مرحلة المرآة في فيلم الجوكر: لاكانيات سينما التحليل النفسي

تبصّر واستثمار في مرحلة المرآة

يُعتبر الإنسان الكائن الأكثر مقدرة على إدراك انعكاس صورته في المرآة، وباعتباره كذلك، فهو يَسقُط في شراك الفتنة البصرية واستيلابات جمّة، تمرّ تحت جسر المتخيّل وأهواءه. نُشير بداية، أن ما قد يغيب عن كثير من الناس، هو عدم اقتصار وظيفة المرآة على التمرئي البصري المعكوس لشكلنا الخارجي في الزُجاج المطلّي، بقدر ما هي تخلُق على صعيد جدل الكينونة والمظهر – أن تنظُر لنفْسِك من خارج نفْسِك – تلك الرابطة الأولية بين صُورة الجسد وتشكُّل الأنا ضمن رحى قُطبي “الذات” و”الموضوع”.

كما أن الجسد لا يُحدّد في هذه الرابطة كمنطقة عُضوية صمّاء، مُتماسفة عن اللاشعور. وإنما يُينظر له – الجسد – كنطاق مرآوي ملغوم، تنشُط في مُعتركه دينامية ليبيدية، من مفاهيمها البارزة: التماهي؛ الصورة الهوامية؛ الآخر؛ النرجسية؛ العدوانية؛ الغيرة، الجدل المُتعلق بالموضوع. فالذات المُنعقدة اللّسان والمُتواجدة خارج نظيمة اللغة في طفولتها المُبكرة، لا تجد لها تحديدًا في الواقع، سوى من خلال مُعجم الجسد، وانطلاقًا من وظيفته الأصلية باعتباره دالًا.

لقد سبق للمُحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان “Jacques lacan” أن كشف لنا بفذاذة عن سرّ المرآة وسحرها ودخلها في تفعيل سرديات السجل الخيالي، الذي يُعتبر أول مطرح مُستقبِل للأنا. داعيًا إلى ضرورة الالتفاتة المشحونة بقلق فلسفي، إلى مرحلة المرآة باعتبارها مُشكِّلا لوظيفة “الأنا” (1). ومن أهم الخلاصات التّحليلية النفسية والفلسفية الحاسمة لمرحلة المرآة في نظر لاكان، والتي أذكت قوله بصبغة أنطولوجية: هي أن الأنا هي موضوع، وليست ذات (2). بمعنى آخر، أن الأنا – على الرغم مما تُحس وتعي بعكس ذلك – ليست عاملًا مُستقلًا ذاتيًا، أي أنها ليست مقرًا “لأنا” تتمتع بالحرية، وقادرة على تحديد مصيرها بنفسها. بناء عليه، ينظُر لاكان إلى “الأنا” على أنها تتسم كليّة بعُصابية فاضحة، ومتأصلة في صميم جوهرها، باعتبارها دفاعًا مُتّقدا ينجم عن جهل تكويني حيال اللاوعي (3).

أمّا مجهودنا في هذه الورقة المُقدَّمة، فسينصب على سحب أهم الأفكار – ولو بشكل مُكثّف – من الأطروحة التحليلية النفسية المُدعاة بـ: “مرحلة المرآة” mirror stage (4)، لغرض تحليل مظاهرها وتداعياتها على شخصية “جوكر”. يتعلق الأمر إذن، بإظهار الأهمية الخاصة بمرحلة المرآة في “فيلم الجوكر”، من خلال الضوء الذي تُلقيه على “تشكل الأنا” ضمن التجربة التي تُعطينا التحليل النفسي عنها. مُعتمدين في ذلك، على البيانات التي يُمكن العودة إليها في أحداث الفيلم.

إعلان

1. المرآة .. ذاكرة بدون “أنا”

إن مساعي توظيف النظرية اللاكانية في فهم شخصية “الجوكر”؛ تنْتسِبُ من حيث الإطار التحليلي النفسي إلى التّعديل الذي أجراه لاكان على الطور المرآوي (5)، حيث لم تعُد تُعتبر المرآة لحظة في حياة الرضيع، ولكنها تمثل بنية دائمة من الذاتية. أو كنموذج ذهني “لنظام تخريبي”، تُغذّيه هوية مُستلبة، تسِمُ بنيتها الصلبة النمو الذهني للذات برُمته (6).

