الحجر الصحي: قانونيته وفعاليته

هذا المقال كتبته في الأصل باللغة الإنجليزية كمسودة نهائية لورقتي البحثية التي أتممت بها دراستي لمنهج الكتابة الأكاديمية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، ثم شجعني على ترجمته للعربية تقييم السيد المحاضر، لاسيما مع ارتباط الموضوع بظروف جائحة فيروس الكورونا الراهنة.
هل ثمة تعارض بين المحافظة على سقف الحريات وبين تطبيق السياسات الضرورية لمواجهة الكوارث؟ يثور هذا التساؤل بشأن الإجراءات الرسمية في أزمنة الأوبئة والجائحات كما هو الأمر حاليًا بشأن جائحة فيروس الكورونا المستجد (Covid – 19)، مما سبب خلافًا في وجهات النظر حول حدود الدور الذي تؤديه الحكومات في أزمنة الوباء ومدى تأثيره على الحقوق والحريات العامة، لاسيما في ظل القيود التي تُفرض على حركة الناس والإجراءات الطبية الصارمة كـ “الحجر الصحي”.

وتزداد أهمية البحث إذا أخذنا في الاعتبار المسؤوليات الملقاة على عاتق الحكومات لاتخاذ إجراءات عاجلة في مثل تلك الظروف لاحتواء الخطر ودعم الأنظمة الصحية وزيادة قدرتها، فثمة اتجاهان رئيسان، أولهما يذهب إلى غل يد الحكومات عن فرض الحجر الصحي ، ويأسسون موقفهم على عدم قانونية إجراء الحجر الصحي بالإضافة إلى عدم فاعليته من الناحية العملية، ويرون أنه يجب توجيه الجهود في اتجاه دعم المنظومات الصحية كأفضل حل لمواجهة الوباء، أما الاتجاه الآخر فيؤيد السماح للسلطات بفرض الحجر الصحي على المواطنين في أزمنة الأوبئة والجائحات باعتبارها ظروفًا استثنائية، وأنه ليس هناك تعارض بين ذلك وبين تطوير المنظومات الصحية في الوقت نفسه.

لا شك أنَّ حجج الرأي الأول تعكس اهتمامات لا يمكن غض البصر عنها، لكن حجج الرأي الثاني تبدو أكثر إقناعًا لابتنائها على أسس منطقية وعملية. إننا إذا أخذنا في اعتبارنا كلتا وجهتي النظر وما سبقت الإشارة إليه من اعتبارات لذهبنا إلى ضرورة تمكين الحكومات من تطبيق الحجر الصحي على مواطنيها في أوقات الأوبئة والجائحات، ذلك أنها ظروف استثنائية ومن ثم تقتضي إجراءات عاجلة لمواجهتها، أضف إلى ذلك أنَّ تنويع الإجراءات التي تتخذها الأجهزة التنفيذية إبان تلك الظروف ما بين الحجر الذاتي والعزل وحظر التجوال والبقاء الإجباري في المنزل وذلك على حسب كل حالة فردية ووفقًا للوضع الراهن في كل مدينة وكل بلد -من شأنه أن يكفل فاعلية الإجراء المتخذ.

يحتج الاتجاه المعارض بأنَّ الإجراءات الرسمية التي تتخذ أثناء الأوبئة والجائحات خاصةً الحجر الصحي هي إجراءات غير دستورية لما تمثله من اعتداء على الحريات، لذا يذهب أنصار هذا الرأي إلى ضرورة تضييق نطاق تطبيق تلك الإجراءات وتقنينها على نحو صارم، فقد اعتبرت المحكمة الأمريكية العليا أنَّ الحجر الصحي يشكل مصادرة صارخة للحرية؛ لذا قضت بأنَّه لابد أن يستند إلى قيام خطر واضح ومقنع كي يكتسب مشروعيته.

ويرجع السبب في ذلك إلى أنَّ مراكز الوقاية والسيطرة على الأمراض (Centers for Disease Control and Prevention- CDC) ما زالت تتخذ قرارتها بفرض الحجر الصحي أو العزل أو الإفراج مع التحفظ فيما يتعلق بالأمراض المعدية استنادًا إلى ما تسميه “الاعتقاد المعقول” (Gostin, 2016, p. 2). يضاف إلى ما تقدم أنَّ ثمة مخاوف من أن تتسبب تلك الإجراءات الرسمية المقيدة للحريات إلى التكريس لوضع جديد يصبح فيه سلب الحريات أمرًا مبررًا (“The government’s Coronavirus strategy must face scrutiny”, 2020, para. 9)، ورغم أهمية الحجج المتقدمة إلا أنَّ الإجراءات الحكومية التي تتخذ إبان أزمنة الأوبئة والجائحات لا تحركها غايات أمنية ولا تستهدف الحريات العامة لذاتها، وإنما تستهدف في الأساس حماية الصحة العامة للمواطنين من مخاطر العدوى.

