ما معنى الحياة؟: قراءة في مقدمة تيري إيجلتون
إن تفاقم المأزق الوجودي، وعجز الإجابات القديمة عن مواكبة شراسة الأسئلة، والاضمحلال السياسي وتمزق المنظومة الاجتماعية والتقشف الاقتصادي وغيرها من الإشكالات التي تحوم بنعيقها في سماء العقل البشري الملبدة بالشكوك، هذه الإشكالات ما تلبث تجر الإنسان جرًا نحو التساؤل عن وجود معنى للحياة أو تجسد معنى في أيٍ من الكيانات المختلفة، وقد حاول المنظّر والناقد البريطاني المعاصر تيري إيجلتون تفنيد الخطوط الأساسية لإشكالية المعنى في “مقدمة قصيرة جدًا” لا تتجاوز المائة صفحة، وقد أتم ذلك ببراعة لا تضاهى.
كثافة الأفكار المطروحة في الكتاب تجعل من الصعب جدًا الإلمام بها كلها في مقالٍ قصير، ذلك لما كان الكاتب يمر على كل فكرةٍ بأقدامٍ ناعمةٍ وبشكل مكثف ومن ثمّ لا ينفك ينتقل إلى الفكرة التي تليها، ولذا لن يكون بوسعي إلا أن أمر أنا أيضًا بأقدامٍ ناعمةٍ مشابهة على بعضٍ من الأفكار التي يطرحها هذا الكتاب.
العصر الذي نعيشه و”البعد الرمزي” للحياة الإنسانية
يقول فيرناندو بيسوا: “عندما جاء الجيل الذي أنتمي إليه إلى الوجود لم يجد أي سند عقلي أو روحي. ذلك أن العمل الهدام الذي قامت به الأجيال السابقة لنا جعل العالم الذي ولدنا فيه مفتقرًا إلى الأمان الديني، وإلى الدعم الأخلاقي، وإلى الاستقرار السياسي. لقد ولدنا إذًا في أوج القلق الميتافيزيقي، في أوج القلق الروحي، وفي أوج اللاطمأنينة السياسية”.(1)
لا يمكننا تناول إشكالية المعنى دون أن نسلط ضوءًا -ولو خفيتًا- على حركة ما بعد الحداثة، ذلك الإعصار الذي ضرب العالم عقب حروب هذا القرن وحمل معه من الشكوك والتساؤلات ما لم يشهده عصرٍ من قبل.
“إن فكر ما بعد التحديث هو أسلوب فكري يتشكك في المفاهيم التقليدية للحقيقة، والعقل، والهوية، والموضوعية. وهو يرى العالم كشيءٍ عرضي، وبلا أساسٍ ثابت، ومتنوع، وغير مستقر، وغير حتمي”.(2)
يطرح تيري إيجلتون في مقدمته، أن سبب تفاقم القلق الإنساني هو التهميش المستمر والمنتظم لما يُطلق عليه “البعد الرمزي” للحياة الإنسانية، والذي يضم ثلاثة جوانب طالما كانت حيوية: الدين، والثقافة، والجنس.
ففي عصور ما قبل الحداثة، لم يكن الدين مقتصرًا على خلاصٍ فردي، ولم تك فكرة خصوصية العلاقة الإلهية الإنسانية مقبولة كما هي الآن، بل كان الدين هو الجزء الأكبر من سياسات الدولة ونفوذها، والعنصر الأساسي للأيدولوجيات القومية، والمحرك الأساسي لمصائر الشعوب ومواقفها من بعضها ومن العالم بأكمله. ولم يك الفنان متقوقعًا على نفسه يبتاع مداد قلمه من عزلته أو من زجاجة بيرة، بقدر ما كان موظفًا له دوره الإنتاجي في المجتمع؛ كذلك كان الجنس محبوسًا داخل أعراف النسب والطبقات الاجتماعية وغيرها.
نرشح لك: تأملات في معـنى الحياة
لقد كانت القطعية التي امتازت بها مجتمعات ما قبل الحداثة مُسكنًا قويًا للقلق الوجودي، بحيث كان الفرد يثق ثقةً شبه تامةٍ في السلطة والدين والله، ولم يك ليحتاج إلى مقدمات تسبق الله ليطمئن قلبه، لقد كان فقط “يؤمن”.
ولكن تلك القطعية والثقة المطلقة من قبل الأفراد في “البعد الرمزي”، أدت –وبشكلٍ يبدو بديهيًا اليوم- إلى تسييسه، بحيث أصبح كلٍ من الدين والجنس والثقافة بمثابة الخدم المطيعين للسياسة، فأصبح الساسة والحكام يتحكمون في الأفراد من خلال هذه الثلاثية الرمزية، وغرّ الطواغيت خنوع الشعوب فساقوهم إلى التهلكة. في عصور ما قبل الحداثة، حينما كان أحد الناس يتساءل عن معنى وقيمة وجودهم، كان من الصعب أن يجدوا سببًا أكثر جوهرية من الحب، والإيمان الديني، والقيمة النفيسة لعشيرة الفرد وثقافته. كان هناك عدد ضخم من الناس على استعداد للموت، أو مستعدين للقتل باسمها.* ولكن الدموية التي شهدها هذا العصر والأرواح التي أزهقت بشكل اعتباطي تمامًا دفعت بالناس إلى وضع ملاذهم الدائم من غارات القلق –والمتمثل في البعد الرمزي- موضع شكٍ وتساؤل ونقد.