• فهل من تفسير لسلوكيات الجوكر من داخل نظرية المرآة اللاكانية؟ وكيف تعيش هذه الشخصية الموسومة بالغرابة تراجيديتها الخاصة مع المرآة؟

لقد أشار جاك لاكان في la relation d’objet؛ بأن “مرحلة المرآة” هي أبعد ما تكون من مُجرّد ظاهرة تحدُث أثناء نُمو الطفل. إنها تُوضح الطبيعة المُتعارضة للعلاقة المزدوجة. هذه العلاقة الثنائية لا تُشير فقط إلى العلاقة بين “الهو” و”الأنا” و”الأنا الأعلى” و”جسم الإنسان”، والتي تتميّز دائمًا بأوهام التشابه والمعاملة بالمثل، ولكن أيضًا إلى العلاقة بين الخيال والحقيقة. تُوفِّر الهوية المرئية التي يتم الحصول عليها من المرآة “شكلًا خياليًا” لتجربة حقيقية مجزأة (7). انطلاقًا من هذه الأرضية، يُمكن أن نتحرك صوب زمن مُتقدم من عُمر شخصية “جوكر”، زمنًا يُمثِّل ذاكرة بلا أنا، وتاريخًا بلا ذات، ووجهًا بلا هوية.

من المُلاحظ أن للمرآة مكانة شاخصة في كواليس شخصية “جوكر“، واختلاءاته مع نفسه حتّى يَظهر لنفسه. إنّها الأحُجية الأكثر غُموضًا واستغلاقًا من النُكتة التي اشتهر بها الفيلم، والتي يُمكن أن نُقحمها كذلك في سبر هوامات سيكولوجية البطل الفوضوي. يختار المُخرج مدخل لاكاني بامتياز، عندما جعل كلمة السر الأولى، مُصاغة في خطاب سيميائي “لآرثر فليك” مع المرآة، والتي يلج بنا من خلالها إلى العُلبة السوداء بلاوعيه، ومن جوفها تُفتح النوافذ وتنطلق الأحداث التي قد تكون مُجرّد حُلم يقظة أو هذيان شديد الهزّة أو تجربة ذهنية خيالية، كتلك النُكتة التي شكّلت قبل نهاية العرض لغزًا محيّرًا بالنسبة للجمهور، بل وكانت نواة التّشويش الذي أقحم عُنصر الوهم بين المشاهد الواقعية وما يدور في رأس “جوكر” من ذُهانات صعبة المنال. فقيمة الخُدعة – حتى من زاوية التحليل النفسي – تكمُن في حقيقتها، بحيث يكون الخيال أبلغ تعبيرًا عنها من الواقع. إن المرآة و النُكتة هما الرموز المُوظفة إخراجيًا من أجل التعبير عن أوهام ذات الجوكر التّخيلية، ولربما عن أوهام الجُمهور كذلك، المُنعكسة في عدسة الكاميرا، كخلفية تُضاعف وهم المرآة.

وفي سياق ربط الأفكار ببعضها البعض، يظهر على سُلوكيات “جوكر”، أنه كان يجد إنتشاءه الخاص عندما يُراقص ذاته، وهو يُطلُّ عليها من خلال المرآة، أو في حالات ترميمه لوُجوهه المُستبدلة، أو عندما يقف مُتأملًا ذاته المشروخة. دومًا هنالك مرآة يُخْرِجُ منها ويرمي فيها شيئًا ما، مِثل قُبعة الساحر، التي تجعلنا نُصدق أنها تستطيع أن تُنجب الأرانب أمام أنظارنا. إن المرآة بمثابة سطح عاكس لنفسية “آرثر فليك”، وفي نفس الوقت عُمق يُخفي ويَحْجُب حقيقة الأعراض التي تنفجر بطرق فظيعة في العراء، عندما تقع الذات الرمزانية فريسة تبعثر الدوال، و لا يبقى أمام الأنا سوى الإلغاء التخيلي.