إعلان

إنَّ الطبيعة الاستثنائية لتلك الظروف من شأنها أن تفرض على الحكومات أنَّ تتخذ تدابير سريعة وغير اعتيادية لمجابهة الوباء، ذلك أنَّ أي تأخير من شأنه أن يسبب آلافًا من الإصابات والوفيات، أما تقنين تلك الإجراءات فيجب أن يكون قد سبق زمن الوباء، ذلك أن العملية التشريعية قد تستغرق وقتًا طويلًا باعتبارها تتعلق بمسألة جدلية، فعلى سبيل المثال في الولايات المتحدة الأمريكية استمر الجدل حول وضع قواعد جديدة تنظم الحجر الصحي في القوانين الفيدرالية المنظمة للصحة العامة من عام 2005 حتى عام 2016 بلا طائل، إلى أن قُدمت مقترحات جديدة بدلًا من السابقة (Gostin, 2016, p. 1).

إنَّ هذا الوقت الذي استغرقته المناقشات القانونية لا يتناسب إطلاقًا مع حالة الضرورة التي يستدعيها تتبع انتشار العدوى لأنَّ أي تأخير قد تنتج عنه كارثة، ومع ذلك فإنَّ القوة التي تتمتع بها القنوات الديمقراطية متمثلةً في المؤسسات التشريعية والقضائية قادرة على تحقيق التوازن في مواجهة الأجهزة التنفيذية، عن طريق التأكد من أنَّ الإجراءات التي اتخذتها الأخيرة قد وجهت نحو مخاطر العدوى ولم تستخدم كذريعة لمصادرة الحريات، فيجب على المؤسسات التشريعية مراجعة تلك الإجراءات تمهيدًا لتقنينها، وهو ما سعت مراكز الوقاية والسيطرة على الأمراض لتحقيقه بشأن إجراءات الفحص والمراقبة التي اتخذتها مع المسافرين عند تفشي وباء الإيبولا (Gostin, 2016, p. 1).

كذلك يجب توسيع الدور القضائي بشأن إجراءات الحجر الصحي والعزل عن طريق تشكيل محاكم خاصة لمراقبة قرار الحجر أثناء مرحلتي إصداره وتنفيذه، فعلى سبيل المثال أجرت ولاية تينيسي الأمريكية عام 2006 تعديلًا لقانونها نظمت بموجبه الدور الذي تلعبه محكمة General Sessions Court في حالة الطوارئ وفي الظروف العادية، فقد منح القانون للمحكمة سلطة إصدار أوامر القبض المدني والوضع في العزل، ثم أوجبت جدولة جلسات استماع بغية تمكين المحكمة من تقدير الجدوى من استمرار خضوع الشخص للحجر الصحي (Shults, 2020, p. 19)، وفي جميع الأحوال فإنَّ من أُجبر على الوضع في الحجر الصحي دون أسباب طبية يستطيع مقاضاة الحكومة التي ستلتزم حينئذ بتعويضه عما أصابه من أضرار نتيجة الحجر الصحي غير المبرر وفقًا لقواعد المسؤولية التقصيرية في القانون المدني، إذن فإنَّ تمكين السلطات من فرض الحجر الصحي واتخاذ إجراءات صارمة لمواجهة الأوبئة والجائحات لا يجب أن يكون مدعاة للقلق من مصادرة الحريات، ذلك أنَّها لن تعدو إجراءات مؤقتة تقاس ضرورتها وفاعليتها مقارنةً بمخاطر العدوى عن طريق المؤسسات الديمقراطية.

