعلق (خلاء الشوارع في زمن الحجر؛ في ووهان، مدريد، إسطنبول، نيويورك، روما، باريس، دبي، لندن، موسكو… إلخ). فزمن الحجْر هو حالةٌ من تعليق الحُكم épokhé، أو ظهور العالم بين قوسين من الكوكب. إنه وقتٌ خاص جدًا عاشوا فيه الأفراد بشكل جماعي، ومع ذلك هم ينفصلون اجتماعيًّا عن بعضهم البعض، تحت طائلة الانسحاب الاجتماعي الجسدي الذي أفضى بهم إلى تخيل كل الاستراتيجيات المُمكنة للبقاء في تفاعل، وعلى قيد الحياة من بين آخرين. مثلًا، كان من الناس من دفعتهم حاجةٌ ماسة إلى إعادة إنشاء معايير من أجل جعل الواقع أكثر طبيعية. كقرارِ تنظيم “جنازات افتراضية” des funérailles virtuelles، وهو ما سمح به الفضاء الافتراضي- الذي من الصائب القول عنه أنه فضاءٌ مُتحرّكٌ أيضًا. فمن خلال الجنازة الافتراضية يُحرِّر كل واحد نفسه بقول شيءٍ عن المتوفى، ولكنه يلج أيضًا إلى الآخر في فردانيته(7).
إن ما يظهر في مجتمعاتنا المعاصرة التي تُحصّن نفسها ضد الفيروس عن طريق تقيّيد نفسها، لهو منطق متناقض، لكنه مثمر: كلما عشتُ مدى الحياة، كلما كنت وحدي، كلما اتّحدت. تصبح الذات مُجتمعًا. يتناقض هنا الترسيخ مع الانعزالية وينفتح على الانكشاف الأخلاقي. التضامن غير مسموح به في الحشد ولكن في الانسحاب والعزلة. يمكن للآخرين أن يؤثروا عليّ في ضعفهم فقط عندما أدرك، بمفردي مع نفسي، أنني وحيد مع الآخر، وحدي ومع الآخر بالفعل، “أنا بالإضافة إلى الآخر” على حد تعبير بول ريكورPaul Ricœur . نشعر أيضًا في هذ السياق الحالي بقوة عبارة الفيلسوف “نيكولا جريمالدي” Nicolas Grimaldi القائلة: “إذا ما كنت منفصلًا عن الآخرين، فإني منفصل عن ذاتي نفسها”. على هذا الأساس، يتضح أن للروابط البشرية التي ربما قللنا من تقديرها، قوة خفية تعمل على تماسك هويتنا. فالعالم ليس مجزأً، إنه يعمل بالرنين. الجميع معنيٌّ بحالة الجميع. يُحتِّم هذا الموقف على الإنسان التفكير بشكل مختلف في وجوده لا كفرد تغلب عليه خصوصيته، وإنما كذات فيها يعيش الآخر والمجتمع والحشد. لا شك أنه حتى الوجه في فترة الوباء، قد صار حاملًا لقلق الإنسانية تجاه وجودها المشترك. فعندما ينظر الأشخاص لبعضهم البعض من خلف الكمامات، يشعر كلُّ واحد منهم بصدى النداء والحضور الأخلاقي للوجه. فنرى كيف أن العلاقة مع وجه الآخر هي علاقة أخلاقية لأن الوجه، في مفهومه الازدواجي، هو كشف للضعف وممارسة للتعالي(8)، وهذه العلاقة تأخذ منحى الصراع الجدلي ضمن ما يُمكن تسميته بـ“أنطولوجيا الغيرية”.
ثانيًا: دياليكيتيك الوباء وصُوره:
يظل الفيروس العالمي كوفيد متمنِّعًا عن الفهم الكامل Incompréhensible والمُقاربة الأحادية الضيّقة. فهو مدفوع بحركة جدلية ذات مقدرة عالية على دمج الأضداد، تُوثِّر بلا هوادة -كما نرى ونشهد- تفكّكات عالمنا الهارب مِنا دُون انقطاع. وعليه، ومن منطلق ما يُفرزه هذا الواقع المُتجادل في كل مُكوناته، يدعونا الوضع الوبائي للتفكير في الإنسان والوجود في كُلِّيتِه، تبعًا للأساس الأنطولوجي الذي رسّخته الفلسفة الأولى وهي تُساؤل الكائن الشامل واللاّمحدود، عِوض الارتكاز فقط على بُعده النفسيّ أو الاجتماعيّ أو التاريخيّ أو السياسيّ… إلخ. ولكونِ تعدد المقاربات قد أدى إلى تشظي وحدة النظر إلى الإنسان في عصرنا. إذ كُلّما تخصصت عُلومه، كُلما حجبت ماهية الإنسان أكثر فأكثر، دون أن تستطيع الكشف عنها في حقيقة الأمر(9).