لننتبه إلى أن الفيلم لا يُقدم لنا تاريخًا طفليًا مُعيّنًا، كركيزة لاستبطان علاقة “آرثر فليك” بالمرآة أثناء نشأته. بمعنى أدّق؛ يغيب عنّا التّمرحل المرآوي لأنا “آرثر فليك”. لكن يبدو أن هذا التاريخ الذي نبحث عنه مُدّون بشكل ما على المرآة ذاتها، إنها تكاد تكون الأرشيف الوحيد الذي يُطالعنا به الفيلم، لكأنها تحمل بصمات سيرته الذاتية بكل أعماقها وأسرارها وأبعادها الداخلية. لقد غار وسفل فليك – جراء نُكوص مُتخيل – من نفس البوابة “المرآة”؛ لكي يعثر عن أصول فلتانة “لأناه المجهول”، أو عن حقيقة تخصُّه، وهي في غالب الأحيان “تكون قد كُتبت في موضع آخر” بتعبير لاكاني.

لقد شكّلت المرآة ذلك النطاق الجراحي لاختلالات البناء التجبيري للأنا، وهو النطاق الذي عبره يُحاول “آرثر فليك” تشريح رغباته وهواماته ومكبوتاته الطفلية. وهو أمام المرآة يرسُم البسمة المُخاتلة على وجه التعاسة، المدفونة تحت جلد كلّ وجه من وجوهه الهووية، يُسقط حركاته المدفوعة باختناق ليبيدي على تصلّباته العقلية والجسدية، يتجوّل بذاكرة المرآة بين مواقع النّفي والحرمان والإحباط المُدمسة والظّليلة في عقله الباطن. لقد كانت المرآة تُريه ما لا يراه الجمهور، تُريه هوية مُستحيلة وحقيقية غائبة ووجها مؤجل النظر إليه. وهو ما قد يحلينا إلى مسألة النرجسية وبناءاتها في مرحلة المرآة عند هذه الشخصية. كما أنّنا كُنا نرى “جوكر” من مرآة المجتمع، أما بالنسبة له، فقد عنت المرآة كلّ شيء، إنها الطريد والمأوى، رمز للخداع والمعرفة، قناة للظهور والاختفاء، حقل للهدم والبناء، مكان للمحو والتّسجيل.

2. قلق الجسد المجزأ عند “الجوكر”

المرآة

إن مرحلة المرآة “stade de miroir le” عبارة عن مأساة ينتقل اندفاعها الداخلي من عدم الاكتفاء إلى الاستباق، والتي تُحرِّك بالنسبة للذات الواقعة في خُدعة التماهي المكاني الاستيهامات التي تتلاحق بدءًا بصورة مُجزأة للجسم، إلى شكل تجميعي وترميمي للجسم في كليته (8). فمرحلة المرآة – دراما تُدبّر للذات، الساقطة في وهم التماهي المكاني، الهوامات التي تتابع انطلاقًا من صورة مجزأة للجسد، إلى شكل سنُسميه تجبيريًا orthopédique في كُليته – إلى تقمص شكّتها armure أخيرًا. وهي هوية ستُطبع، من خلال بنيتها الجامدة، كل تطور الذات الذهني (9). وعلى إثر ذلك، ينبغي لنا أن نُسلّم بأن وحدة الجسد ليست أولى، بل هي إفضاء لغزو طويل. أمّا ما يبدو أنه أول، وعلى العكس من ذلك، فإنما هو قلق الجسد المجزأ. هذا القلق الذي نجده لم يُغادر لاوعي “جوكر” واستحوذ على مُتخيّله بالكامل.