هل السؤال عن معنى الحياة هو “خدعة لغوية”؟
يؤكد لودفيج فيتجنشتاين في كتابه “تحقيقات فلسفية” على الفارق بين الأسئلة الحقيقية والأسئلة المزيفة، فالأسئلة الحقيقية هي تلك التي يتم طرحها تلهفًا لإجابة ممكنة، بينما الأسئلة المزيفة هي تلك التي نسألها بينما لا نبغي إجابة بعينها؛ إذ يمكن لقطعة لغوية أن تأخذ الشكل النحوي لسؤال ولكنها في الواقع ليست سؤالًا. فبعد يوم طويل من العمل ومن الأحداث غير المحسوبة، تسأل صديقك بإنهاك ممزوج بفخر: “وماذا بعد؟”، وبالتأكيد لا تنتظر منه أن يقول لك أنك ستنام لتستيقظ في اليوم التالي لتذهب إلى العمل مرةً أخرى، وإذا لاحظت أحدهم يحملق فيك بفظاظة وسألته منتهرًا: “فيمَ تحدق؟” فأنت لا يهمك على الإطلاق فيمَ يحدق بقدر ما يهمك أن يتوقف عن فظاظته.
يطرح تيري إيجلتون احتمال أن نكون قد أسأنا فهم سؤال “ما معنى الحياة ؟” بحيث اعتبرناه كسؤال “أين تقع الكليتان في الجسم؟” أو “كم عينًا يمتلك الإنسان؟”، فتلك الأخيرة هي أسئلة لها إجابات محددة وواقعية، بينما قد لا يكون سؤالنا الأساسي له إجابة على النفس الشاكلة، أو قد لا يكون سؤالًا حقيقيًا يبتغي إجابة في الأساس كما هو بالنسبة إلى بعض الفلاسفة، إذ إن ذلك السؤال –بالنسبة إليهم- ليس إلا طريقة مملة لقول “يا للروعة!”، وهو سؤال يصلح لشاعر أو متصوف وليس لفيلسوف.
نرشح لك:التجربة الدينية في ضوء ألعاب فتغنشتاين اللغوية
الدلالة اللغوية لكلمة “المعنى”
إن سؤال “ما معنى الحياة” هو واحد من تلك الأسئلة النادرة التي تمثل كل كلمة فيها إشكالة في حد ذاتها*. يؤكد الكاتب أنه لا يمكننا الإجابة عن هذا السؤال الشائك دون أن نعرف الاستخدامات المجتمعية لكلمة “معنى”، وذلك بمقتضى أنه لا يمكننا الإجابة عن سؤال دون فهم دلالته في الأساس. ويضرب الكاتب ثلاث أمثلة ليدلل على ثلاثة استخدامات للكلمة:
- الدلالة الأولى تتعلق باعتزام فعل الشيء أو التخطيط له، وذلك كما هو واضح في المثال “Did you mean to choke him?” أي “هل كنت تعتزم خنقه؟”، فهو سؤال عن النية والدافع. كذلك الحال في جملةٍ كـ”كانت سارة تعني خيرًا”.
- أما الثانية فهي تتعلق بفكرة الدلالة على شيء، كما في جملة “السحب تعني هطول الأمطار”، فالسحب هنا لا تعتزم على هطول الأمطار هي فقط تشير إليها.
- أما الدلالة الثالثة فهي تشمل اعتزام الدلالة على شيء، كما في جملة “ماذا كنت تعني بالحمار العجوز المرقط؟” فالسؤال هنا يستفهم عن نية الشخص ودلالة الشيء معًا.
بين إرادة شوبنهاور والله
يقول لودفيج فيتجنشتاين: “الغموض لا يكمن في كيفية نشأة العالم، ولكن في وجوده أصلًا”.
إن السؤال الأكثر إلحاحًا من سؤال: “ما معنى الحياة ؟” هو سؤال: “لم يوجد أي شيءٍ نتساءل عن معناه بدلًا من وجود لا شيء؟”. بالنسبة لمعظم اللاهوتيين ورجال الدين، فإن هذين السؤالين لا يشكلان مأزقًا، فالإجابة هي ببساطة: الإله. ولكن هل نجح اللاهوتيون فعلًا في تقديم إجابة مرضيةٍ على أيٍ من السؤالين؟
قبل أن نتطرق لطرح الكاتب، علينا أن نلقي نظرة سريعة جدًا على “إرادة” شوبنهاور. يرى شوبنهاور أن الواقع بأسره هو النتاج العارض لما يُطلقُ عليه “الإرادة”، والتي تخلق وتحرك كل شيءٍ لهدفٍ واحد وهو الحفاظ على وجودها، إنها ببساطة تستخدمنا وبقية الخلق لخدمة أغراضها الغامضة الخاصة، توهمنا بأن لحياتنا معنى بينما نحن ما إلا أدواتٌ بائسة لإعادة إنتاج ذاتها الأعمى وعديم الجدوى.
