علم الأخلاق النسويّ
رغم وجود نساء فيلسوفات فاعلات منذ قرون، إلاّ أنّ تطوير منظور فلسفي نسويّ لم يحدث إلّا في الآونة الأخيرة؛ لعدّة أسباب، منها: عديد المناظرات التي عمّت نطاقات أوسع حول علم السياسة الجنسي في السنوات الأخيرة؛ أيضًا بسبب التغيّرات الاجتماعية والاقتصادية التي طرأت على وضع المرأة.
يخوض علم الأخلاق النسويّ في الفلسفة الاجتماعية؛ لفهم العلاقات بين الجنسين، بحيث يمكن ويتعيّن عليها أن تتغيّر.
ويضمّ علم الأخلاق النسويّ عددًا من المواضيع، كالأسئلة المُتعلّقة بما يقوم به الناس وبما يتوجّب عليهم عزو قيمة له، وذلك من خلال إشارة خاصة إلى الجنس والعلاقات الجنسية، وعبر توجّه معياري لتحرير المرأة من الإجحاف الجنسي. فضلًا عن ذلك، أثار الفلاسفة النسويّون مسائل العلاقة بين النظرية والتطبيق أو الخبرة المُعاشة: إلى أيّ حدّ تُناظر نظريات الشخصية والمساواة وعلم الأخلاق تنوّع سُبل العيش في العالم المعاصر. أيضًا ثمّة قضايا من قبيل الأدب الإباحي، والاغتصاب، وعلم الأخلاق الطبي (كتقنيات التناسل)، تندرج تحت علم الأخلاق النسويّ وأعمال النسويّين الفلسفية.
يُجادل النسويّون أنّ المفاهيم الأخلاقية المُهيمنة الخاصة بالمساواة والعدالة والحقوق والتحرّر والاستقلالية، إلخ… ليست مُحايدة جنسيًّا، بل صُقلت بدرجة أو بأخرى لصورة ذكوريّة على نحو خاص.
وربّما كان استبعاد النساء ضمنًا أو صراحةً؛ بسبب تحديد مواضيع أو اهتمامات مُهيمنة ذات قيمة ذكورية، مثل: سُبل النظر في النفس، العقل، والأخلاق التي يبدو أنّها تُعزّز قيمًا ذكورية قد تستبعد أو تُثبط عزيمة النساء، إمّا عبر تضمين أنّهن أقلّ قُدرة، أو بتقويم أعمالهنّ في مواضيع بديلة على أنّها أقلّ فلسفية، ما أدى إلى استبعاد النساء ضمن الفلسفة، ضمنًا أو صراحةً.
إنّ إحدى المسائل الرئيسية عند أشياع النسوية تتمثّل في تحديد مدى مُحاباة الفلسفة للمنظور الذكوري؛ حيث كان أغلب مُمارسي الفلسفة في الماضي من الرجال. وربما كان هذا الارتباط مُجرّد صُدفة تاريخية، وهنا يُشير النسويّون إلى أنّ الطريقة التي يبحث بها الفلاسفة في تمييزات العقل ـ الجسم، النظام ـ الفوضى، هي تمييزات تعكس أو تفترض غالبًا الاختلاف الجنسي، بحيث تربط بين الذكورة والعقل والنظام.
وقد جادل البعض في الماضي بأن الجنس (البيولوجيا) يخلق أو يُشكّل الجنس الثقافي أو (مفاهيم الاختلاف الثقافية). وهناك مَن يعترض على هذا المذهب إذا كان يستلزم تصوّرًا حتميًّا للهوية لا يُتيح فرص تغيير إدراك الاختلاف، أو يعزو سُبلًا في التفكير إلى الرجال والنساء. ولا يُشكّل الاختلاف إشكالية بالضرورة، بَيْد أنّه قد يمنح قيمة غير متساوية بحيث يعتبر النساء “الجنس الأضعف”. وثمّة صيغة أكثر اعتدالًا لهذه المُحاجّة، اقترحها مفكّرون أمثال مل ودي بوفوار، تسمح بإسهام الاختلاف البيولوجي في إدراك الاختلاف دون أن تجعل منه العامل الوحيد، ما يحول دون كونه حتميًّا.