• لماذا كان الجوكر على هذا الحجم من الارتباط بالمرآة؟ هل في الأمر تنقيب خائب في الفراغ، عن صورة غير موجودة؛ أم تشكيل لشتات الذات؟

لمرحلة المرآة تداعيات واضحة من زاوية التحليل النفسي اللاكاني على نفسية “جوكر”. ففي كلّ رقصة يُطل فيها على ذاته أمام المرآة، تحمل إيقاعاته الحركية، رفضًا وتحطيمًا للجسد المجزأ– كلوحة تكعيبية بريشة بابلو بيكاسو– ونقصد هنا صورة الجسد المُقسَّم والمُفتت والمخصيّ، كما تم تخليقُها وحشوُها من قبل خيّلاته في مرحلة المرآة. وتظهر هذه المرحلة وفقًا لما افترض لاكان، أن الأنا هي نتاج سوء فهم مُعبرًا عنه بمصطلح سوء التّعرف méconnaissance، حيث يتضمن اعترافًا كاذبًا. بالإضافة إلى ذلك، فإن مرحلة المرآة هي المكان الذي يُصبح فيه الشخص مُغتربًا عن نفسه (10).

نستعيد من خلال شخصية “جوكر” صوت الأطروحة اللاكانية حول الجسد المجزأ؛ بحيث يبدو لنا جسد “آرثر فليك” في صورته الهوامية كقطاع غير مهيكل بالمرة، وحاملًا لشتات “أنا” منظور له كموضوع لا كذات (من زاوية لاكان). فمن حالات الانقسام البادية على هذا الأخير عندما يُواجه المرآة، وهو يُحاول استجماع شتات أعضاء جسده، يبرُز لنا بجلاء “هوام الجسد المجزأ”. وبإمكان الوقوف – من الناحية التحليلية للتخيلات – على وجود هذا الهوام ضمن ذهانات عديدة، ومن ضمنها الفصام (11). وهو يُعد من بين أهم قسمات شخصية آرثر فليك، المشكوك حتى في حقيقة اسمه الشخصي والعائلي.

تظهر لنا فائدة الأطروحة اللاكانية في تحليل التماهي وتصدعات المرحلة التجبيرية عند “جوكر”. إذ يتعيّن التأكيد على أنّ التّماهي البدائي الخاص بمرحلة المرآة {يشكل} أصل جميع تماهيات الذات الآتية فيما بعد. وفي أغلب الأحيان، فإن تفكيك التبنين الذي ستحدثه الصيرورة الذهانية، سيصاحبه تفكيك لتَبنْيُن صورة الجسد (12)، الشيء الذي نجده يُواقع اضطراب آرثر فليك المُحدّد في تنافر الصلة بين الموضوع والصورة، ليعيش على رصيد التّوثر العدواني لهذه المرحلة. حتىّ أن مجموعة من الصور العدوانية التي تكسو أفعال “جوكر”، من عُنف وقتل ودماء وتمزيق وسواد إلى آخره، يُمكن أن نقرأها كاستعادات لقلق الجسد المجزأ، من خلال الصور التي يحويها (13). إن هذا المنحى من التحليل – حسب لاكان – يُلقي الضوء في جوانب أخرى على المازوشية الأصلية وغريزة الموت من خلال مرحلة المرآة (14).

3. القناع وتوترات “الوجه المرآوي”

تُصاحب الأقنعة تطور شخصية آرثر فليك، إنها خارج لداخل التحولات النفسية العميقة التي يُمسي ويُصبح عليها هذا الأخير، كما تتضاعف هذه الأقنعة، وتبتلع إحداها الأخرى، في عملية تشظي الجسد وتشتته.إنها المحلُول الذي يُفتِّت إمكان وجود أي هوية ذاتية للجوكر. لقد كان القناع رمزًا لانقلاب راديكالي عرفته الشخصية. فمن المُهادنة إلى الرفض والتّمرد، من التّمزق الداخلي إلى التناغم الذاتي، من الإحساس بالخوف إلى التّحرر منه، من التّخفي إلى الظهور. أن يصبح المرء “ما هو”؛ يفترض أن لا يكون لديه أدنى دراية ” بما هو”. إنها الصيغة التي تكشفت بها هوية جوكر المُبهمة. هوية أصبح يغزوها سؤال “ما أنا” وليس “من أنا”.