يحتج أيضًا معارضو التدخل الحكومي في ظروف الوباء بعدم فاعلية الحجر الصحي في حماية الصحة العامة لعدم استناده إلى دليل علمي، فالحجر الصحي إجراءٌ تقادم عهده كوسيلة كانت تستخدم لحماية الصحة العامة في عصور تختلف معطياتها تمامًا عن العصر الحديث (Bensimon & Upshur, 2007, p.1)، فإذ يعتقد أولئك المعارضون بأنَّه لم يثبت نظريًا بعد جدوى تطبيق الحجر الصحي على نطاق واسع، فإنهم يرون عدم اللجوء إليه إلا إذا أثبتت سلطات اتخاذ القرار أن من شأنه أن يحد من انتشار الوباء (Bensimon & Upshur, 2007, p. 3). لكن فاعلية الحجر الصحي وغيره من الإجراءات يجب أن تُحدد بالنظر إلى كل حالة على حدة، وعلى ضوء الوضع العام في كل دولة أو مدينة وذلك بمدى قدرته في المساهمة في التصدي للجائحة، ذلك أنَّ فكرة الفاعلية ليست محصورة في النطاق العلمي وإنما هي فكرة واسعة ذات أبعاد مؤسسية ومجتمعية وأكاديمية (Bensimon & Upshur, 2007, p. 4)، فعلى سبيل المثال قد توصلت دراسة أجراها Qui & Xiao إلى أن التطبيق المبكر للحجر الصحي الجماعي في مدينة ووهان الصينية التي انطلق منها فيروس كورونا المستجد قد كان فعالًا في تقليل معدل العدوى من نسبة 2.65 % إلى 1.98، في حين كشفت دراسة أخرى عن أنه لم يكن ثمة حاجة إلى تلك الدرجة من الحجر أثناء تفشى وباء SARS في العاصمة بكين، بل كان الضروري فقط حجر من لهم اتصال بالشخص المصاب (Taghir et al., 2020, pp. 266-267).

لما كان ما تقدم، فإنَّ نجاح إجراء صحي ما يتوقف على عدة عوامل، منها طبيعة المكان والظرف الزمني بالإضافة إلى الوباء نفسه، وفي الحقيقة فإنَّ السلطات المختصة لا تلجأ إلى إجراء الحجر الصحي إلا بعد أن تكون قد استنفدت الحلول الأخرى أو عندما يكون الحجر هو الحل الوحيد، فبالنسبة للقادمين من بلد تفشى فيه الوباء يكون الحجر الصحي هو الإجراء الحتمي حتى التأكد من عدم حملهم العدوى، وفي أزمنة الأوبئة والجائحات يجب فحص الناس في الأماكن العامة وإجبار من لديهم الأعراض على البقاء في المنزل حتى تستبين حالهم، فإذا استمرت الأعراض أو تفاقمت فلابد من وضعهم في الحجر الصحي أو عزلهم لإجراء الفحوصات اللازمة وصولًا إلى تشخيص إصاباتهم وإعطائهم العلاج اللازم، كما أنَّ حالة الغلق الكامل وحظر التجوال باعتبارها من صور الحجر الصحي هي الإجراء المناسب على ضوء مؤشر انتشار العدوى ومعدل الإصابة، فلابد من تطبيق إجراء الغلق والحظر في جميع أنحاء الدولة في حال انفلات العدوى ووصول الإصابات حال الذروة، فإذا ما استقرت النسبة يمكن تحديد الحظر بمناطق معينة، إلى أن يتم رفعه تدريجيًا مع انخفاض مؤشر انتشار العدوى ومعدل الإصابة (Zaman & Kundapur, 2020, pp. 229-230)، أما إذا انتظرت السلطات إجازة كل إجراء من الناحية العلمية -خصوصًا الحجر الصحي- كي تتمكن من تطبيقه في حين يتحرك الأشخاص حاملو العدوى بلا ضابط فإنَّ الوضع سيصبح كارثيًا، الأمر الذي يجعل من الضروري السماح لسلطات كل دولة باتخاذ الإجراءات المناسبة بما فيها الحجر الصحي على ضوء تقديرها للموقف.