بحسب الاتجاه النسوي، تتطلّب المساواة الجنسية مثلًا: مفهومًا في “المساواة” يدعم واقع الفروق الجنسية ـ “العمى الجنسي”، بوصفه كامنًا في بعض سياسات المساواة في الفرص ـ ليس ملائمًا. لذا، يتوجّب إعادة فهم فكرة “الاستقلالية” بحيث تأخذ في الاعتبار ارتباطنا بعضًا ببعض.
عمومًا، تفترض الفلسفة النسويّة، بوجه عام، أنّ مسألة الاختلاف الجنسي مسألة فلسفية على أحد المستويات، ووفق نقطة الانطلاق، تنتج سُبلًا مختلفة في التنظير بخصوص هذه المسألة. ورغم أنّ النساء ينزعن إلى الانشغال بهذا الأمر، إلا أنّه ليست كلّ الفيلسوفات أشياعًا للفلسفة النسويّة ـ رغم أنّ أعمالهن قد تشتمل على تضمينات نسويّة.
ويقترح نسويّون آخرون، من أمثال كارول جيليجان، أنّ الاختلاف مهمّ كونه يُفضي إلى خبرات مختلفة تمامًا بالعالم. فخبرة النساء تتّسم أساسًا بالرعاية، الحضانة، والأمومة في الماضي. وهكذا اقترحوا أنّه بمقدورها أن تُشكّل قاعدة لنموذج مختلف في العلاقات الأخلاقية “علم أخلاق الرعاية”.
كما حاول نسويّون آخرون إعادة تقويم الاختلاف دون تعزيز ارتباطات الجنس ـ الجنس الثقافي، حيث جادلوا بأنّ الفروق الرمزية والخبراتية الموجودة أصلًا قد تُوظّف في إثراء مفاهيم راهنة في الشخصية أو الهوية، علم الأخلاق، والابستمولوجيا. كما ركن النسويّون الفرنسيون إلى البنيوية والتحليل النفسي بوصفها مصادر لطرح تصوّرات في الجنسية، الهوية، والاختلاف. وعبر هذا النهج، يمكن للاختلاف أن يُفضي إلى التعدّدية دون خسارة في التجسيد أو في خصوصية المرأة.
وهنا، نكون قد وصلنا إلى وجوب إجراء مُفاوضات دقيقة ومُركّبة، كما في فروع أخرى من الفلسفة النسوية. أولًا: يُمكن إعادة تقويم ما يُميّز حياة المرأة، ويُشوّه سمعتها. مثلًا: عادةً ما تُعتبر القدرة على الرعاية، أو النزوع شطر تقديم حبّ لا شروط له، خارج نطاق الحياة الأخلاقية الحقّة. ثانيًا: ترقب النسويّة، بطريقة نقدية، العمليات الاجتماعية التي جعلت قدرات اجتماعية مثل الرعاية ترتبط بجنس أكثر من ارتباطها بآخر، ما يعني أنه يتوجّب تأسيس منظور نُحدّد وفقه “السجايا النسويّة” التي يتعيّن استبعادها، وتلك التي يتعيّن إعادة تقويمها.
وأخيرًا، تجب مواجهة مسألة ما إذا كنّا نتطلّع إلى مستقبل توجد فيه مجموعة مشتركة من المفاهيم الأخلاقية، تسري دون اختلاف على الرجال والنساء، أو إلى مستقبل قد تزدهر فيه الفروق الأخلاقية ـ عبر مسارات جنسية واجتماعية أخرى..
مراجع -تد هوندرتش، دليل أكسفورد للفلسفة، ت/ نجيب الحصادي، المكتب الوطني للبحث والتطوير، طرابلس، ليبيا، ط1، 2005م.
قد يعجبك أيضًا: الحركة النسوية: رحلة في 5 كتب