• فهل لآرثر فليك من وجه؟ ولماذا يعرِفُ الوجه توترًا خاصًا عنده؟ ألم يقل بعظمة لسانه بأنه غير موجود، أو على الأقل لا أحد يشعره بوجوده! وإلى ماذا يعود إذن هذا الخواء الجوهري في ذات البطل؟

تفقد ذات آرثر فليك عن وجودها أية حقيقة قد تستند عليها مُنذ حدث ولوجها إلى المسرح المرآوي. لقد وقع الجوكر في شباك “آخر” المرآة {الأنا التخيلي}؛ الذي ليس بصورة واقعية، مثل اختلاقاته النرجسية ل “ذات المهرج”،هي في أغلب الأحوال استثمارات مسحوبة دومًا من تأليفات المرآة وتاريخها العابث بتشكل الأنا. ومن هنا كانت المرآة بالنسبة له، منطقة تقع بين المُقبِل وما مضى؛ بين الحقيقة والوهم، بين الخيال والواقع، بين الوعي واللاوعي. ما من حقيقة تترآى “لآرثر فليك” حول هويته الذاتية، إنه يعيش أمام المرآة قلق الشتات الجسدي والاستلاب الذاتي والعودة إلى سديم الصُور العتيقة القابعة في خوافي النفس.

تظهر الحاجة إلى المرآة لدى “آرثر فليك” في لحظات التّفكك النفسي. حيث يبدأ في الالتفات إلى تلك الصورة المُتوحدة – آرثر الفرح – ليرى ما الذي طرأ عليها بالفعل، وما الذي تعكسه مما يجري في داخله، وما الذي ينوي عمله بعد ذلك كُله. فالمرآة إذن تعكس إلى الخارج ذلك العالم الداخلي لشخصية “فليك”. لنقل أن نشأة القناع الأخير المُعبِّر عن “جوكر” قد كانت من حُطام الوجه الأمومي بوصفه مرآة لآرثر فليك. كما لا يعود منشأ المرض الذي شُخص به “جنون الضحك المرضي” أو “إضطراب التعبير العاطفي اللاإرادي” إلى سبب أو منشأ عضوي كما احتُمِل في الفيلم، إثر تعرّض هذا الأخير للضرب في رأسه أثناء طُفولته.

فمن زاوية نظر أخرى، نُرجع هذا الاعتلال النفسي عند “آرثر فليك” إلى اضطرابات الوجه، الذي تعتصر في واجهته ثنائية المشاعر المتناقضة {ضحك / بكاء}. بمعنى أوضح، إن آرثر فليك مُتوحد مع الصورة المفروضة عليه من الأم الفصامية، صورة المهرج الفرح happy دومًا، وهو اللقب الذي كانت تناديه به. بينما هذا القناع، الذي تُحمَلُ عليه شخصية personna جوكر، تتناقض تمامًا مع داخله المؤلم والتعيس. وربما هذا ما يفسر لنا ضحكاته القهرية، إنها ضحكات مذبوحة – مثل تلك الابتسامة التي رسمها على خذوذه في مُنتهى الفيلم – لأنها لا تعكس حقيقة ذاته.

أما المرآة فقد شكلت الفضاء المُتوثر الذي تستيقظ فيه هذه البنية الفصامية لدى “آرثر فليك”، والتي حاول فهمها من منطلق ذاتي، فجمع النقيضين معا قائلًا: “كنت أعتقد أن حياتي تراجيديًا، أما الآن فصرت موقنًا أنها كوميديا”. أو ليست ذات البطل تعيش فصامها السعيد !
ما من مشهد سُريالي وغير مُتوقع، كفعل مَبيت “آرثر فليك” داخل ثلاجة بيته، بعد قتل أمه، مُحاكيًا في قُعوده وضعية الجنين وهو لا يزال في بطن الأم. فبكيفية لاواعية أخذت الثلاجة على خشبة المُتخيل، شكل الرحم البارد، والذي فيه سيحدث مخاض ولادة شخصية “جوكر”، وإحداثه القطيعة التامة مع الهويات السابقة، وهو يعيش جدلية البناء والتخريب إزاء رغبته. لننتبه في هذا المشهد إلى دلالة الصورة الخصائية من الناحية اللاشعورية. فقد وجدت “المرآة المزيفة” الحاملة صورة تعريفية عن “آرثر فليك” انكسارها الرمزي في انمحاء “وجه الأم الوهمية”. كيف ذلك؟ وبماذا يُفسّر هذا الاقتران؟