“إذا كان الإنسان قد أصبح قادرًا على إنتاج وإدامة الحياة بتدخل البيولوجيا التركيبية في ميدان الخصوبة، فإنه ما زال عاجزًا عن وقف الموت. هناك لحنٌ أنطولوجي يستعيده الفيلسوف المعاصر في هذه الفترة عندما يفكر في الموت، لا بتصوره الوجودي الحامل لقلقه من النهاية، وإنما بتقدير أكبر للموت. ذلك لكونه السر الذي يعمل لصالح الحياة”.
إزاء هذا الجدل الذي يُدير عالمًا أظلم حتىّ يظهر، يقترح علينا الفيروس صُورًا مُتناقضة وجدالية عن وُجودنا:
- حيث نكون ولا نكون (التغير المُستمر لوجودنا والشعور بالحدّ الهين الفارق بين الحياة والموت).
- نمرّ ولا نمرّ (إبدال المسارات والطرق والوجهات والأمكنة).
- نتكلم ولا نتكلم (أصبح الصوت البشري إزاء الوباء وضرورة وضع الكمامة الوقائية مُفكّكًا ومنقسمًا. إنه نفس الإيقاع المتوتر وغير المضبوط الذي أقّره منطق الوباء، معبّرًا عنه في خاصية فريدة من كياننا، وهي الصوت. إذن: صوتي هو صوتي، في الوقت الذي يكون صوتي تمامًا. تتمظهر مع الإنسان ذو الكمامة قوة الديالكتيك التي تكمن في الوباء. نختنق من جهة ونتنفس من جهةٍ أخرى، نسمع بعضنا البعض ولا نسمعها، أو على الأرجح نسمعها لكن في تقطع الكلمات وطلب إعادة ما قيل. فلم تكن الأفراد في حاجة إلى الصوت أكثر من أي وقت، كفترةِ الانفصال عن الأجساد وخلخلة الاتصالات والروابط المادية)؛ إن الصوت كما أوضح ذلك “موريس ميرلوبونتي Merleau-Ponty”، يُعتبر ناقلًا عاطفيًّا وجسديًّا قويًّ للغاية(10): “صوتي مرتبطٌ بكتلة حياتي مثل صوت أيِّ شخصٍ آخر”، إنه يحافظ على حضور الآخر.
- نظهر ونختفي خلف الشاشات الافتراضية ووسائل الاتصال الرقمية دون إدراكِ جسد الآخر، دون ردود الفعل الخفية والعواطف المهتزة على الجلد، بدون هذا الانفتاح اللاواعي على جسد الآخر (وضع الذات في الهواء وكيفية التعامل مع الاستمرارية/الانقطاع).
- نبتعد في الوقت الذي نطمح فيه لكي نقترب، ونقترب في الوقت الذي نعي شرط التباعد والالتزام بحدود المسافة (في التباعد حياة).
- يظهر أيضًا أن الهشاشة الجماعية والمشتركة تخلق الوحدة، وأخذ الأخطار منفذ لا غنىً عنه من أجل تجنب انفجار الكُل.
- الحراسة والحيطة من الآخر لم تولد الموت بل الحياة. حيث كان منطق المناعة الذاتية، كما حدده “جاك دريدا Jacques Derrida”، يهدف إلى إظهار أن المرء حريصًا على الآخر، والداخلية التي تغلق نفسها بالخارج، لا يمكن إلاّ أن تدفع بشكل عكسي، وإلى حدٍّ معين، يتسبب في موتٍ ما حفظ حياته(11).
- لقد استطاعت كلُّ ذات أن تكون لنفسها، ولكن التضامن للجميع. لم يكن زمن الحجر سوى عزلة من أجل تحقيق الاتحاد(تمفصل الذاتي والاجتماعي).
- لم تعد الصورة واضحة بين ما يمكن عدّه سلوكًا منطقيًّا أو غير منطقي في تدبير جائحة (يشير “جيل دولوز Gilles Deleuze” إلى أن المعنى هو فكرة رئيسية مجردة -والتي نعتبرها حقيقة- له علاقة وطيدة مع اللامعنى”(12).
- مجتمع الأعداء المُحتملين الذي يفترض حماية الذات من الآخر لتجنّب العدوى وحماية الآخر من الذات لتجنيبهِ الإصابة بالوباء.