***

لقد احتُج بأنَّ الحكومات إذا ما أطلقت أيديها في اتخاذ التدابير المقيدة لمواجهة الأوبئة والجائحات فإنها قد تتعسف في استخدام سلطاتها إلى حد مصادرة الحريات، وقيل أيضًا في سياق المعارضة أنَّه ليس ثمة إثبات علمي لنجاعة الحجر الصحي في حماية الصحة العامة، ومع تقدير هذه الحجج لما تعكسه من أمور جديرة بالاعتبار بشأن قدسية الحريات العامة وإعطاء الأولوية لإيجاد إجراءات فعالة لمواجهة الأوبئة والجائحات، إلا أنها جاءت غير كافية، إذ تبحث الموضوع من زاوية ضيقة؛ أولًا: إنَّ عدم التوقع المصاحب لتفشي الجائحة أو الوباء يقتضي اتخاذ إجراءات سريعة غير استثنائية كالحجر الصحي بهدف السيطرة على معدل الإصابة بالعدوى، ذلك أنَّ الانتظار حتى تقنين تلك الإجراءات قد يطول، الأمر الذي سيكلف مزيدًا من الإصابات والوفيات، ثانيًا: إنَّ تجرد الحجر الصحي من الغايات الأمنية وإمكانية خضوعه للبحث والمراجعة بواسطة المؤسسات التشريعية والقضائية في الأنظمة الديمقراطية بهدف التأكد من ضرورته وقيامه على أسباب تبرره -كل ذلك من شأنه أن يبدد المخاوف من صيرورة الحجر الصحي قبضًا مقنعًا، أخيرًا: إنَّ فاعلية أي إجراء يجب ألا تحصر في نطاق علمي بحت وإنما باعتبار الحاجة إلى الإجراء في سياق الاستراتيجية المتبعة للتعامل مع معدل الإصابة بالعدوى.

إنه لمن الضروري أن تكون ردة فعل السلطات سريعة لمجابهة الجائحة والسيطرة على العدوى، وفي الوقت ذاته عليها أن تتحمل مسؤولية استخدام ما منحته من اختصاصات على الوجه الصحيح، إنَّ أهمية بحث هذا الموضوع تنبع من التفشي المفاجئ للأوبئة والجائحات بلا نذير كما هو الحال بشأن فيروس كورونا المستجد، ومن ثمَّ يجب التوصل إلى أرضية مشتركة بهدف تزويد السلطات والمؤسسات الصحية بسلطة اتخاذ الإجراءات اللازمة لمواجهة ما قد يطرأ على هذا الفيروس من تطورات أو يحدث في المستقبل من أوبئة أخرى، وبناءً على ذلك يجب وضع التشريعات التي تؤطر السلطات والاختصاصات الممنوحة في مثل تلك الظروف بضوابط مرنة تتيح للأجهزة التنفيذية العمل بنوع من الحرية، ومن ناحية أخرى يجب أن تتضمن القوانين المقترحة قواعد صارمة وجزاءات عند التعسف في استعمال تلك السطات وفقًا لقواعد المسؤولية التقصيرية في القانون المدني، وكذا تجريم تلك الممارسات في القوانين العقابية.

المراجع
Bensimon, C. M., & Upshur, R. E. G. (2007/4). Evidence and effectivene
decisionmaking for quarantine. American Journal of Public Health, 97(1), 44-48. https://doi.org/10.2105/AJPH.2005.077305
Gostin, L. O. (2016). A very long journey: A decade’s quest for quarantine
regulations. The Milbank Quarterly, 94(4), 724-728. https://doi-org.libproxy.aucegypt.edu/10.1111/1468-0009.12226
          Shults, W. O. (2020/3). Tennessee law in the time of pandemic disease. Tennessee Bar 
Journal, 56 (3), 14-23 https://www.tba.org/index.cfm?pg=TennesseeBarJournal&pubAction=viewIssue&pubIssueID=7508&pubIssueItemID=2859
Taghrir, M. H., Akbarialiabad, H., & Marzaleh, M. A. (2020/4). Efficacy of mass
quarantine as leverage of health system governance during COVID-19 outbreak: A mini policy review. Archives of Iranian Medicine (AIM), 23 (4), 265-267. doi: 10.34172/aim.2020.08
The Observer view: The government’s Coronavirus strategy must face scrutiny
(2020). The Guardian https://www.theguardian.com/commentisfree/2020/mar/15/observer-view-on-the-government-coronavirus-strategy-must-face-scrutiny
Zaman, F. A., & Kundapur, R., (2020/4). Testing and lockdown; How much & to what
extent? – An epidemiological dilemma. Indian Journal of Community Health, 32 (2), 228-223. http://web.b.ebscohost.com.libproxy.aucegypt.edu:2048/ehost/detail/detail?vid=3&sid=0ecd3424-ec7c-4220-965b-7b90b9f00ddd%40sessionmgr101&bdata=JnNpdGU9ZWhvc3QtbGl2ZQ%3d%3d#AN=143065532&db=a9h

إعلان

فريق الإعداد

إعداد: حسين علام

تدقيق لغوي: سلمى الحبشي

ترجمة: حسين علام

اترك تعليقا