إن وجه الأم يُعد أول مرآة للطفل، إذ هناك مرآة تسبق مرحلة المرآة، وهي تلك التي تتكون من خلال النظرة المتبادلة بين “عين الطفل” و “وجه الأم”، حيث ينعكس وجه الأم بوصفه “مرآة” يرى فيها الطفل ذاته ويُمكنه من خلالها أن يُطل على العالم الخارجي. يُمكن القول أن هذه التجربة، كما عدّت على مُتخّيل “آرثر فليك”، قد منحته انعكاسًا لوجوده من داخل وجه أمه. ولذلك، فبعد اكتشافه لحقيقة كونه ابن بالتبني، حدثت لديه صدمة عميقة أعادت له اضطراب الزمن المرآوي. إن قتل “الأم الوهمية” قد أشرط من حيث السبيية النفسية بانكسار المرآة المزيفة – أي صورته حول ذاته التاريخية، هذه الصورة المنسوخة من وجه الأم باعتبارها مرآة كما بيّنا ذلك. الشيء الذي يشرح لنا توترات القناع كوجه مرآوي، كُتب فيه القدر المأساوي لشخصية جوكر*.

إلى جانب ما ذُكر، نرى أيضًا أن الدلالة الرمزية للقناع تحتوي كل صور التخريب والتدمير للوجوه الأخرى، وجه المجتمع ووجه الأم المزيفة والوجه الخصائي للأبوة ووجه النظام بالأساس. فالجوكر هو رمز لشخصية تفصل بين هويتها النفسية وقناعها الرمزاني هوة سحيقة تجعل من التطابق مع “الدال” السيد (القيم والأفكار والأيديولوجية) مسألة شبه مستحيلة.

ختم:

أيصحُّ الكلام عن جوكر المرآة ؟ أو بصياغة أخرى، هل هنالك من صلة لشخصية جوكر في وجودها وتخليقها بالمرآة ؟ إذا ما أخذنا بفكرة كون المتخيل هو ما يعكس الرغبة في الصورة التي تحملها الذات عن نفسها، سيبدو لنا أن هذا الأنا الآخر alter-egoالذي يحاول “آرثر فليك” بجنون العثور عليه في نفسه، هو صورة “جوكر” التي وجدها خارج ذاته “آخر الذات”. وهي صورة رامزة – من وجهة نظر التحليل النفسي – إلى صراع ذاتي محضنُه المرآة. لهذا كانت هي الشاهد الحقيقي على ميلاد وموت فونتازم جوكر، لأنه صورة عن اللاوجود أو ما لا يوجد وراء المرآة (15). وكانت أيضًا كيفية لأقأويل حُمق “جوكر”، بقلب معنى الحمق، كما جاء في وصف لاكان للهوية المستلبة: فهذا الأخير هو من يقول إنه هو الآخر (16).

يُصيب الجمهور بدوره نصيب لا محدود من بدع ودُوار وأوهام هذا المسرح المرآوي. فالشاشة السينمائية هي أيضًا مرآة تعكس لنا صور الآخر في ذواتنا نحن. ليس “جوكر” بشخصية سجينة الزمن الفيلمي ومنتهية الصلاحية خارجه، فهناك صدى لهذه الشخصية على صعيد كل ذات تعيش تشوشها الخاص مع المرآة. إذ ثمة مهرج نائم في لاوعي كل واحد منا، واستيقاظه يعني أن هناك ذاتًا تخيلية تطفو على سطح وعينا المشوش بحقيقة كاذبة عن أنفسنا.