- يعد كوفيد جسمًا غريبًا وحميميًّا في نفس الآن، حيث تكون الفيروسات مصدر معظم معلوماتنا الجينية. يصبح هنا الفيروس جزءًا من خيال مشهد بدائيٍّ يلتقي فيه الأجنبي بالمألوف، و يزدوجان في لُجّةٍ واحدة. إن من خواص الفيروس ما يتمثل في كونه يتّبع منطق غير المُتمثّل إلى حدِّ العامل غير المرئي للمشكلة. فالقاعدة الأساسية للوباء تعني أن كل ما يمرّ بالقرب منا يمكن أن يكون ملوثًا وبعد ذلك سيتمكن من الظهور أمامنا بلغة الأعراض الجسدية. ولنا أن نعتبر أن مُعطيي عدم الكشف عن الهوية والحياد العزيزين على الفيروس هما ما يجعلانه بالضبط غيرَ مرئي. فهو لا يعمل وفقًا لرأي أو وفقًا للتمييز الذاتي.
وغير ذلك لا يحصى من صور تفكّكات عالمنا الفيروسي.
اللافت إذن، أن قُطبية الداخل والخارج تتعرّض لتهديدٍ مُتزامن إثر جدليات الوباء، فهو لا يكفُّ عن تنويع وجوده بين قطب المرئي واللامرئي، بين المَعلوم والمجهول، بين الحميمي والغريب، بين الجوهر والعرض، بين الباطن والظاهر… إلخ. كما ليس هناك من وضوح أمام تعقيداته وألبستِهِ، بين الحاجز والمُحتجِز، بين المُعدي والمُعتدِي، بين ما هو مستورٌ في الوباء وما يستُره الوباء. كل هذه التقابلات المثنية على بعضها البعض (ثنَى الشَّيءَ: عطفه وردَّ بعضَه على بعض)، والمختزلة في صُورتي الإظهار والإخفاء، هي من تُنظم فِكاك العالم الفيروسي، وتضمن إعادة تشكُّله الدائم والمُستمر.
وتبعًا لهذه الحلقة النقائضية المعبر عنها في ثنائية “الظاهر المُتخفّي” يصِل الفيروس نفسه مع غُموض الوجود، وينسجم مع تناقضاته وجدليّاته وحركاته وجداوله. يذكرنا دومًا فيلسوف الغموض(13)، بأن ذلك الذي هو في تعارض لهو الشيءُ المُتماسك، ومن الأشياء التي تختلف يظهر أجمل تناغم”. لدينا هنا خط فلسفي ممتد الصلة مع الصائرالهيراقليطي(14). فما هي إذن تلك الصُورة المجازية المُمكن استيعابها في وقت كوفيد مِن نَهْرِ “هيراقليط” الدائم الجريان والتغيير الدافق؟ خاصةً ونحن صرنا نوجد تحت رحمة عالم يجعل من التفكك أساسًا لنظامه وتنظيمه بشكل قابل دوما لإعادةِ الترتيب والتوزيع، والمُزاوجة بين كل الاحتمالات والأضداد. ما هذا الشيء/الجسم المُتخفّي واللامرئي والمُقلق والمُنتشر والمُعدي والقاتل… إلخ، الذي يُنظم نفسه وحركته عن طريق التّفكيك والتفكك والانفكاك؟ كيف لنا أن نتأمله دياليكتيكيًّا، بعدما أيقنا أنه جاء ليخرج العالم في نسخة أخرى بدل الضيافة العابرة؟ وأين يتستّر بالتحديد حتى يزيد من ظهوره -أي تخفّيه- هل في الجينات أم الأجسام أم الأشياء أم الأثير، أم في أوهام العقل؟
العولمة الفيروسيّة.. ويستمر التفكير:
صحيحٌ أنه لا يمكن نفي ما أثبتته أدوات الاتصال عن بُعد، المدمجة بالفعل بشكلٍ جيٍّدٍ في حياتنا، أنها مفيدة بشكل خاص في هذا الظرف. يصبح استخدامها مبدعًا، ويختبر الجميع إمكانيات استمرار الأنشطة في الاتصال أو العمل أو الترفيه أو الصداقة. التكنولوجيا في خدمة الوجود. يندمج الإنسان، ويصنع خاصته، ويكيف الأداة مع احتياجاته الأساسية؛ البشر يؤنسون التكنولوجيا. غير أنّ كون التقنية قد سمحت بانتشار كوفيد 19، هو شيءٌ آخر تمامًا يقفز عن نطاق الإنساني. ففي الأساس، ما يجب أن يُقال، هو أنّ الفيروس البُيولوجي قد أصبح فيروسًا رقميًّا. أدى انتشار الأول إلى انتشار الثاني، وفقًا لتشابُك لا يُمكن تمييزُه تمامًا. لذا، يجب أن يُنظر إلى العولمة نفسها على أنها انتشار، ومساحة ناقلة لكُل وباء، نظرًا لكونها غير مُقيّدة بالتّناهي وقادرة دومًا على الاكتساح والاختراق وعُبور الحُدود الجغرافية والحواجز البشرية(15).