إن وجود الله والذي يعزى إليه الخلق بأكمله لا يتقدم بنا –وفقًا لطرح الكاتب– ولو بقيد شعرة باتجاه اكتشاف معنى الحياة، فإذا كانت الدلالة اللغوية لكلمة “معنى” هي الاعتزام والنية في حالة تعلقها بفاعل ما، فإنه ليس بوسع أحدٍ أن يسبر غور الله ويعلم ماذا كان مقصده من فعل الخلق، ولماذا أوجد أي شيءٍ من الأساس. وبهذا الشكل لا تكون الحياة خاليةً من المعنى – أي نية الله، ولكنها تحمل معنى ما غامضًا ومبهمًا، وعليه فإن “الله” ليس إجابةً مرضيةً للسؤال عن المعنى إذ نعجز عن تبيّن مقاصده؛ والملفت للنظر هنا أنه إذا افترضنا أن الله قد خلق كل ذلك رغبةً في فعل الخلق لذاته، فإن الله في هذه الحالة لا يختلف كثيرًا عن إرادة شوبنهاور العمياء، فيصير الأمر مثيرًا للتوجس بشكلٍ رهيب.
ربما كانت الإجابة تكمن في السؤال
إن السعي الدؤوب للجنس البشري نحو اكتشاف معنى الحياة، يصوغ بشكلٍ أو بآخر معنى الحياة ذاتها، لا زلنا نبحث، نعمل، نقرأ ونتخبط هنا وهناك من أجل الحصول على دلالة لكل ذلك. إننا نرفض بنرجسية محببة ومثيرة للشفقة في آن فكرة أن العالم لا يبالي بنا على الإطلاق، ونسعى لكي نصبغ أكبر قدرٍ ممكن من العالم بلوننا الخاص أملًا في أن نجد في ذلك المعنى. لا زال بحثنا في أوجه لأننا فقط لم نجد بعد إجابةً للسؤال، ذلك أن التسليم بعدم وجود إجابةٍ وبأن الحياة هي محض عبث هو أمر كئيب إلى حدٍ لا يطاق، عوضًا عن ذلك يستسلم البعض لإغراء الاعتراف بالجهل، ليصرحوا بأن للحياة معنى فعلًا لكنهم لا زالوا عاجزين عن بلوغه، ويرقص البعض الآخر على ألحان الوجودية ليتغنوا بأناشيد صياغة معناهم الخاص، وباختصار فإنه “إذا كان العالم مبهمًا، فإن اليأس غير ممكن، فواقع غامض لا بد بالتأكيد أن يترك مجالًا للأمل”*.
السعادة كمرشح قوي لمعنى الحياة
إذا كان معنى الحياة يكمن في “الهدف” المشترك للبشر، فلا يبدو ثمة شك بشأن ماهيته، فالشيء الذي يكافح الجميع من أجل بلوغه هو السعادة*. ويطرح أرسطو في كتابه “الأخلاق النيقوماخية” أن السعادة ليست وسيلة لشيءٍ وراءها كما هو الحال مع النفوذ أو المال، وإنما هي غاية تأسيسية في حد ذاتها فلا يصح أن نسأل بشكلٍ منطقي “لماذا” نسعى لأن نكون سعداء.
والسعادة ليست هي المتعة، فالسعادة الأرسطية هي الفضيلة والتي يمكن بلوغها فقط بالممارسات الاجتماعية:
“يمتاز الإنسان عن غيره بقوة فكره التي بفضلها يتفوق ويحكم جميع أشكال الحياة الأخرى، وبما أن نمو وتطور هذه المقدرة على الفكر مكنته من السيادة، لذلك يمكننا أن نفترض أن تطور هذه المقدرة الفكرية سيحقق له السعادة”. (3)
وبمعنى أوضح فإن السعادة الأرسطية تكمن في إنماء الإنسان لقدراته الفكرية والاجتماعية، واستثمار جهده في تطوير ذاته؛ فالسعادة هنا هي أسلوب حياة –وليست كالمتعة هدفًا يُسعى للوصول إليه- يتعاون لتحقيقه كلٌ من الذاتي والموضوعي، السلام الداخلي واتساق الرغبات، والممارسات الاجتماعية ونشر الفضيلة.
الهوامش: 1- فيرناندوا بيسوا - كتاب اللاطمأنينة 2- تيري إيجلتون - أوهام ما بعد الحداثة 3- ويل ديورانت - قصة الفلسفة ملحوظة: الجمل المتبوعة بالنجمة "*" جملٌ منقولةٌ حرفيًا من كتاب "معنى الحياة - مقدمة قصيرة جدًا".