في سيرة مُلهِم الأجيال: أرسطو
في عام 384 قبل الميلاد وُلد رجل مقدونيّ في دولة كانت تعيش أوج ازدهارها، وبينما كان اليونانيون ينتظرون أن يتخرج من بينهم فيلسوف جديد يتابع مسيرة معلمه أفلاطون ومعلم معلمه سقراط، كان أرسطو قد أعدَّ عِدَّته ليغير العالم!
وُلد أرسطو في مدينة سالونيك المقدونية وكان من حُسنِ طالعه أن والده كان يعمل طبيبًا للملك آنذاك مما قربه جدًا من العائلة الحاكمة، وكان من ترتيب الأقدار أن ذلك الملك هو جد الإسكندر الأكبر.
في الـ 17 من عمره قرَّر ترك مدينته للانتقال إلى أثينا حتى يدرس الفلسفة على يدي أفلاطون، ولكن وبعد 3 سنوات توفي أفلاطون فعاد إلى بلاده قبل أن تأتيه دعوة ليصبح معلم الإسكندر الأكبر. لقد بحث طوال حياته في الفلسفة والسياسة والأدب والفيزياء وعلوم الماورائيات والشعر وعلم الأحياء وغيرها… ومعظم أبحاثه وأقواله لاسيما في الفيزياء استمرت بالانتشار بين أرجاء العالم بدون أي تعديل نحو ما يقارب 1800 سنة تالية!
وتم تداول أقواله وإنتاجاته العلمية والفكرية، في عصر الحضارة الرومانية وعصور الفجر المسيحي والعصر الذهبي العربي-الإسلامي وعصر النهضة الأوروبيّ على أنها حقائق مطلقة غير قابلة للتعديل، بل وقام بعض علماء الدين الإسلامي والمسيحي بتفسير الكتب المقدسة وفقها (خاصة في المواضيع الدينية والفلسفية التي طرحها).
إنجازاته:
في الفلسفة:
أسَّس أرسطو المنهج السقراطي (منهج القياس) وهو منهج يعتمد اختبار صحة قضية بمقارنتها بمثيلاتها، فمثلًا لبحث قضية «هل أرسطو يستطيع الطيران» يجد بالقياس «كل الناس لا تستطيع الطيران، أرسطو إنسان فهو لا يطير»، وقد اعتَمد هذا المنهج للبحث في القضايا الفلسفية والعلمية على حدٍّ سواء.
في الطبيعة:
تحدَّث أرسطو عن العلاقة بين الروح والجسد وعن عالم الأرواح وكيف تختلف الكائنات عن بعضها، وعن أسباب تغيير وتحوُّل المادة من حالة إلى حالة وغيرها، وكان من إنتاجاته نظرية العلل الأربع (العلة المادية والصورية والفعَّالة والنهائية).
في الأديان:
كان أرسطو يؤمن بوجود إله محرك أوَّل ومطلق أول لأبديتيّ الزمان والمكان (اللتان ظن بهما)، وقد تصوَّر له صفات كالقدرة المطلقة والعلم المطلق ونفى عنه صفات التفكير أو التخطيط.
في السياسة:
تبنَّى أرسطو كثيرًا من أفكار أفلاطون حول الدولة المثالية (الفاضلة) والسياسة، وكان يعتقد أن الهدف الأول من وجود السياسة والسلطة هو إيصال البشر نحو الغاية المشتركة وهي السعادة، فكل البشر يبحثون بشكل ما عن السعادة. واتفق مع أفلاطون في مبدأ الفضيلة التي هي الابتعاد عن التطرف في السلوك وإيجاد الحل الوسط، ففضيلة الشجاعة هي الوسط بين الجبن والتهوُّر مثلًا. وكان أرسطو أشد إطلاعًا من أفلاطون على دساتير مختلف الحضارات وتاريخها بسبب مرافقته لحملات الإسكندر المقدوني الذي غزا أجزاء واسعة جدًا من العالم.
في علم الأحياء:
كان أرسطو قد تعلَّم التشريح وعدَّدَ ووصف في كتبه أنواع الكائنات وخصائصها وكان يساعده في ذلك الإسكندر حيث اعتاد أن يرسل له الأصناف الجديدة من الحيوانات والنباتات التي يراها في البلدان التي يغزوها، ويعتبر أرسطو أول من أسس حديقة حيوانات في التاريخ.
في الفيزياء:
عرف أرسطو أنًَ الأرض لابدّ وأن تكون كروية في زمن كان يسود فيه اعتقاد كبير بسطحيتها. واستدل بدليلين وهما: خسوف القمر والذي تسببه وقوع الأرض بين الشمس والقمر حيث ينعكس ظل الأرض على القمر بشكل دائرة و جزء من دائرة، والثاني هو موقع نجم القطب الذي كان يظهر في اليونان فوق الرؤوس وبدا عند زيارته لمصر قريبًا من الأفق. ولكنه قال أنها لا يمكن أنها تدور بل الشمس هي من تدور حولها، واستدل على هذا بتجربة قام فيها بإطلاق سهم من قوسه وهو يركب على متن سفينة تمشي وقال: لو كانت تدور لوجب أن ينزل السهم ورائي لكنه نزل في نفس المكان!. وهذا يرجع إلى عدم معرفته آنذاك بقوانين الحركة ومرجعيتها والتي اكتشفها نيوتن بعد ذلك بقرون. أيضًا كان يعتقد أن الأجسام الأثقل تصل إلى الأرض بشكل أسرع من الأخفض فيما إذا رميناها معًا من نفس الارتفاع.
كان أوَّل من تجرأ على نقد قوانين أرسطو هو غاليليو حين استطاع إثبات أن جميع الأجسام تصل في نفس اللحظة فيما لو أهملنا مقاومة الهواء، وأيضًا بالتأكيد عندما لاحظ أن الأرض تدور والشمس ثابتة ولكن ولأن الكنيسة عبر العصور كانت قد خلطت -كما ذكرنا- بين ما هو ديني وما هو من آثار أرسطو ظنت أن ما يتفوه به غاليليو كفر وتحدٍ للرب وقد لاقى ما لاقاه.
والجدير بالذكر أنَّ الإرث الأرسطي في مختلف المجالات لا يزال يتواجد اليوم في بعض الكتب التراثية التي ترجع للعصور الإسلامية في العالم العربي.
في نهاية حياته هرب أرسطو من الموت المحقق عند سقوط أثينا، وتوفي في غربته في مدينة خلسيس عام 322 قبل الميلاد.