بقي أن نختم هذا العرض التحليلي النفسي، بإيداع حكمة وجيزة في بريد الفيلم، تقول: “عندما يوضع الإنسان في قفص فإنه يتخبط في البداية، ثم يبدأ بتزيين قفصه”. فالمرآة كاستعارة للقفص هي المكان الذي سجن فيه الأنا التخيلي الذي منه انحدرت شخصية “جوكر” في فيلم دافيد فيشر، أما تلك الزينة التي توضع على القفص/المرآة، فهي كل التشكيلات الوهمية المُضفاة من طرف ذات غائبة يقع وجودها خارج تفكيرها في نفسها “يوجد جوكر حيث لا يفكر”. ما من شك، أن حصاد هذه التفسيرات يؤول إلى الخلاصة اللاكانية المسحوبة من مرحلة المرآة. وهي أشبه ما تكون بديلًا أركيولوجيًا حول تاريخ “الأنا” منظور له كبنية قصة خيالية.

هوامش:
1. يجري وصف مرحلة المرآة من خلال محاضرتين: مرحلة المرآة the looking-glass phase المقدمة لأول مرة إلى المؤتمر الدولي الرابع عشر للتحليل النفسي المنعقد في مارينباد marienbad سنة 1936 تحت رئاسة إرنست جونس. و مرحلة المرآة باعتبارها مُشكِّلا لوظيفة "الأنا"؛ مداخلة قدمها لاكان إلى المؤتمر الدولي السادس عشر للتحليل النفسي بزيوريخ، في 17 يوليوز 1949. راجع: المجلة الفرنسية للتحليل النفسي، العدد 4 أكتوبر – نوفمبر 1949، ص ص 455 – 499.
2. جاك لاكان، مجلة بيت الحكمة، العدد الثامن، السنة الثانية، مطبعة النجاح الجديدة، 1988، ص 19. 
3. جاك لاكان، موسوعة ستانفورد للفلسفة، ترجمة: سليمان السلطان، "مرحلة المرآة، الانا، الموضوع"، عن موقع حكمة من أجل اجتهاد ثقافي وفلسفي.4. يبدو أن جاك لاكان يستعمل تعبيري "مرحلة المرآة" أو "طور المرآة" دون تمييز بينهما، مع ميل خفيف إلى تفضيل التعبير الثاني.
5. هذا التطور في تفكير جاك لاكان يتضح في مقالته الأخيرة بعنوان "تخريب الموضوع وجدلية الرغبة".
6. كاترين كليمان، التحليل النفسي، ترجمة، محمد سبيلا، حسن أحجيج، منشورات الزمن، 2004، ص 57.
7. راجع: جاك لاكان، بعض الانعكاسات على الأنا، 1953.
8. كاترين كليمان، التحليل النفسي، مرجع مذكور، ص 57.
9. جاك لاكان، مجلة بيت الحكمة، مرجع مذكور، ص 26.
10. Jacques lacan , L’angoisse ; 1962-1963.
11. لاكان، بيت الحكمة، مرجع مذكور، ص 40.
12. نفس المرجع، ص 43.
13. راجع: جاك لاكان، الكتابات، ص 101.
14. راجع: لاكان، الكتابات، ص – 181 (أقوال حول السببية النفسية). 
* نفهم مع لاكان أن اللاشعور مصاغ وفق أثر الشيء الذي يفعل فعله ليشكل الذات. (وضعية اللاشعور؛ كتابات، 1966).
15. تبرز ظاهرة التماهي المرآوي المصاحبة لنمو الأنا، كمعيار مُنظم لمسار حياتها، والذي لا يستطيع أن يوجد إلا من خلال اختفاء الصورة وراء المرآة: فوحدة الأنا يلازمها الموت كغياب – ومن تمت يتبين "عدم الوجود" أو "الفقدان لوجود" الذي يسم كينونة الذات، وحيث الموت المقيم كصورة في المرآة، هو إذن النهاية القادمة لكل حياة، إنه النهاية الحاضرة منذ البدأ في الانفتاح الذي يشكل المتخيل.
16. التحليل النفسي، مرجع مذكور، ص 58.

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: يوسف عدنان

تدقيق لغوي: مصعب محيسن

تحرير/تنسيق: خالد عبود

اترك تعليقا