ينساب الطابع الفيروسي للوباء المُعدّ بُيولوجيًّا مع الجوهر التقني للعولمة، وقُدرتها الفورية على نشر الأشياء، بكيفية غير محدودة. أما هذا الانتشار لحقيقة غير صريحة وواضحة عن الوضع الصحي للبشرية، فيُفهم منه -من باب الاعتقاد- على أن عالمنا الآن هو عالم إلكتروني، ومجانبة الحديث عن العالم الكُوزموبوليتاني. خاصةً وأن الرأسمالية التكنولوجية تعمل على تدهور تناسق النظم البيئية وتسمح بانتشار الفيروسات التي تنتقل من الحيوانات البريّة إلى الإنسان والحياة بشكلٍ عام. إنها تكشف أساسًا عن أزمة العالم البيئية التي لا يتوقف حلها على علم الفيروسات. وربما على هذا النحو من الاعتقاد، يتم تقديم ماهية الفيروس للغرب في حقيقته على أنه الجوهر المُعولَم الآن للتّطور التقني الكوكبي. لذلك فإن هذا الوباء يسلط الضوء على أنه ليس فقط من هذا الفيروس الذي نعاني منه، ولكن من العولمة كفيروس تسمّم جمال عالمنا الذي أضحى يشهد ميلاد عولمة جديدة، تكون التكنولوجيا بمثابة الطاقة التي تمنحها القوة والحياة، وعليه، فإن الحديث عن تفكك العولمة، أو نهايتها أمر مبالغ فيه، ولأن الطاقة التي تقوي العولمة في المستقبل هي التكنولوجيا. لا سيّما بعدما صارت الرقمية رقمًا صعبًا في العديد من المجالات.
ما هي إذن الفيروسات من منظور إعلاميٍّ ورقميٍّ؟ إنه النشر السريع وغير المتوقع والواسع لمقطع فيديو أو صورة أو أيِّ محتوى مما يخلق محاكاة عالمية تقريبًا. إنها فاعلية العولمة الاقتصادية وما يمكن أن نسميه بالفيضان. يفتحنا هذا التفكك أيضا على مسألةِ الهوية الرقمية وتنظيم الوجود في العالم الإلكتروني، حيث لا ينبغي لنا أن ننسى أن عدم تماسك الفضاء أو لنقل هذا الشكل من الفراغ والتفكك الذي أبان عليه الفيروس في جميع أرجاء العالم هو مصحوب بتتبع رقمي للموضوعات “القوة الحيوية المفهرسة”. ترافق الانتشار الفيروسي لـCovid-19 مع انتشارٍ آخر سيكون من المثير للاهتمام التفكير فيه. حيث لن تكون عملية فكِّ الارتباط مع المكان أو الفضاء بهذا المعنى مجردَ وهم، لأن التفكيك يعني: السماح للأفراد بترك مساحاتهم الخاصة لحصر بياناتهم في مساحة رقمية أكبر، تمتد إلى الأماكن العامة (مثل زمن الحجر الصحي).
ولهذا سيكون التفكك المكاني المنقاد بغرض تحقيق مناعة جماعية لمحاربة الفيروس، بمثابة إعادة تكوين رقمي لهوياتهم في مساحات أخرى. لقد أفاد الاحتواء بطريقة معينة، اقتصاد البيانات الضخمة عبر الانتشار الرقمي. من فيروس إلى آخر. يطلع من هذه الأزمنة الصعبة، تهديد القوة الرقمية أو العالم الإلكتروني الحق في النسيان. حيث يعيش أفراد المجتمع محطمين بالبيانات والتُّهم الموجهة إليهم والتي لا يمكن محوها. صورةٌ حيّةٌ عن دولة الكاهن، بالمعنى النيتشوي لشخصية الكاهن الذي يستعبد الأفراد بدين لا يمكن محوه. فتصبح البيانات ديونًا، وتصبح الرقمية نموذجًا للكهنوت(16)، وتتحول الذاكرة اللامتناهية من عِلم الإله إلى ذاكرة الكمبيوتر (مصطلح “كمبيوتر” باللغة الفرنسية، والذي اختاره جاك بيريه لترجمة المصطلح الإنجليز بالكمبيوتر، يشير إلى الإله المنسق، كما يعتقد المسيحيون، الذي يجلب النظام إلى العالم).
مفاهيم الورقة
إنسان كوفيد/ العالم الفيروسي/ ديالكتيك الوباء/ تفكك الفضاء/ العوالم المركبة/ الوحدة المفقودة/ تنظيم التّفكك/ المجهول الآني/ الظاهر المتخفي/ البعد الزمكاني/ منطق الحركة/ النفي المزدوج للأنا/ مجتمع الأعداء المحتملين/ تعليق الحكم/ الآخر/ العولمة الفيروسية/ القوة الحيوية المفهرسة/ الهوية الرقمية/ الرأسمالية التكنولوجية.
هوامش:
- وللعِلم، فحتى البيانات الحديثة تلقي بظلالٍ من الشكِّ على مستوى فعالية اللقاحات المطورة في الوقاية من عدوى المتحورة “دلتا” وانتقالها.
- Philosophie Magazine, n°139, Mai/juin 2020. P 60.
- دلتا، في شكل كتابته مُثلث، قد يكون مستقيمًا أو مقلوبًا، حسب الاستعمالات، و”دلتا” رمزٌ قادم من كل اللغات، وفي اللغة الإغريقية التي تعولمت معها البشرية في مجال العلوم، تمثل الحرف الرابع. كما لو أن هذه التسمية للسلالة الجديدة، تحيل على المتحوّر الرابع لكوفيد التاسع عشر. في العلوم، يستعمل الرمز/ الحرف “دلتا” للترميز إلى الفرق بين قياسين، لأن أصله البعيد، يحيلُ إلى الفرق. وفي دراسات المقارنة للسلالات اللغوية، لـ”دلتا” يذهب البعض إلى أنّ الرمز الهيروغليفي، الذي استوحيتُ منه “دلتا” الإغريقية يمثل: “الباب”.
- انظر: أفلاطون، محاورة السفسطائي le Sophiste، كتبت على الأرجح في عام 360 قبل الميلاد.
- Arendt Hannah, la crise de la culture, 1961.
- Philosophie Magazine, Comment être à la hauteur de l’événement? n°139, Mai/juin 2020. P 41.
- Philosophie Magazine, n°139, Mai/juin 2020. P 48.
- Lévinas Emmanuel, Altérité et transcendance, p 112.
- Voir aussi: Lévinas Emmanuel, Humanisme De l’autre Homme, biblio essais, 1987, p 4.
- ولهو عينُ الفهم الذي سيمضي في إبرازه “إرنست كاسيرر”Ernst Cassirer ، عندما سيهتم بأزمة معرفة الإنسان في الحضارة الراهنة، باعتبارها ذات صلة وطيدة بحالة التّشظي والافتقار إلى وحدة فكرية. لذلك، لا بد من معرفة الطابع المُميّز للثقافة البشرية وإيجاد وحدة فكرية تشمل تلك الحقائق من أجل الخروج من حالة الغموض والالتباس المميزة لمعرفة الإنسان. انظر: كاسيرر إرنست، مدخل إلى فلسفة الحضارة الإنساني، ترجمة إحسان عباس، مراجعة محمد يوسف نجم، دار الأندلس بيروت بالاشتراك مع مؤسسة فرنكلين المساهمة للطباعة والنشر، بيروت– نيويورك، 1961، ص 62– 63.
- M. Merleau-Ponty, Le visible et l’invisible, Gallimard, 1988, 360 pages.
- Jacques Derrida, la vie la mort séminaire (1975-1976); seuil bibliothèque Derrida, 2019.
- Deleuze Gilles, Logique Du Sens, Les Editions De Minuit, 1969.
- يُوصف هيراقليط -من قبل مارتن هايدغر- بأنه المظلم، وسوف يحتفظ في المستقبل بهذا الاسم، غير أنه هو المظلم لأنه -بالسؤال- يتجه فكره نحو الإثارة.
- يمكن أن نسمي الوجود الهيراقليطي بـ”الصائر” كما يمكن أن ننعت الوجود البارمنيدي بـ”الكائن” والفرق بينهما واضح منذ فجر التفكير الفلسفي، لكن يبقى هناك أكثر من سبب للجمع بينهما.
- وصف إدغار موران العولمة بأنّها ترابط وتشابك فاقد للتضامن ومع أنّ مسار العولمة قد نتج عنه توحيد تقني- اقتصادي شمل كوكب الأرض إلا أنّه على الرّغم من كل ذلك، يُضيف موران، أنها لم تحرز تقدمًا في مجال التفاهم بين الشعوب.
- بمعنى أن سرّ الكهنوت يمنح الأفراد مُهمة الكهنوت.